Monday 18 April 2011

مع المخلص...نحو الصليب



مع المــخــلــص ... نحـــو الـــصلــيـــب !
تأملات لآباء الكنيسة و الأب متى المسكين

 


أسبوع  الآلام ، أسبوع  العبور !

أو أسبوع البصخة ، و البصخة هى العبور أو الفصح ، مأخوذة من طقس خروف الفصح الذى بدمه عبر الملاك المُهلك على البيوت و لم يؤذها ( خر 12 ) ، إذاً .. فأسبوع البصخة ليس أسبوع آلام عقيمة بلا ثمر أو هدف ، أو آلام وحسب ،بل هى آلام للعبور من الموت إلى الحياة فى يسوع المسيح .
في هذا الأسبوع سنسمع مراراً و تكراراً كيف يكشف الرب لتلاميذه عن خطة حبه السرية ، التى صمم أن ينفذها بنفسه طواعية !
" ها نحن صاعدون إلى أورشاليم و ابن الإنسان يُسلم إلى رؤساء الكهنة و الكتبة فيحكمون عليه بالموت ، و يسلمونه إلى الأمم .." ( مت 20 : 18 ،19 ) ، لقد حزن التلاميذ ، و بعضهم استنكر هذه الخطة لأنه لم يدرك عظمتها ! لكن الرب كان يضعها أمام عينه كهدف لتجسده و  كل حياته و أعماله التى صنعها على أرضنا !
هذه الخطة، و إن كان بدايتها الآلام و الأحزان ، فإن نهايتها قيامة و فرح و نور الصعود ، لابد أن يكون أسبوع الآلام أسبوعاً خالداً فى سنتنا هذه ، ننال به حياة أقوى و أفضل ، فما امجدها آلاماً و ما أعظمه أسبوعاً فصحياً ، ذلك الذى ننال به هذا العبور !
+ + + + + + + + + + + +

هوشعــنا ...  خــلـــصـــنا !!
كانت أُورشليم قد اكتظَّت بالآتين إليها من الشتات من كل أجناس العالم ، وكانت أخبار إقامة لعازر من الموت قد ملأت أُورشليم في كل أرجائها، وأحدثت حماساً شديداً للشعب نحو المسيح.
 وبمجرَّد أن انقضى السبت اندفعت الجموع إلى بيت عنيا لينظروا يسوع وأيضاً لعازر الذي أقامه" فَعَلِمَ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ الْيَهُودِ أَنَّهُ هُنَاكَ، فَجَاءُوا لَيْسَ لأَجْلِ يَسُوعَ فَقَطْ، بَلْ لِيَنْظُرُوا أَيْضًا لِعَازَرَ الَّذِي أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ " (يو 12 : 9 )
لكن موقف الرب يسوع المسيح هنا كان غير معتاد فلقد رفض المسيح طوال أيام حياته كل مظاهر المجد و التكريم ، و تحاشى السير فى المواكب و الظهرو فى الأعياد رسمياً ، أما هنا فلأول مرة و لآخر مرة فى حياته يرتب بنفسه موكب الظفر و المسيرة الرسمية للدخول إلى أورشاليم كملك ، حتى اندهش منه كثيرون و ضج منه رؤسائ الكهنة و الفريسيون ، نعم ... فقد آن الأوان فعلاً أن يعلم العالم أنه هو المسيا الملك الفادى ، المخلص !
هذه أغصان الزيتون رمز السلام ، تشير إلى المسيا "شيلون" ، رجل السلام !
و هذه هى أغضان النخيل تشير إلى أقواس الظفر الملوكى الإلهى !
و هذه أصوات " أوصنا فى الأعالى " تشير إلى الخلاص و الفداء الإلهى !
و بهذا الموكب المزدحم بالمعانى العميقة و الأسرار ، ينتهى تاريخ إسرائيل الزمنى ، ليبدأ ملكوت المسيا الذى فيه تتحقق النبوات جميعاً .
و لعل فى الهتافات التى قيلت فى ذلك اليوم و سجلها لنا البشيرون توضيحاً لكل هذه التحقيقات التى كملت بدخول المسيح إلى مدينته العظمى ... أورشليم !
+ "أُوصَنَّا لابْنِ دَاوُدَ! مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ! أُوصَنَّا فِي الأَعَالِي!" (مت 21 : 9)
+ "أُوصَنَّا! مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ! مُبَارَكَةٌ مَمْلَكَةُ أَبِينَا دَاوُدَ الآتِيَةُ بِاسْمِ الرَّبِّ! "( مر 11 : 10 )
 +"مُبَارَكٌ الْمَلِكُ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ! سَلاَمٌ فِي السَّمَاءِ وَمَجْدٌ فِي الأَعَالِي! " ( لو 19 : 38  )
و العجيب أن المسيح كان موافقاً على كل ما كانوا يهتفون به حتى بلغ هتافهم عنان السماء ، بعكس كل مواقفة السابقة التى كان يحرم فيها أى هتاف له ، بل لما طالبه الفريسون أن يسكت الهاتفين قال لهم " إن سكت هؤلاء ، فالحجارة تصرخ " ( لو 19 : 40 )
إذن ، فكل ما هتف به الجموع كان هتافاً نبوياً من عمل الروح القدس الذى كان ينطق فى أفواة الأطفال و الرُضَّع !! فالمسيح قد جاء ليعلن أنه هو المخلص ، الذى يقتحم مدينته أورشليم ، الذى هى قلب كل خاطىء ، و يحوله إلى مكان كله فرح و تهليل و سعادة، حيث لا مكان للشيطان و جنوده !

أردت  و  لم  تــريــدوا  !
كَمْ مَرَّةٍ أَرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَ أَوْلاَدَكِ كَمَا تَجْمَعُ الدَّجَاجَةُ فِرَاخَهَا تَحْتَ جَنَاحَيْهَا، وَلَمْ تُرِيدُوا! 35هُوَذَا بَيْتُكُمْ يُتْرَكُ لَكُمْ خَرَابًا! ( لو 13 : 34 ) عوض أن يتجمع إلى صدره و تحت ستر جناحيه هؤلاء الأولاد الأشقياء بنو إسرائيل ، تركوه " تركونى أنا الحبيب مثل ميت مرزول" ( مز 37 : 21 ، 22 حسب الترجمة القبطية ) و ذهبوا وراء شهوات أنفسهم .
و لكن الدعوة مجدده لك هنا أيها الإنسان ، فالجناحان الحانيان مفرودان على الصليب ، و الجنب الجريح يسيل بدم الشفاء و الفداء ، المسيح لازال ينادى خرافه و يرسل صوته مبكراً كل يوم ليجمعهم تحت ظل جناحيه حتى يعبر الشر ... و هو لا ينادى فقط ، بل يجرى وراء الخروف الضال حتى يعيده إليه ، و لكن احذر ، فهذا لا يحدث إلى ما لانهاية .
ففى لحظة نلقى جزاء عنادنا ، حينما يتوقف الرب عن النداء و عن الجرى و عن النوسل ، ليقول للنفوس الجاهلة " كم مرة أردت و لم تريدوا " ، يقولها الرب و يبكى على النفس التى " لم تعرف زمان افتدقادها " ( لو 19 : 44 ) إذ يكون العدو قد اقتنصها و وقعت فى شباكه !

+ + + + + + + + + + + +

الشـــجــرة  الــتـى  بلا   تــــين !
موضوع شجرة التين يحتل جزءاً هاماً في هذه الأيام الأخيرة، وخاصة بعد أن بكى المسيح أُورشليم ورثاها وتنبَّأ بخرابها. فالمسيح وهو ذاهب من بيت عنيا إلى أُورشليم في الصباح جاع، فنظر شجرة تين من بعيد مورقة وكأنها مثمرة. فذهب نحوها ليأكل من تينها، فلمَّا وجدها غير مثمرة لعنها: لا يأكل أحد منكِ ثمراً بعد إلى الأبد " (مر 14:11) ، فيبست التينة في الحال. وقد كان. فقد مرَّ التلاميذ عليها في الغد فوجدوها أنها قد ذبلت. فهنا في الحقيقة قد حدثت معجزة !
لكن كل معجزات المسيح السابقة كانت بدافع المحبة وذاتَ ثمرٍ للمحبة واضح. فلماذا - إذن - هذه المعجزة وكأنها تأديب للتينة التى هى خليقة الله التى لا تحس ولا تشعر وبلا ذنب ؟. فهي بهذا تختلف كثيراً جداً عن باقي أعمال المسيح الأخرى، لأنه لم يأتِ ليهدم بل ليكمِّل ويشفي ويحيي!
أليس في هذا العمل تعبير عن مظهر الأُمة اليهودية التي تبدو كشجرة التين الخضراء الجميلة من الخارج، وهي من الداخل عفنة شبه ميتة و غير مثمرة البتة! عَمِلَ فيها صاحب الكرم ( الذى هو المسيح ) المستحيل ،  لثلاث سنوات مضت لكي تفْلَح فلم تفْلَح.
لقد عُرفت شجرة التين ـ فى العهد القديم ـ بين الأشجار الطيبة أنها تكني عن الأُمة اليهودية، وهذه الأُمة اليهودية رفعت يدها على مسيحها و خالقها و سعت لموته و إهانته و قتله فحكمت على نفسها بالهلاك .
لقد تركت إلهها مصدر الوجود والحياة، فحكمت على نفسها - قبل أن تحكم على المسيح  بالفناءو الموت . فالمسيح و هو يلعن شجرة التين فهو يعلن موت أمة اليهود ، بل و كل إنسان خاطىء يعمل فيه الرب و لا يستجسب ، أنظر يا أخى القارىء ، فليس اليهود فقط هم من تآمروا لقتل ربنا و أهانوه و صلبوه ، بل كل إنسان يقوم بهذا الأفعال بخطاياه ، كما قال مُعلمنا بولس عن الخطاة الذين سقطوا "إِذْ هُمْ يَصْلِبُونَ لأَنْفُسِهِمِ ابْنَ اللهِ ثَانِيَةً وَيُشَهِّرُونَهُ " (عب 6 :6).
إذاً فعندما نقرأ عن هذا اللعن لا نظن أنه موجه إلى اليهود ـ فقط ـ بل تحذير لأنفسنا أيضاً !


المسيَّـــا  يُـــطــهر  بــيــت  أبــيــه !
"و وجد في الهيكل الذين كانوا يبيعون بقراً وغنماً وحماماً، والصَّيارف جلوساً. فصنع سوطاً من حبال وطرد الجميع من الهيكل، الغنم والبقر، وكبَّ دراهم الصيارف وقلَّب موائدهم. وقال لباعة الحمام: ارفعوا هذه من ههنا. لا تجعلوا بيت أبي بيت تجارة." (يو 2 : 14 ـ 16)
  لقد تركهم الرب يدنسون هيكله تحت ناظريه لمده ثلاث سنوات منذ بدء خدمته و لم يحرك ساكناً ، بل و لم يذكر لنا الإنجيل المقدس أنه تفوَّه بكلمة واحدة يبدى فيها اعتراضه على هذا الذى يحدث فى بيته ، فلماذا الآن بالذات و هو داخل لُيذبح نيابة عن الجميع ، يخرج الباعة الصيارفة و كل الأشياء و الذبائح و الحيوانات المستخدمة فى العبادة الموسوية ؟

+ أولاً : لأنه قد  جاء ليعلن أنه هو الحق التى تعبر عنه الرموز المستخدمة فى عبادة العهد القديم ، فمجيئه يلغى كل تلك الرموز و الذبائح و التطهيرات جميعاً : فأمر أن تحمل تلك الأشياء المرتبطة بالناموس خارجاً حتى لو كانت تختص بالذبائح و محرقة البخور ، و أن هذا هو ما يعنيه بالتأكيد انتهار (المسيح) للباعة و طردهم من الأروقة المقدسة حينما كانوا يبيعون ما كان لازماً للذبائح  فهو قد جاء ليعلن انتهاء ظلال الناموس لكى يلمع الحق و يظهر الجمال و الطريق المسيحى و أمجاد الحياة النقية و الرائحة العقلية الحلوة التى للعبادة بالروح و الحق .. لأن الله رفض ذبائح اليهود لذلك طردهم من الأماكن المقدسة و يجعلهم خارج الحظيرة القديسين المقدسة .
+ تطهير الهيكل كوسيلة لإعلان ابن الله عن نفسه كرب الهيكل : و كونه المخلص و رب الكل فقد أظهر مجده لمنفعتهم حتى يؤمنوا به فبسبب أنه هو الرب فإنه يملك سلطاناً على الهيكل فهو يعتنى به ، و أيضاً يدعو الله أباه و ذلك ليعبدوه على انه هو مع الله الآب رب الهيكل .
+ و يتأكد سلطان المسيح على هيكل الآب لكونه هو رئيس الكهنة الأعظم الذى سيقدم نفسه كذبيحة من أجل خلاص الجميع :" أقسم الرب و لن يندم أنك انت هو الكاهن الى الأبد على طقس ملكيصادق" (مز 109 :4 س).. فأصل و بداءة وجود اسرائيل ذاته الذى بارك ابراهيم أبو الآباء أى تبارك بواسطة ملكيصادق لأن ملكيصادق و كهنوته كانا مثالاً للمسيح مخلصنا جميعاً الذى صار رئيس كهنتنا و رسول إعترافنا الذى يقرب الى الله الآب الذين يؤمنون به ليس عن طريق ذبائح دموية و تقدمات بخور بل يكملهم بالقداسة بواسطة خدمة اعلى من الناموس "لَنَا رَئِيسَ كَهَنَةٍ مِثْلَ هذَا ،قَدْ جَلَسَ فِي يَمِينِ عَرْشِ الْعَظَمَةِ فِي السَّمَاوَاتِ خَادِمًا لِلأَقْدَاسِ وَالْمَسْكَنِ الْحَقِيقِيِّ الَّذِي نَصَبَهُ الرَّبُّ لاَ إِنْسَانٌ " (عب 8 :1).. فهو لم يختلس سلطات الكهنوت اللاوى بل هو رئيس الكهنة الذى أقام هذا الكهنوت .
لذلك فتطهير الهيكل كان بمثابة إعلان آخر للمسيح عن نفسه كرب له سلطان على الهيكل ، و كرئيس الكهنة الأعظم ، و يضاف هذا إلى إعلانه عن نفسه كملك فى دخوله لأورشليم ، حتى يأتى الصليب و يعلن نفسه كمخلص العالم كله !


+ + + + + + + + + + + +

طَالِبُو  نَفْسِي  نَصَبُوا  شَرَكًا ( مز 38 : 12 )
لم يكن دخول المسيح أُورشليم بموكبه الملكي الظافر وآلاف الهتافات بهوشعنا يمرُّ بسلام على الفرِّيسيين، ومعه الإحساس بالمرارة التي خلَّفتها إقامة لعازر من الموت جهاراً وإشاعة الخبر في كل البلاد. وبلغ غيظهم القمة لمَّا رأوه يطرد الباعة من الهيكل بقوة وسلطان مثير. فقد تحرَّك الجزء الأكثر انفعالاً في مجمع اليهود ، السنهدريم ، لوضع نهاية حتمية للمسيح، بل أن الرب نفسه تعمد القيام بهذه الأفعال لكى يسرعوا هم أيضاً بالعمل الذى خططوا له فى السر ! و ها هى قد بدأت تحركاتهم و مؤامراتهم :
السؤال الأُول: بأي سلطان تفعل هذا؟ ومَنْ أعطاك هذا السلطان؟ " ( مت 21 : 23 )
السؤال الثاني: "أيجوز أن نعطي جزية لقيصر أم لا؟ نعطي أم لا نعطي؟ " ( مر 12 : 14)
السؤال الثالث: "في القيامة لمَنْ تكون زوجة؟" ( مت 22 : 28 )
السؤال الرابع:" أية وصية هي أول الكل؟" ( مر 12 : 32 )
السؤال الخامس: ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية ؟ ( مر 10 : 25 )


العــــذارى  المتألمـــــــات !!
كان يوم الثلاثاء من الأسبوع الأخير لرب المجد على الأرض ملىء بالتعاليم ، و لكن قمة و جوهر هذه التعاليم ، تلك التى قالها ربنا فى مثله عن العذارى العشر ، الحكيمات و الجاهلات !
يبدو هنا أن الرب يؤكد على حقيقة مجيئه الثانى ، لكن ما غرضه فى تقديم هذا التعاليم و هو فى قمة آلامه الخلاصية من أجلنا ، و فى قمة عناؤه النفسى من كثرة المؤامرات التى تحاك ضده فى الخفاء ، و فى العلن أيضاً ؟
إنه يريد أن يعطى تعزية للمتألمين و المجربين ، فهو قد أعطانا أن نكون مشتركين فى آلامه ، و متشبهين بموته ( فى 3 : 10 ) ، و ها هو يطمئنا أنه لن يتركنا هكذا إلى الأبد ، فلابد أن يأتى يوماً ما لينقذنا و ياخذنا و يريحنا من آلامنا و أتعابنا و يمسح كل دمعة من عيوننا !
لكنه سيجىء فى منتصف الليل ، بعد انتظار طويل ، بعدما يتأكد من صبرنا و احتمالنا و محبتنا له
إن مجد المستعدين الذين احتملوا هذه الآلام مع الرب،  سيبدأ عندما يظهر العريس ، لأن وجهه سيشرق لهم فيجعل وجوههم تضىء بالمجد ، حينئذ سيكونون معه حيث يكون هو ، لن يفرقه عنهم لا زمان أو مكان ، فعندما يظهر سيكونون معه فى الحال و لن يفصلهم عنه شىء " أيها الآب ، أريد أن هؤلاء الذين أعطيتنى يكونون معى حيث أكون أنا لينظروا مجدى الذى أعطيتنى " (يو 17 : 24 )
نعم سيقود المسيح الذين اشتركوا معه فى آلامه ، و صبروا و احتملوا و خرجوا من ضيقة هذا العالم منتصرين إلى السعادة الأبدية ، سيقودهم بنفسه لكى يشتركوا معه فى مجده ، لأنهم ذاقوا آلامه و غسلوا خطاياهم بدمه ، و استحقوا أن يعيشوا معه إلى الأبد ، و مصدر سعادتهم أن يروا وجهه كل حين و يفرحوا معه فى عرسه الأبدى !

+ + + + + + + + + + + +

محـــــبة ... و محـــــبة !
فى يوم الأربعاء من البصخة المقدسة ، تضع لنا الكنيسة فى قراءاتها ، موقفين متشابهين عن محبة الإنسان ليسوع المُخلص ، فإذا كانت الكنيسة تحدثنا فى كل أسبوع الآلام عن محبة الرب لنا حتى أنه احتمل الألم من أجلنا ، فهى فى هذا اليوم يظهر المقابل الذى يقدمه الإنسان لمخلصه !
تقدمت المرأة الخاطئة بقارورة الطيب كثير الثمن و سكبته على رجلى المسيح و مزجته بدموعها و مسحته بشعر رأسها ، فقال عنها المسيح أنها أحبت كثيراً لذلك غُفرت لها خطاياها الكثيرة .
و أيصاً تقدمت مريم أخت لعازر بقارورة طيب كثير الثمن و دهنت به قدمى المسيح و مسحت قدميه بشعر رأسها فقال عنها انها كفنت بالطيب جسده  !
ما أروع الحب الأول فقد استطاع أن يٌكفَّر عن كل الذنوب و الخطايا السابقة !
و ما أروع هذا الحب الذى استطاع أن يُكفن جسد المسيح ذاته ، إنه لم يُسمع قط أن هناك جسد قد تم تكفينه قبل الموت ، و لكن هذا هو جسد الرب يسوع الذى لن يرى فساداً " لن تدع قدوسك يرى فساداً " ( أع 13 : 35 ) ، و كون المسيح يعتبر سكب الطيب على قدميه كأنه تكفين ، فإنه يكشف لنا أنه كان واضعاً الموت على الصليب أمامه كهدف فى كل فعل يقوم به ، أو يسمح بأن يقوم به الإنسان من أجله !
  الحب الأول عاد بالخير على صاحبته ، و الحب الثانى كان للمسيح بلا مقابل !
ما أمجد الحب الخالص الذى بلا مقابل و بلا ثمن !
من هى مريم التى قدمت قارورة طيب بثلاثمائة دينار ؟ و لم تكن ملكة أو أميرة أو حتى ذات أموال بل هى إمرأة فقيرة ، قد جمعت كل أموالها و اشترت زجاجة طيب ..
إنه جنون المحجبة الذى هزأ به يهوذا اللص الخائن ، و قال عنه أنه اتلاف ، أما المسيح فمدحه جداً يهوذا قدره بالمال و ثمنه بالأسعار أما المسيح فقدره بالمحبة التى وجدها تفوق الأرض و ما عليها .
ياترى .. ماذا ستقدم أنت للمسيح فى ذكرى آلامه ؟؟؟

+ + + + + + + + + + + +

المُعــلم  يغســل  أرجــل  خــاصــته :
قصة غسيل أرجل التلاميذ في العشاء الأخير لا تأتي هامشية، بل تقع في صميم الإحتفال بالفصح المقدَّس، إذ تقول الرواية وهم جالسون للعشاء:
"قام عن العشاء، وخلع ثيابه (كما يفعل الخادم والعبد)، وأخذ منشفة واتَّزر بها - أي ربط وسطه كما يفعل الخادم - ثم صبَّ ماءً في مِغْسَلٍ، وابتدأ يغسل أرجل التلاميذ (وهم جلوس أمامه) ويمسحها بالمنشفة التي كان مُتَّزراً بها." (يو 13: 4و5) .
اندهش التلاميذ للمنظر وأخذتهم الحيرة كيف يتصرَّفون! لأن المسيح في مقام الكرامة العليا بينهم، فأن يقوم بعمل وضيع هو عمل الخدم والعبيد، أمر أربك مشاعرهم، ولكن لمخافتهم أغلقوا أفواههم ، وتبادلوا نظرات الحيرة والخوف، وجمدوا في أماكنهم دون حركة. غير أن بطرس كالعادة انفجر بالتذمُّر: » لن تغسل رجليَّ أبداً «(يو 8:13). ولكن في هدوء الأطفال ووداعة الحملان ردَّ عليه المُخلص و قال: » إن كنت لا أغسلك فليس لك معي نصيب «! فأنا أغسل عنك كبرياءك وادِّعاءك بالأولوية، لتصير مثلي عبداً ، لكى بعد ذلك تملك معي في مجدي ويكون لك معي نصيب! حتى يتعلَّم بطرس ومعه بقية التلاميذ العِبْرة من ذلك ، أن يعمل كعمل المسيح، أي ينزل إلى مستوى العبد، إن هو أراد أن يكون له نصيب مع المسيح العبد الذي يخدم البشر وهو الإله.
وبالرغم من أن بطرس لم يفهم إلاَّ التهديد فقط فَقَبِلَ، بل طلب غسيل يديه ورأسه أيضاً. لكن المسيح أقنعه أن الذي اغتسل (اعتمد) فهو طاهر لا يحتاج إلاَّ لغسل رجليه (للإتضاع).

+ + + + + + + + + + + +

الجــســد المــقــدس و الــدم الـــكريم !
فى هذا اليوم .. جلس يسوع مع تلاميذه وكشف لهم عن سر العهد الجديد فى مغفرة الخطايا و نوال الحياة الأبدية ، لقد أسس لهم سر الإفخارستيا ، و هو حضور جسده و دمه فى الخبز و الخمر الذى بين إيديهم ، لم يؤسس الرب هذا السر فى بداية خدمته، أو بعد المعمودية مباشرة و لكن أخَّره فى "الليلة التى أُسلم فيها" فحينما انتهى من كل تعاليمه و أكمل كل حبه و سلم لتلاميذه كل أسرار علاقته بالآب ، و عندما أحس بدنو ساعة موته ، أعطى تلاميذه سر من أعظم أسرار الوجود الإنسانى ، جسد الإله مكسوراً من أجلنا لكى نأكله و نحيا به ، و دمه الكريم مسفوكاً من أجل خطايانا لكى ننال به الغفران و التطهير !

إنه هو جسده و دمه بالحقيقة ، و ليس مجرد رمز أو خيال :
[ و لكونه هو نفسه تكلم و قال عن الخبز " هذا هو جسدى" فمن يجسر بعد أن يرتاب ؟ ، و لكونه هو نفسه ثبت و قال "هذا هو دم " ، فمن يتوهم أن يقول أنه ليس دمه ، لأن الذى حول وقتاً ما الماء إلى خمر فى قانا الجليل بإشارته ، أفليس مصدقاً إذا قال أنه حول الخمر إلى دم ؟]
القديس كيرلس الأورشليمى.
[ كم منكم يقول الآن ليتنى كنت أرى هيئة الرب و شكله و ملابسه ، أنت تنظره و تلمسه و تأكله هو نفسه ، و أنت تشتهى أن عترى ملابسه ، مع أنه يعطيك ذاته لا لتراه فقط بل لتلمسه أيضاً و لتأكله و لتأخذه فى داخلك ]

و قد أعطاه لنا الرب للخلود و الحياة الأبدية :
قال القديس بولس الرسول : " الذى فيه لنا الفداء بدمه " ( أف 1 : 7 )
قال القديس يوحنا اللاهوتى : " دم يسوع المسيح ابنه يطهرنا من كل خطية " ( 1 يو 1 : 7 )
[ إثبتوا أيها الإخوة فى الإيمان بيسوع المسيح ، مقسمين نفس الخبز الواجد ، الذى هو دواء الخلود ، و ترياق عدم الموت ]
القديس أغناطيوس الأنطاكى.
[ عندما ترى المائدة معدة قدامك قل لنفسك : من أجل جسده لا أعود أكون تراباً و رماداً ، و لا أكون سجيناُ بل حراً ، من أجل هذا الجسد أترجى السماء و و أتقبل الخيرات السماوية ، و الحياة الخالدة ، و نصيب الملائكة ، و المناجاة مع المسيح ، لقد سُمر هذا الجسد بالمسامير و جلد ، و لا يعود يقدر عليه الموت ، إنه الجسد الذى تخصب بالدماء و طعن ، و منه خرج الينبوعان المخلصان للعالم ، ينبوع الدم و ينبوع الماء ]
القديس يوحنا ذهبى الفم .
[ ثم أعطانا دواء آخر لمن اخطأ بعد تنقية المعمودية و تدنس بالذنوب ، و هو القربان الذى يغفر الخطايا لمن تقرب إليه بالإيمان به أنه جسد المسيح و دمه .. حقاً أعطانا إياه لمغفرة خطايانا ]
[ إن اتحادنا بالمسيح ، بتناولنا من جسده ومده .. أسمى من كل اتحاد ! ]
القديس أثناسيوس الرسولى .
 [ إن تناولت منه قليلاً ، أو شربت منه كثيراُ ، فإنك تنال نعمة الفداء عينها كامله بهذا المقدار ]
القديس امبروسيوس
 [ هب لأجسادنا نمواً فى النقاوة ، و لنفوسنا نمواً فى الفهم و المعرفة خلال تناولنا الجسد و الدم ]
القديس سيرابيون
لأ إن جسد الرب يتحد بجسدنا على نحو لا يلفظ به ، و دمه أيضاً الطاهر يصب فى شرايننا ، و هو كله بصلاحة الأقصى يدخل فينا ]
القديس مار إفرام السريانى.
بالإفخارستيا  نصير فى  السماء  عينها :
 [مادمنا قد صرنا سمائيين ، و حصلنا على ذبيحه كهذه فلنخف ، لأنه لا يليق بنا أن نستمر فى زحفنا على الأرض ، فإنه يستطيع من يريد منا ألا يكون على الأرض من الآن، إذ نقترب من الله نصير فى السماء ، بل ماذا أريد من السماء إذا كنت أريد رب السماء و صرت أنا نفسى سماء !]                  القديس يوحنا ذهبى الفم

+ + + + + + + + + + + +

أعــبر عــنى هــذه  الـــكـــأس !
إن أعنف صلاة سُمع بها لدى كل البشر لا تبلغ قوة صلاة المسيح فى بستان جثسيماني ، فمحور الصلاة الحزينة الكئيبة الضاغطة على النفس في جثسيماني كان شيئاً واحداً وهو الكأس؟ هذا هو الذي أفزع المسيح وأحسَّ أنه غير قادر على شربه حتى ولو كان بيد الآب!! طلب ثلاث مرات أن يجوز عنه هذا الكأس وكان طلبه مشفوعاً بدموع وتوسلات ونفس حزينة حتى الموت.
 هذا هو الكأس ، إنه كل خطايا البشرية وفضائح بني الإنسان التي سُجِّلت والتي لم تُسجَّل، حملها كلها ليموت بها كلها من أجل الخطاة. هذه هي التي كسرت نفسه قبل أن ينكسر الجسد على الصليب، وأحزنته حزن الموت أعمق من الموت الذي ماته على الصليب ألف مرَّة!
لكنه أطاع أبيه .. و شرب هذا الكأس أيضاً !
هذه الصلاة التى كانت فى البستان ؟؟ هل ياترى يتذكر الإنسان البستان ؟؟ إنه يمثل الفردوس الأول الذى طُرد منه أبونا آدم ، لكن بالمسيح فيه تمت عودتنا الى الحالة الإنسانية القديمة الأصلية فى البستان بدأت متاعب البشرية و لكن فيه أيضاّ بدأت آلام المسيح التى اتت بالنجاه من كل الشرور التى حدثت لنا لا سيما فى القديم .


أنا هـــــــو !
لما سلم المسيح نفسه لهؤلاء القتله ، عندها قال لهم " أنا هو " ، كان هذا ليتعلموا أن آلامه لم تحدث له بدون إرادته الخاصة فهو سلم نفسه لكى يتألم عارفاً تماماً أن آلامه على الصليب هى لخلاص العالم ، و قد أكد على سلطانه مراراً و تكراراً ، فاليهود حاولوا رجمه من قبل لكنه هرب منهم بقوته الإلهيه و صار غير مرئى ، لأنه لم يكن يريد أن يتألم لأن الوقت الخاص بآلامه لم يحن بعد و لكن لما حان الوقت ذهب و سهل للخائن يهوذا أن يجده فى البستان الذى كان معتاداً أن يجتمع فيه مع تلاميذه .


لمــاذا يـــا بــطـــرس ؟
ليلة الجمعة العظيمة ، ينشغل الناس بسؤال غالباً ما يحيرهم ، و هو لماذا أنكر بطرس مُعلمه ؟ ، و يقدم لنا القديس كيرلس الكبير عمود الدين ـ ذو الشخصية الرقيقة المُحبة ، تفسيراً من نوع خاص ، فبالرغن من أنه يقر بخطية بطرس ، لكنه يقدم لنا مُبرراً عن سبب هذه الخطية !
نعم ... فبطرس كان يحب المسيح ، وهو لم يقف خارج الدار لأن حرارة غيرته من نحو المسيح لم تكن قد بردت ، و لأجل عدم رغبته فى أن ينفصل عن المسيح الذى أحبه أضطر أن يجارى العبيد الحاضرين معه لئلا يطرد خارجاً حيث أعطى إنطباعاً أنه أحد المعروفين فى دار رئيس الكهنة رغم أنه مثقل بالحزن  و يحمل ثقيل الآلام فى قلبه و لكن لا يظهر حزنه لكى لا يطرد خارجاً و تغلق الأبواب و تحول بينه و بين من يحبه !
أما عن سبب الإنكار فلم يكن بطرس خائفاً من القبض عليه و لا تردد فى الإعتراف و إنما ظن أنه إذا راوغ من السؤال فإنه يستطيع البقاء داخل الباب ، و هو يريد أن يبقى ليتابع ما يحدث للمسيح مهما كان الأمر ، و لذلك أنكر رغم ما فى الإنكار من شر ، و هكذا نبع تعديه و انكاره من محبة خاطئة فانكاره أساسه محبة الله و لم يكن مجرد جبن و خوف مفاجىء أو عن مفاضلة بين الإنكار و خطر الاعتراف ، لذلك فإن انكار بطرس شهادة لرغبته الحارة فى أن يبقى مع المسيح !

لكن لا يجب أن ننسى أن خطيته هذه كانت بسبب ضعف الطبيعة البشرية لأن المسيح لم يكن قد قام بعد من الأموات و لم يكن الموت قد أبيد بعد و لا أزيل الفساد و أن مجابهة الموت كانت لا تزال أمر يفوق احتمال البشر ، فهو قد أدين من ضميره الشخصى الذى تبرهن ببكاءه علامة لتوبته ، بكى بمرارة ، نهض بشجاعة مرة أخرى و لم يفقد الهدف لأنه استمر على نفس الوضع الذى كان عليه أى تلميذ حقيقى فعندما انكر المسيح نال رجاء الغفران لأنه رجع و ثبت أخوته كما قال المسيح .
ليتنا لا ندين بطرس !


+ + + + + + + + + + + +
المراجع :
+ أقوال مضيئة لآباء الكنيسة.
+ تفسير إنجيلى لوقا و يوحنا / للقديس كيرلس الأسكندرى ـ المركز الأرثوذكسى للدراسات الآبائية .
+ مع المسيح فى آلامه حتى الصليب / للأب متى المسكين .
+ المسيح حياته و أعماله / للأب متى المسكين .