Wednesday 26 January 2011

الأقباط بين الله و قيصر



الأقباط ... بين الله و قيصر !




كنت أتمنى أن أبدأ تدوينى بموضوع لاهوتى أرثوذكسى أو فلسفى أو عرض لفكر أحد الآباء ، لكن واقع الأحداث التى يعيشها بلدنا العزيز ـ الغالى ـ و التى تشهدها أقليتنا الغرّاء ، دفعتنتى لأكتب مقال ذو طابع سياسى ، لولا هذه الأحداث و لولا ارتباطها بالفكر المسيحى ما كنت قد تناولت هذا المقال أو حتى خطر على بالى !!

   بعد أن أصدر الأب الفاضل عبد المسيح بسيط بياناً بعدم مشاركة " الشباب القبطى "فى المظاهرات الدائرة حالياً بحجة أنها تخريبيه فوضوية و سيقودها سلفيين و إشتراك المسيحيين فيها لا يتفق مع كونهم  "مواطنين و كأبناء الكنيسة"


   بات من الواضح هذا الخلط بين الأقباط "كمواطنين مصريين" و بينهم "كمسيحيين أبناء للكنيسة" و فى ظل ذلك تحتم وضع حد فاصل يوضح بالضبط حدود تعاملات الأقباط المسيحيين الأرثوذكس مع الدولة ، هل نطالب بحقوقنا كمواطنين ، حتى و لو كانت تعتبرنا من الدرجة الثانية ،أم أن نصمت و نخضع باعتبارنا مسيحيين ، نخيط أفواهنا ـ كما حدث بالفعل ـ و نغمض عيوننا و نكتفى بأن نعبر زمن غربتنا بمهانة؟؟؟
   
    سأصمت أنا .. و أدع العظيم متى المسكين ، أحد الآباء الذين اعتبرهم أحد مراجعى الفكرية الأساسية ، يجاهر بهذه الكلمات التى خطَّها قلمه فى كتاب "شرح رسالة القديس بولس الرسول إلى أهل رومية " فى تفسير الأصحاح الثالث عشر (ص 583 ـ 585) .. فى حديثه عن فكر معلمنا بولس الرسول فى الخضوع للدولة " لِتَخْضَعْ كُلُّ نَفْسٍ لِلسَّلاَطِينِ الْفَائِقَةِ، لأَنَّهُ لَيْسَ سُلْطَانٌ إِلاَّ مِنَ اللهِ، وَالسَّلاَطِينُ الْكَائِنَةُ هِيَ مُرَتَّبَةٌ مِنَ اللهِ" ( رو 13 :1)

 [.. أن القديس بولس منع فعلاً القيام بأية ثورة على أساس أن تقوم باسم المسيح أو من مسيحيين بإعتبارهم مسيحيين و الدليل القاطع على ذلك هو أن القديس بولس نفسه ثار على الحاكم الرومانى الذى أمر أن يمد القديس بولس و يضرب بالسياط (أع 22 :25) و كان أساس ثورته الشخصية و احتجاجه ليس لأنه مسيحى أو خادم و رسول للمسيح و لكن باعتباره مواطناً رومانياً ..
    بهذا نفهم أن المسيحى و المسيحيين عامة مـُصـرّح لهم بالقيام بأى ثورة وطنية كمواطنين عاديين"مع بنى وطنهم الآخرين" و ليس بمفردهم باعتبارهم مسيحيين فالمشاركة فى الإصلاح الوطنى السياسى قائمة و لكن ليس على أساس دينى

 و هنا يمتنع أن تقوم به الكنيسة أو تشترك به بأى حال من الأحوال حتى و لا بأن تعطى صوتها بالرضى أو تشجع على ذلك لأن هذا ليس من اختصاصها ، فهى تمثل المسيح ، و المسيح لم يثر قط من أجل الحق فى وجة الظلم و الطغيان و الاستبداد سواء أمام المحاكم اليهودية أو المحكمة الرومانية بل حُكم عليه بالإعدام صلباً دون أن يحتج أو يدافع عن نفسه.
  
 كذلك لايخطىء المسيحى فى فهمه لمعنى الحرية التى نالها بالمسيح و التى عليها يقوم خلاصه و التى ينبغى أن يتمسك بها ضد أى عمل أو فكر يعرقل خلاصه و حياته فى المسيح ، و الخطورة هنا أن تُفهم هذه الحرية على أنها فكرية أو حرية إحتماعية أو حرية سياسية أو حتى حرية شخصية بل هى حرية لاهوتية منشؤها التحرر من الخطية و عبوديتها و لا يجوز استخدامها لحساب لقمة العيش أو عزة النفس أو سعادة الجسد :" فَإِنَّكُمْ إِنَّمَا دُعِيتُمْ لِلْحُرِّيَّةِ أَيُّهَا الإِخْوَةُ. غَيْرَ أَنَّهُ لاَ تُصَيِّرُوا الْحُرِّيَّةَ فُرْصَةً لِلْجَسَدِ، بَلْ بِالْمَحَبَّةِ اخْدِمُوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا" ( غلا 5 : 13).
  
 إذاً ق .بولس يحصر طاعته للسلطات فى مفهوم أنها طاعة ـ لتدبير الله ـ سواء كانت المعاملة سيئة أو حسنة لأن ليس أحد مثل القديس بولس تألم و حبس و قُيد من السلاسل من السلطات الرومانية ، و بالرغم من ذلك حينما أرسل رسالته إلى تلميذه تيطس من روما و هو سجين مقيد بالسلاسل ينتظر حكم الإعدام كتب له يقول :" ذَكِّرْهُمْ أَنْ يَخْضَعُوا لِلرِّيَاسَاتِ وَالسَّلاَطِينِ، وَيُطِيعُوا، وَيَكُونُوا مُسْتَعِدِّينَ لِكُلِّ عَمَل صَالِحٍ" (تى 3 :1)
 هذا روح و فكر و ضمير من يعتبر أن كل حادث له من السلطات هو بتدبير و سماح من الله و عليه أن يخضع و يطيع حتى الموت كالمسيح.

  إذاً فإصرار ق . بولس على الطاعة المطلقة و الخضوع للسلطات لم يكن خوفاً من السلطات كما كتب هو أيضاً فى موضع آخر و لا احتراماً أو طاعة لإنسان بحد ذاته مهما كان هذا الإنسان رئيساً أو ملكاً و لكن هى الطاعة لله فى من يمثله فى السلطان الأرضى  لأنه لا يمكن أن ننسى قانون الرسل القائل :" يَنْبَغِي أَنْ يُطَاعَ اللهُ أَكْثَرَ مِنَ النَّاسِ" (أع 5 :29).

  هذا معناه أن الملك أو رئيس أو الحاكم إذا أمر المسيحى أمراً يخالف أوامر الله فلن يطيعه حتى و لو حسب ثائراً على السلطات و حتى و لو هُدِّدَ بالموت  فقول الرسول " ينبغى أن يُطاع الله اكثر من الناس " هو أمر رسمى بالعصيان الدينى لكل أمر أو توصية تخالف وصايا الله المفروضة على المسيحى لإطاعتها.  
و القديس بولس يتكلم من مصدر روحى أعلى بكثير من مستوى التاريخ و التمدين و الحوادث الزمنية العابرة ..

  أما كيف نصالح فكر ق . بولس بالطاعة المطلقة للسلطات فى تلك الأيام مثلاً و الملك قد يكون فاسداً مستبداً مستبيحاً و فى بلد مسيحى و الشعب كله مسيحى و الملك نفسه مسيحى فكيف الحل؟ واضح أن الطاعة المطلقة للسلطان عند ق . بولس هى باعتباره أنه من الله و بترتيب الله  
و لكن إذا تأكد للشعب المسيحى أن هذا السلطان يخالف الله  و و وصايا الله فى مواجهة حالة ـ ينبغى أن يطاع الله أكثر من الناس ـ فأصبح الشعب كله فى حل من هذا السلطان ، بل و تكون قد وجبت معارضته بل تحتم أيضاً إسقاطه.
  
 أما إذا كان المسيحيون فى هذه الحالة أقلية و الملك طبعاً ليس مسيحياً و ليس عادلاً فواضح أن الأمر بالنسبة لهم هى ضيقة لابد من احتمالها كيد من الله ، حيث أن الطاعة واجبة إلا إذا امتدت أوامر السلطان لتجبر الإنسان المسيحى أن ينكر مسيحه ، هنا وجبت عدم الطاعة و حلَّ الاستشهاد.]
إلى هنا انتهى كلام المُعلم القبطى العظيم.





و ماذا بعد ؟؟؟
القبطى له صفة مزدوجة، مسيحى و مواطن .. و كونه إبناً للكنيسة فهذا لا يعطى الحق لكهنة الكنيسة أن تتدخل لتحديد علاقتة بينه و بين الدولة.. الكهنة هم خدام للمسيح ، و المسيح قد جاء ليفصل بين الله و قيصر ، فنطلب من كهنتنا الأجلاء ألا يتدخلوا فيما منعهم سيدهم من التدخل فيه.

و لا تخف ،  فالمواطن القبطى المسيحى الذى تربى داخل أسوار كنيسته و شرب من حياة مسيحها و نعمة روحه القدوس ، لا يمكن أن يقوم بأى أعمال تخريب أو ثورات دموية ، فالكنيسة و هى تعد الإنسان للأبدية ، فإنها تهيئه أيضاً أن يكون صانعاً للسلام مع الجميع ..و هذا عينه ما كتبه أبونا القديس فى مقدمة كتابه الخالد عن الكنيسة الخالدة:
[ هل الكنيسة لا تسمح اتجاهاتها الروحية و عقائدها أن تهيىء من أولادها مواطنين أقوياء يحاربون عن الدولة و يحملون عبء الرسالة السياسية و الإضطلاع بشئون الوطن كما يقول المتخلفون؟
يخطىء من يقول بهذا القول..

فالكنيسة مصدر الهبات الفكرية العليا و المبادىء و المثل الروحية بل و الأخلاق و الفضيلة و الفن السليم .. و هل يمكن أن تتكون شخصية المواطن تكويناً روحياً و أخلاقياً سليماً إلا فى الكنيسة؟..و الكنيسة و إن كانت ليست مؤسسة سياسية و لا يمكن أن تكون حزباً و لا تؤازر المتحزبين لأى اتجاه دنيوى لأنها لله تعيش و ليس للعالم ، إلا أنها تهيىء أولادها لمواجهة الدنيا فهى أول ما تبنى الفرد تبنيه على عدم الإثارة أو الأنانية فتلقنه الفداء و تعرفه المحبة المضحية و تهبه قوة للبذل و تسلمه تراثاً كريماً زاخراً بأمثلة حية من آباء ماتوا فى سبيل الإيمان و الشرف و الفضيلة و الحق! و هل يمكن أن تقوم شخصية المواطن بغير هذه الأخلاق؟ ]


ما هى حجة أى كاهن أوأسقف يتدخل  ليحدد لشعبه ماذا يفعلون و ماذا لا يفعلون.. متى تحل المظاهرات فى الكاتدرائية باعتبارنا" مسيحيين" ثائرين لنيِّل حقوقنا فى بناء كنائسنا ، و لا تحل المظاهرات فى الشوارع باعتبارنا " مواطنين" يطالبون بلقمة العيش!!!! .. متى نتكلم و متى نصمت .. متى نثور و متى نخضع.

لا .. لا تقل لى أنه ككاهن "خايف" على شعبه من البهدلة .. أو إن له عليهم حق الطاعة و الخضوع ، أقـُصـّر نحن أم ناقصى الأهلية؟؟؟  أأعطى الرب العقول للكهنة وحدهم و إبتلانا نحن بالعَتَة و الغفلة؟؟

أُخرج يا قبطى لشوارع بلدك و أطلب حقوقك ، فقد عانيت كثيراً من تهميشك و معاملتك كمواطن درجة تانية ، فلا تتوانى عندما تتاح لك فرصة لتكون مواطناً من الدرجة الأولى.. ولا تذعن لهؤلاء المتمحِّكين  المتملِّقين ، المُصفقين المُهللين ، شركاء الطبيعة الإستبدادية!!