Thursday 28 April 2011

شهادة إتمام الدراسات الآبائية


شهادة إتمام الدراسات الآبائية !



اليوم العشرون من شهر برامودة المُقدس لعام 1727 للشهداء ، الموافق الثامن و العشرون من إبريل لعام 2011 للميلاد ، تسلَّمت من نيافة الحبر الجليل الأنبا رافائيل شهادة إتمام دورات الدراسات الآبائية المتخصصة فى عام 2011م ، فى مؤسسة القديس أنطونيوس / المركز الأرثوذكسى للدراسات الآبائية بالقاهرة ، و بذلك أكون حصلت على أول "شهادة لاهوتية " فى حياتى!


بالحقيقة ... سعادتى لا توصَف بهذه الشهادة ، خصوصاً إنى حصلت عليها من مركز لاهوتى كبير مثل هذا ، و أيضاً لأنى أتممت هذه الدراسة  قبل الإنتهاء من المرحلة الجامعية ، الأمر الذى كان من غير الممكن أن أُحققه بدون مساعدة العلماء الباحثين فى المركز الذين لولاهم لما كنت قد تعرفت على هذا الغنى و العمق الآبائى الفائق الروعة و لا أتممت الدراسة أصلاً !


Wednesday 27 April 2011

الآلام معبرنا إلى المجد/ متى المسكين مع تعليقات


الآلام ...معبرنا إلى المجد !
للأب متى المسكين / مع تعليقات.


طوبى للحزانى ... لأنهم يتعزون !
طوبى للمصلوبين لأنهو يتجلون !
طوبى للمنسحقين ... لأنه يملكون !
طوبى للجياع لأنه يُشبعون !

حيث تُنسى هناك كل أوجاعهم و تُمسح دموعهم ، و ينمو موضعها نور يشير إلى الأهوال التى اجتازوها و إلى سر المجد الحاصل منها ، و يشرح عظم صبر الإنسان و قوة مراحم الله ، حيث تبدو النسبة بين مقدار الألم و مقدار المجد الحاصل منه نسبة غير معقولة و مضحكة ... فيرى الإنسان عياناً و يكتشف أن الآلام كانت فخاً مقدساً نصبه الله ليصطاد به الإنسان إلى مجده ... فاحتمال الألم أقوى من العبادة !!!
و يقول أحد القديسين أنه رأى فى رؤيا جماعة من الشهداء بمناظر مزهلة بمجد يفوق مجد الملائكة الذين ظهروا معهم فى نفس الرؤيا ، و رأى حول أعناق الذين ماتوا منهم ذبحاً بالسيف زهوراً حمراء كعقد ، موضع الذبح ، تضىء و تتلألأ بمنظر يخطف الأبصار أشد لمعاناً من كل نور آخر ظهر فى الرؤيا !

إن سر الصليب بالنسبة للمسيح هو سر مجده ! ... فالألم الساحق الذى عاناه الرب تحت وطأة التمزيق النفسى بسبب الظلم و الإلتواء الذى شاهده أثناء المحاكمة ، مع خيانة التلاميذ و تسليم يهوذا ، و احساسه أن حياته ثمنَّها رؤساء الكهنة باتفاق مع أحد التلاميذ بثلاثين من الفضة !!
هذه كلها كانت معبراً من عالم التفاهة المتناهية إلى مجد الآب ... و على هذا المعبر عينه تلزم أن تمر أقدام الإنسان فى كل زمان و مكان ... الصليب بآلامه الرهيبة لا يمكن أن يساوى المجد الذى حصل منه !
الصليب لم يصادف الرب فى طريق حياته ، و لكنه وُلد له " لأَجْلِ هذَا أَتَيْتُ إِلَى هذِهِ السَّاعَةِ " ( يو 12 : 27 ) . الإنسان يولد للألم ، و الألم مولود للإنسان ... و لكن فى نفس الوقت ، الصليب لم يكن إلزاماً حتمياً على الرب ، كما نشعر من كلامه و كما نتأكد من جهة قداسته و لاهوته ، و لكنه هو نفسه جعله إلزاماً حتمياً على نفسه " الْكَأْسُ الَّتِي أَعْطَانِي الآبُ أَلاَ أَشْرَبُهَا؟ " ( يو 18 : 11 ) ذلك لكى يشاركنا فى حتمية الألم ، فبدا الله فى شخص المسيح إبنه أنه يتألم اضطراراً حتى يجعل اضطرار الألم مساوياً لإختياره حتى لا يُحرم أى إنسان فى الوجود من رحمه الله ، و لكى يمتد الصليب لكى يشمل كل من تألم ظلماً !

إن الألم بحد ذاته عثرة كبرى لعقل الإنسان ، فالعقل لا يجيز الألم كواسطة لأى خير ، لأنه يظن أنه فى المعرفة خلوصاً من الألم ، و هو يجاهد فى ميدان الطب مثلاً و فى الميادين الأخرى أن يلغى الألم و يريح الإنسان !
و لو دققنا التأمل نجد أن محاولة التربية و التعليم بكل صنوفها من أول ما يحاول الإنسان تعلم الألف باء إلى الصاروخ ، هو محاولة أساسية لتجنب الإنسان الألم و التعب و العوز ...

لذلك فحتمية الألم لدى العقل أمر عسير و شاق جداً بل و محال قبولها ، لأن الرضى بالألم هو بعينه إلغاء العقل و كل نشاطه .. فالصليب جهالة و عثرة فعلاً لدى اليونانيين - كما يقول بولس الرسول ( 1كو 1 : 22 ) - أى هو عثرة الفلسفة ، لأن الفلسفة تحاول جاهداً الوصول إلى الله عن طريق التأمل الأفلاطونى الحر الخالى من التضحية ـ أى الألم المؤدى إلى الموت .
و هذا اللون من الإجتراء العقلى فى محاولته البلوغ إلى الله ، دخل المسيحية عن طريق التصوف الوثنى و لوَّنها  ، فأوريجانوس يقول بإمكانية الإتحاد بالله عن طريق التأمل جاعلاً الله فى الوضع الإستاتيكى و العقل فى الوضع الديناميكى ، أى أنه ثبَّت الله فى نقطة و جعل العقل هو الذى يسعى إليه  ، هذا إجتراء وثنى ناتج عن عدم شعور الإنسان بأبوة الله و نزول المسيح و تودد الروح القدس و دخوله قلب الإنسان !
و الحقيقة عكسية ، فالإنسان دائماً أبداً فى الوضع الإستاتيكى و الله هو الذى يتحرك نحوه " ليأت ملكوتك " ، منتهى تحرك الإنسان هو أن يكون يقظاً لتحرك الله مستعداً لمجيئه " مستعد قَلْبِي يَا اَللهُ، مستعد قَلْبِي " ( مز 57 : 7 )
فلو أدركنا أن الصليب هو أعظم مظاهر تحرك الله على الصعيد العيانى المنظور الذى فيه تجلى الله للإنسان ( أكثر من تجليه على طور تابور ) و أن الصليب هو الألم فى صورته العظمى التعسفية الظالمة ، حينئذ علينا أن نحس أن الصليب هو الدابة التى ركبها الله القدير و انحدر عليها من مكان سكناه هناك ، من موطن احتجابه الأزلى و جاء إلينا و صافحنا يداً بيد ، الصليب هو قوة ديناميكية الله الفائقة التى أحدرت الله إلينا و استعلنته واضحاً ، أى أن الألم بصورته المادية جحود و انحصار و توقف و بجوهره الروحى تحرك ، و أى تحرك !

 الإنسان يظل متوقفاً روحياً و عاطلاً عن المسير راجعاً مع المسيح إلى الله إلى أن يحمل صليبه ، الإلم يُدخل الإنسان فى سر الصليب ، سر التحرك الإلهى ، فلا يتوقف كميت بل يسير مشدوداً إلى المسيح منقاداً و منجذباً من ألم إلى ألم إلى أن يبلغ الآب محمولاً على صليبه تابعاً المسيح ...
الإنسان يستحيل أن يتحرك نحو الله عقلياً ، فالعقل مهما بلغ بالتأمل إنما يكتشف الله و حسب ، و يكتشف نوره و حبه و يسعد و يرتد ... التحرك بالحقيقى كائن بالمسيح فهو إبن الله الآتى إلينا على الصليب ، و على الصليب نتبعه إلى الآب ...
فهو يقول "
لأَنَّكُمْ بِدُونِي لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَفْعَلُوا شَيْئًا " (يو 15 : 5 ) ليس هذا احتكاراً تعسفياً لإرادتنا و لا هو بسبب قصورنا فى المعرفة ـ لأنه عرَّفنا بكل شىء ـ و لكن لأنه الوحيد ـ كإبن ـ يحمل قوة التحرك نحو الله الآب

 المسيح هو الوحيد الذى له قوة التحرك نحو الآب ، لأن ابن الله الوحيد الذى من جوهر الآب ، فهو دائماً فى حضن الآب و متجة نحو الآب ( و كلمة "بروس " اليونانية المستعملة فى الآية الأولى من إنجيل يوحنا و التى تُترجم عادة بلفظ "عند" "الكلمة كان عند الله" تعطى معنى " نحو" أى " الكلمة كان نحو الله " ( يو 1: 1 )
هذه القوة هى طبيعية فى المسيح قبل التجسد و الصلب و لكن لكى يدخل بالإنسان الميت  و يحمله إلى الآب كان لابد بعد أن تجسد و صار إنساناً أن يجتاز الألم الفدائى حتى يمكن أن يحملنا و يدخل بنا إلى الآب فيكون المسيح بذلك قد اكتسب بالصليب قوة لنا و من أجلنا ـ أى قوة التحرك بالبشرية الخاطئة نحو الآب " لأَنَّهُ لاَقَ بِذَاكَ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ الْكُلُّ وَبِهِ الْكُلُّ، وَهُوَ آتٍ بِأَبْنَاءٍ كَثِيرِينَ إِلَى الْمَجْدِ، أَنْ يُكَمِّلَ رَئِيسَ خَلاَصِهِمْ بِالآلاَمِ" ( عب 2 : 10 )

و المسيح يحمل قوة حركتين :
حركة من الله الآب نحونا ، و حركة منا نحو الآب :
الأولى طبيعية و هو جوهرية كائنة فى سر الحب نحو خليقته !
و الثانية مكتسبة بالصليب ... أى بالألم الفدائى الذى أهَّل أن يحمل الإنسان الميت و يصعد به !!
و المسيح سكب فينا سر هاتين القوتين : قوة الحب ، و قوة الصليب ( الألم ) ـ و بقبولنا هاتين القوتين يعمل المسيح فينا سراً لنتحرك به و معه إلى أن نصل إلى الآب و يتم بهما و فيه السر الأعظم ، سر الإتحاد بالله .
ختاماً ـ استودعك لتدبير عنية الله الفائقة التى تُسخِّر السنين و الأزمنة و الأوقات و الحاودث و لك ما يصيب الإنسان و ما يصيبه الإنسان لتكميل خطة الفداء العامة لخلاص الإنسان !

كُن مُعافى .

من رسالة كتبها الأب متى المسكين جواياُ على سائل
 و قد نشرت عام 1968 م فى مجلة النور اللبنانية .[1]


+ + +


تـعلـيقــات !

مشكلة الألم تشغل بالى كثيراً ،تحيرنى و طالما فكرت فيها بعمق ، لقد وجدت بعضاً مما كنت أنشده فى هذا المقال الرائع الذى كتبه العظيم متى المسكين ، إلا إنى لو توقفت عند حد قراءة مقال فإن هذا يدل على توقف أنشطة العقل و التأمل، و لأن مشكلة كهذه لا تعالج نقلياً فقط ، فقررت أن أترك بعض التعليقات و الأفكار التى تعبر عن اختبارى و رؤيتى لها ، و فضَّلت أن أفصل بين المقال و التعليق لأنى أخشى من ضعف لغة التعبير ، بل و ركاكة الأفكار و الأسلوب ، حتى إذا ما اختلطت تعليقاتى مع حديث هذا الأب القديس ، سوف يضر هذا بقارئى العزيز أشد الضرر !
و أقول أن هذه مجرد أفكار و خواطر من نتاج عقلى ، تلك التى فتحت أمامى باباً أوسع من التساؤلات بل و الرغبة فى البحث عن معنى الألم فى الكتابات الإلهية ، فأنا هنا لا أقدم دراسة لاهوتية عن الألم [2]، بل مجرد خواطر أرجو ألَّا تهبط إلى مستوى الترهات !


حــتمــية الألم  !

أول ما يجب أن يدركه الإنسان عن الألم هو حتميته ، الألم هو وضع ثابت و مُتأصِّل فى الطبيعة البشرية منذ سقوط الإنسان الأول ، آدم ، كما يُخبرنا تكوين موسى ،  فلقد نجح الشرير أن يضع فيه هذه الأصل ، و يزرع فيه تلك البذرة ، بذرة الألم و التعب و المرض و العوز ، و ها نحن نسمع الله يقول لهذا البائس "بِالتَّعَبِ تَأْكُلُ مِنْهَا كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِكَ. وَشَوْكًا وَحَسَكًا تُنْبِتُ لَكَ، وَتَأْكُلُ عُشْبَ الْحَقْلِ. بِعَرَقِ وَجْهِكَ تَأْكُلُ خُبْزًا حَتَّى تَعُودَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أُخِذْتَ مِنْهَا... تَكْثِيرًا أُكَثِّرُ أَتْعَابَ حَبَلِكِ، بِالْوَجَعِ تَلِدِينَ أَوْلاَدًا" ( تك 3 : 16 ـ 19)
" اَلإِنْسَانُ مَوْلُودُ الْمَرْأَةِ، قَلِيلُ الأَيَّامِ وَشَبْعَانُ تَعَبًا" ( أى 14 : 1 )
" صعوبات كثيرة تنتظر الإنسان من المهد ، و نير ثقيل على بنى آدم ، من يوم خروجهم من أرحام أمهاتهم إلى يوم دفنهم فى الأرض أمام الجميع " (يشوع بن سيراخ 40 : 1،2 / الترجمة العربية المشتركة )
فالألم صار فعلاً ملازماً للإنسان طول حياته ، كلما يريد أن يتخلص منه يجده حاضراً عنده !
و كل الإنفعالات و التأوُّهات و الصرخات و المرارة و المراثى التى تذخر بها الكتب المقدسة ، و الأدب الإنسانى على حد سواء ،تقف شاهاً على هذه الحقيقة ، التى قليلون هم الذين يدركونها !
الإنسان يحاول أن يتجنب الألم ، لكنه لا يستطيع أن يهرب من حتميته !
الألم فى طبيعة الإنسان ، فمن يهرب من الألم يهرب من طبيعته !


محـاولات عبثــية  !

أخى القارىء ... رأيت كلام الأب القديس عن المعرفة ، و الطب و التعليم كوسائل للتخلص من الألم أو على الأقل تجنبه ، أما أنا فأكلِّمك عن الإقتصاد !
الإقتصاد هو من أهم المحاولات الإنسانية للتخلص من التعب و الألم أو الوصول بهما إلى أدنى مستوى ممكن فى إطار المُتاحات التى يمتلكها الإنسان ، بل و تحقيق الإشباع و الراحة و الرفاهة ، و فى هذا تذهب النظريات لوضع الأسس الفلسفية و الإجتماعية و العملية لأصل هذا الهدف و وسائل تحقيقه .

قال أحد فلاسفة الإقتصاد :
 " أن الإنسان يسعى دائماً نحو هدف متحرك ، يبعد عنه باستمرار "
 هذا الهدف إقتصادياً هو الشبع و إقصاء الفقر و الحاجة
 نعم ... فالقضاء على الألم هو هدف متحرك كلما أدرك الإنسان جزءاً منه  تكشَّف له أنه أمام بحر لا نهاية له من الحاجات ـ تلك التى تسبب له الألم و المعاناة ـ ، ليس فقط إذا لم يُشبعها فعلاً ، بل و كلما فكر فى إشباعها أيضاً !

إذن ... القبول بالألم هو إلغاء العقل ، لأن كل الأنشطة و النظم العقلية منصبه على إلغاء الألم !

و من هنا ينشأ الصراع ... الصراع بين العقل الإنسانى الذى يستثقل الألم و يريد أن يذيح ذكراه و آثاره ، و بين طبيعة الألم نفسه كفعل ملازم و وضع ثابت فى الإنسان ، فكما قرأنا لأبانا القديس أن " الإنسان يولد للألم ، و الألم مولود للإنسان " !
هذا صراع أبدى ، أُقر بعدم إمكانية انتهائه تلقائياً أو حتى تدبيرياً ( إقتصادياً ) بفعل سلبى أو إيجابى يقوم به الإنسان
بل أعتقد أنه ينتهى فى اللحظة التى يتكشف فيها للإنسان قدرته على تحويل هذا الألم إلى مجد !
 هذا الصراع لا يؤدى إلى نتائجه و لا تظهر آثاره إلا فى لحظة إدراك تلك الحقيقة !

يا للغباء البشرى ! المرء لا يعرف أنه لا يوجد ما يشبعه أو يرويه إلا إدراك سر .. هو سر الألم عينه ! ، أو أن يظل حاملاً أوجاعة طول حياته ، التى لم تعد "حياة " بالحقيقة !


استعلان المنـفــعة من داخل الألم :

هنا أتكلم على مستوى الإنسان الطبيعى الذى يستطيع أن يكتشف سر الألم ـ جزئياً ـ عن طريق ممارسة أفعال العقل و التفكير فى حوادث الألم ، حتى يستطيع أن يكتشف منفعة الألم بالنسبة له .
الألم صديق حميم ، يأخذ الإنسان ليعرفه على ذاته و على الآخرين و يدخله إلى أعماق الحياة ، و كرفيق حكيم يكشف له أسرارها و يعرفه على خباياها و حقيقتها !

بالألم يعطى لنا الرب معرفة أنفسنا !
بالألم نحصل على الحكمة !
بالألم نكتشف الحقيقة التى كنا نظنها غائبة عنا ، و هى حاضرة فى داخلنا !
مشكلة الإنسان انه لا يستطيع أن يكتشف سر الألم .. الذى هو عطية من الله !
لا يستطيع أن يدرك الأمجاد و المكاسب التى يحصل عليها من الألم .

ربما تكون الراحة و الصحة و السلام و الهناءة بل و السلطة و الرئاسة و المال غير نافعة مثل منفعة المتاعب و لا تقوده إلى المعرفة الحقة ، لأنها تلهي المرء عن نفسه، اما الآلام و الضيقات فتفتح له آفاق إدراكها!
ربما يكون أعداء المرء أكثر منفعة له من أحباءه ، إنهم كمصدر إلهى يستطيع به أن يفحص قلبه و ينقى ضميره و يكشف عيوبه باستمرار ، يكتشفها لا بالمعرفة أو النصيحة او بالأرشاد ، بل بالخيرة الحية و بالمواجهة !

و هنا يجب أن ينتبه الإنسان أشد الإنتباه ، فإذا لم يدرك هو هذه الحقيقة ، ارتد إلى الحزن و الكآبة
لذلك يجب أن يكون ادراك سر الألم حاضراً عنده دائماً ، لألا يحصل هذا الارتداد ، و هذا الرجوع ، و هذه المصيبة التى تكفى للإطاحة به إلى الوراء آلاف الأميال من السعادة و الهناء و الحكمة !

كم مرة يتعلم الإنسان من حوادث الألم و المعاناة أكثر من تعليم الكتب و النظريات؟ أليست تلك منفعة أيضاً ؟

حسناً قال أبونا القديس أن الآم معبرنا من عالم التفاهة المتناهية إلى المجد ، لأن الأشياء إن لم تدرك بكل قوتها و حقيقتها تصبح تافهة لا نفع لها ، و نحن بالألم ندرك سر كل هذه الأشياء و جوهرها جميعاً !

إذن ... المشكلة ليست هى الألم فى حد ذاته ، بل فى إدراك الإنسان لمعناه ، فإن كانت كل هذه الأتعاب ليست نابعة من ذات الإنسان بل هى خارجة عنه ، فلا مشكلة إذن ، لأن كل معاناه حقيقة تنبع من الداخل .
 فمصدر تعاسته ليست هى الآلام التى تقع خارجاً عنه ، بل فى غباؤه الذى معه لا يستطيع ادراك كيف يحول التعب إلى راحة ، و العوز إلى شبع !!

لكن هذا الإستعلان ضعيف ، و هو على مستوى متدنى من الإدراك الإنسانى ، فحتى إن "عرف" الإنسان منفعة الألم عقلياً ، فسيبقى فى حدود ضيقة تفرضها عليه تلك المعرفة ، صحيح أنه سيستفيد من الألم ، لكن المنفعة تبقى أرضية وقتية ، تقع فى دائرة التعاملات البشرية وحدها ،لأنها مؤسسة على العقل البشرى المتغير ، فالعقل مهما بلغ من إدراك سوف يظل محدوداً متأثراً بالإنفعالات التى تحدث داخل النفس ، و لا يستطيع أن يدرك الألم كاملاً كسر خفى إلا من اختبره ... مع مُخلص العالم !!!
فإعلان التفكير شىء و إعلان الإختبار شىء آخر ، إنه مستوى أعلى بكثير لا يولِّد الحكمة و معرفة الحقيقة و اكتشاف الذات فقط .. بل و المجد أيضاً !


آلام  فصحية  !

تعلمت من الأب متى شيئاً ، أن الفعل لكى يكون له قوة التغيير و التجديد لابد أن يكون فعل إلهى ، أو مؤسس فى الله ذاته و نابعاً منه ، فالإله هو الوحيد الذى ليس عنده تغيير و لا ظل دوران ، و بالتالى فهو الوحيد الذى يمتلك القدرة على إحداث هذا التغيير و التحويل ، بل و الخلق أصلاً !

صحيح أن العالم يملأه الحزن ، و المتاعب فيه ما أكثرها ،لكن ليست أى آلام هى التى لديها القدرة على نقلنا من الموت إلى الحياة و المجد ، بل آلام المسيح و حدها من بين كل الآلام هى التى تتمتع بتلك الإمكانية أى إحداث العبور ، لأنها ببساطة آلام الإله الحى ، فأى فعل يقوم به هذا الإله يكتسب تلقائياً قدرة هائلة على الخلق و التجديد و التحويل و العبور من بين كل الأفعال جميعاً ، حتى و لو كان هذا الفعل هو الآلم ذاته !

لذلك فإن الإنسان المسكين الساقط لا يدرك قوة الألم ، لأنه لا ينظر إليه فى يسوع المسيح ، هذا الإله المتجسد الذى أعطى لفعل الألم قوة للتجديد و الخلاص تشع منه النور و القيامة !  فحتى إن أدرك الإنسان منفعة آلامه الإنسانية كما قلنا فهو يظل فى مستوى الأرض و لن يعبر أبداً إلى السماء إلا إذا شارك المسيح فى هذه الآلام الإلهية ، الفصحية !

فإذا كان الألم بالنسبة للإنسان وضع حتمى صعب على النفس ، و مُرّ مرارة العلقم و الإفسنتين ، لكنه بالنسبة للرب وضع محبة ، جازه بإرادته طواعية فقط ... من أجل الإنسان !
"نَاظِرِينَ إِلَى رَئِيسِ الإِيمَانِ وَمُكَمِّلِهِ يَسُوعَ، الَّذِي مِنْ أَجْلِ السُّرُورِ الْمَوْضُوعِ أَمَامَهُ، احْتَمَلَ الصَّلِيبَ مُسْتَهِينًا بِالْخِزْيِ، فَجَلَسَ فِي يَمِينِ عَرْشِ اللهِ." ( عب 12 : 2 )
نعم ... فبعد الألم هناك القيامة و الصعود ، بل أن هذان الأخيران هما نتيجة حتمية للصليب كما قرأنا عند بولس سابقاً !
و هذا ليس تأمل شخص أو أفكار فردية ، بل اختبار كنسى تعيشة الكنيسة كلها فى صلوات البصخة المقدسة ، عندما تقرأ فى الساعة الحادية عشر من يوم الخميس الكبير و الساعة السادسة من يوم الجمعة العظيمة ، الترجمة السبعينية ، تلك التى نجدها فى قطمارس كل الكنائس الأرثوذكسية القبطية ـ اليونانية ، بل و حتى تلك التى لم تعرف اليونانية مثل كنائس السريان ، حيث تقول الترجمة السبعينية " أما الرب فشاء أن يشفيه من الجراح / الكلوم ( كتاب البصخة المقدسة حسب ترتيب الكنيسة القبطية الأرثوذكسية) [3]

And the LORD willed to cleans him of the beating

و هذه الترجمة هى الترجمة اليونانية للعهد القديم و هى ترجمة يهود الأسكندرية و قد وضعوا التفسير الشائع فى الفكر اليهودى و هى مختلفة عن الترجمات الشائعة بين أيدينا و التى تُقرر أن "  الرَّبُّ سُرَّ بِأَنْ يَسْحَقَهُ بِالْحَزَنِ" (إش 53 : 10 )

ففى وسط هذا الفصل النبوى الذى يمثل قمة الآلام التى اجتازها المخلص ، نجده يحدثنا عن الشفاء و إبراء الكلوم ، و كيف يحدث هذا إلا بالقيامة ؟ فمن عمق الألم و قمته تخرج القيامة و الإنتصار !

فهكذا هو إلهنا المصلوب ، يجمع المتناقضات فى شخصه الواحد، لولا آلامه لما تخلصنا من الألم، فاختبار شركة آلام المسيح هذا ليس على مستوى إدراك منفعة الآلام عقلياً ، بل هو "تحويل" تلك الآلام إلى أمجاد كما يحدثنا آباء الكنيسة

[ كما أن الموت لم يكن ممكناً أن يبطل إلا بموت المخلص
هكذا أيضاً بالنسبة لكل واحد من الآلام و انفعالات الجسد
لأنه لو لم يكن قد انزعج لما تحررت طبيعتنا من الإنزعاج
و لو لم يكن قد حزن لما انعتقت أبداً من الحزن
و لو لم يكن قد اضطرب و جزع لما انفكَّت أبداً من هذه الإنفعالات
و هكذا بالنسبة لجميع الأمور البشرية الحادثة للمسيح يمكنك أن تجد نفس المبدأ منطبقاً تماماً
أى أن الآلام و الإنفعالات الجسدية كانت تتحرك فيه ، ليس لكى تكون سائدة كما يحدث فينا
بل لكى ما تحركت تَبطُل بقدرة اللوغوس الساكن فى الجسد
و بذلك تتغير طبيعتنا إلى ما هو أفضل
فإن كان كلمة الله قد وحَّد بنفسه طبيعة الإنسان بشمولها ، لكى يُخلِّص الإنسان بكليته
فإن ما لا ياخده منا لا يمكن أن يخلصه ][4]
القديس كيرلس الكبير
تفسير إنجيل يوحنا 12 : 7


[ قد نبع انعدام الآلام من الآلام
و عدم الموت من الموت
و الحياة من القبر
و الشفاء من الجروح و القيامة من السقوط
و الصعود إلى أعلى ( السموات ) من النزول إلى أسفل ( الحجيم ) ][5]
القديس يوحنا ذهبى الفم

[ فقد بكى بشرياً لكى يسمح دموعك ...
و انزعج تدبيرياً تاركاً جسده ينفعل بما يناسبه لكى يملأنا شجاعة ...
و وُصف بالضعف فى ناسوته لكى يُنهى ضعفك ..
و قد بكثرة طلبات و تضرعات إلى الآب ، لكى يجعل أذن الآب صاغية لصلواتك ]
القديس كيرلس الكبير[6]
الدفاع عن الحروم الإثنى عشر ضد ثيودوريت


ففى المسيح ، الألم و المجد يجتمعان فى وحدة مُدهشة كالحقيقة المضيئة التى لها وجهان !
 [ و الرب يناقش النفس و يريها مواضع المسامير قائلاً :
انظرى علامات المسامير ، انظرى الجلدات ، انظرى البصاق ، انظرى الجروح
هذه كلها تألمت بها من أجلك ، لأن بمحبتى للبشر جئت لأطلبك و أحررك
لأنى منذ البدء جبلتك على صورتى ، و خلقتك لتكونى عروساً لى
و الرب يُظهر نفسه لها على هيئتين :
على هيئة جروحة و على هيئة نوره المجيد
و النفس ترى الآلام التى احتملها ، و ترى المجد الفائق الذى لنوره الإلهى
فتتغير إلى تلك الصورة عينها من مجد إلى مجد كما من الرب الروح .
و تتقدم فى كلا الهيئتين ، فى هيئة آلامه و هيئة نوره المجيد
حتى تنسى بنوع خاص طبيعتها الخاصة ، إذ تكون ممسوكة بالله
و ممتزجة و متحدة بالإنسان السماوى و بالروح القدس
بل تصير هى نفسها روحاً ][7]
القديس الأنبا مقار الكبير
المجموعة الثالثة من العظات / عظة 3 : 2


لذلك لا يمكن أن تقبل القيامة و ترفض الصليب لا يمكن أن تحيا الإنتصار إذا لم تجوز أولاً فى الألم ، البعض لا يحب صورة صلبوت ربنا و يعلقون و يقولون ان هذا هو ليس المسيح ، المسيح ممُجد و مُقام ، و لا يعرفون أن القيامة هى ثمرة الصليب ،و اذا لم نفتخر بالصليب لا يحق لنا أن نتمتع بعطايا القيامة !


الآلام استعلان إلهى!

أدهشنى كثيراً كلام الأب متى عن تحرك الله نحونا بالصليب ، لم أكن قد قرأت مثل هذا من قبل !
الصليب هو حركة إلهية ، لأن الصليب هو إعلان عن ذات الله بالعمل و الفعل و لا يدخل فى دائرة الكلام و الفلسفة البشرية المُقنعة ، و هو ليس على مستوى الإعلان النبوى ، الله يريد و النبى يفعل ، بل أصبح الله بنفسه هو الذى يفعل بالصليب ، يأتى إلي الإنسان و يشترك فى آلامه ... و هو أقصى تعبير عن محبة الله الأزلية !

الله محبة ، و إذا كانت المحبة التى هى جوهر الله قد تجلت بالصليب ، إذاً فقد استعلن الإله بالألم و تجلى عندما رُفع على الصليب شاهراً جراحاته للعيان ! 
لقد تجلى ليس بنوره الأزلى كما على جبل طابور بل بمحبته، فالصليب محبة ليست بالكلام و لا باللسان ، بل بالعمل و الحق !

هذا ما يفعله الفلاسفة ، يجلسون فى أبراج عاجية ، عالية ، يرسمون صورة الله و الإنسان و العالم ، هذه الصورة التى تكون غالباً بعيدة عن الواقع ، أو على الأقل تحاكى الواقع بطريقة مشوهة تمسخ معها معالم الحقيقة، لأنها خرجت من رحم العقل فاسد التصورات .
أما آلام المسيح فهى أقصى إعلان عن رغبة الله فى الإشتراك فى واقعنا و معاناتنا بل و تحويلها من مجد إلى مجد
المسيح كان فيلسوفاً ، و لكن ليس ككل الفلاسفة ، تعاليمه تشهد على فلسفته ، وآلامه تشهد على واقعية هذا الفلسفة !

هذا المسيح المتألم هو الذى له وحده قوة الحركة نحو الله ، فإذا اشتركنا نحن فى آلامه أخذنا معه إلى مجده ، فهو لم يجوز الألم نيابة عنا ، بل كان يحصرنا و يجمعنا فى ذاته بحسب فكر كنيستنا الأرثوذكسية ، و بهذه الشركة الحية فقط نستطيع أن نقترب إلى مجد الآب و نكتشف لمحة من الأبدية السعيدة .



لحظة الـعبور !

إلا أنّ يسوع لا ينزع من العالم الألم و الضيقات ، بل يُخرج منها الخير لأولاده ، لذلك يلزم الإنسان أن ينفتح على الوعى الإلهى ، و يرى فى لمحة الروح حقيقة خطة الله له من داخل الإلم ، حينئذ تتحول الضيقات إلى معانى إلهية !
و يتكشَّف أمامه معنى جديد للتعزية ، فهو ليس إلغاء الألم أو مجرد إزاحته أو حتى شفاؤه ، بل هو العبور من تلك الآلام عينها إلى الأمجاد ، بإدراك سر الألم و منفعته و الإشتراك فى آلام المُخلص
 الـتعـزيـة عـبور ، تحـول .. إمـتداد !!!

و هذا العبور لا يكون سهلاً بل فيه تتحطم النفس و تتمزق تمزيقاً و يصلب الجسد مع المسيح ! ، العبور لا يتحقق إلا بإلغاء الذات و صلب الأهواء و الشهوات و تسمير الجسد على الخشبة المُحيية كما يتحدث الرسول  

و لحظة العبور هذه لابد أن تكون ماثلة أمام الإنسان ، يحفظها فى أعماقه حتى تعمل فيع عملاً مستمراً ، تلغى من ذهنه ذكرى الألم لكنها تُبقى سره فقط ! و هو الإنتقال و العبور !
و بعد أن فهمنا القصد من الألم و عرفنا مصدره الإلهى الحكيم و لمسنا غايتها الخيرة الصالحة و المفيدة و هو معناه التحرر الكلى من شبكة الآلام التى لا فكاك منها ،أفلا ننسى ما هو وراء و نمتد إلى ما هو قدام ؟

لِذلِكَ أُسَرُّ بِالضَّعَفَاتِ وَالشَّتَائِمِ وَالضَّرُورَاتِ وَالاضْطِهَادَاتِ وَالضِّيقَاتِ لأَجْلِ الْمَسِيحِ. لأَنِّي حِينَمَا أَنَا ضَعِيفٌ فَحِينَئِذٍ أَنَا قَوِيٌّ  ( 2كو 12 : 10 )
قَدِ امْتَلأْتُ تَعْزِيَةً وَازْدَدْتُ فَرَحًا جِدًّا فِي جَمِيعِ ضِيقَاتِنَا." ( 2كو 7 : 4 )
حَامِلِينَ فِي الْجَسَدِ كُلَّ حِينٍ إِمَاتَةَ الرَّبِّ يَسُوعَ، لِكَيْ تُظْهَرَ حَيَاةُ يَسُوعَ أَيْضًا فِي جَسَدِنَا ( 2كو 4 : 10 )
إِنْ كُنَّا نَتَأَلَّمُ مَعَهُ لِكَيْ نَتَمَجَّدَ أَيْضًا مَعَهُ ( رو 8 : 17 )


الألم سر لا يدركه إلا من جازه مع المُخلِّص !
الألم عمق لا يدخل فيه إلا من شاركه حقاً و يقيناً مع رئيس الحياة !

مارك
ذكرى الآلام الخلاصية و القيامة المقدسة
برمودة 1727 ش / إبريل 2011 م


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


1 ـ مع المسيح فى آلامه حتى الصليب / للأب متى المسكين صـ 199
2 ـ أنتظر دراسة عن الألم فى الكتاب المقدس ، سأبدأ فيها فور توفر متسع من الوقت لدىّ .
3 ـ القيامة أساس الإنجيل و مسرة الثالوث بالإنسان ـ د / جورج حبيب بباوى
 4 ـ أقول مضيئة لآباء الكنيسة صـ 210
5 ـ قول مضيئة لآباء الكنيسة صـ 240
 6 ـ أقوال مضيئة لآباء الكنيسة صـ 200
7 ـ أقوال مضيئة لآباء الكنيسة صـ 228

Monday 18 April 2011

مع المخلص...نحو الصليب



مع المــخــلــص ... نحـــو الـــصلــيـــب !
تأملات لآباء الكنيسة و الأب متى المسكين

 


أسبوع  الآلام ، أسبوع  العبور !

أو أسبوع البصخة ، و البصخة هى العبور أو الفصح ، مأخوذة من طقس خروف الفصح الذى بدمه عبر الملاك المُهلك على البيوت و لم يؤذها ( خر 12 ) ، إذاً .. فأسبوع البصخة ليس أسبوع آلام عقيمة بلا ثمر أو هدف ، أو آلام وحسب ،بل هى آلام للعبور من الموت إلى الحياة فى يسوع المسيح .
في هذا الأسبوع سنسمع مراراً و تكراراً كيف يكشف الرب لتلاميذه عن خطة حبه السرية ، التى صمم أن ينفذها بنفسه طواعية !
" ها نحن صاعدون إلى أورشاليم و ابن الإنسان يُسلم إلى رؤساء الكهنة و الكتبة فيحكمون عليه بالموت ، و يسلمونه إلى الأمم .." ( مت 20 : 18 ،19 ) ، لقد حزن التلاميذ ، و بعضهم استنكر هذه الخطة لأنه لم يدرك عظمتها ! لكن الرب كان يضعها أمام عينه كهدف لتجسده و  كل حياته و أعماله التى صنعها على أرضنا !
هذه الخطة، و إن كان بدايتها الآلام و الأحزان ، فإن نهايتها قيامة و فرح و نور الصعود ، لابد أن يكون أسبوع الآلام أسبوعاً خالداً فى سنتنا هذه ، ننال به حياة أقوى و أفضل ، فما امجدها آلاماً و ما أعظمه أسبوعاً فصحياً ، ذلك الذى ننال به هذا العبور !
+ + + + + + + + + + + +

هوشعــنا ...  خــلـــصـــنا !!
كانت أُورشليم قد اكتظَّت بالآتين إليها من الشتات من كل أجناس العالم ، وكانت أخبار إقامة لعازر من الموت قد ملأت أُورشليم في كل أرجائها، وأحدثت حماساً شديداً للشعب نحو المسيح.
 وبمجرَّد أن انقضى السبت اندفعت الجموع إلى بيت عنيا لينظروا يسوع وأيضاً لعازر الذي أقامه" فَعَلِمَ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ الْيَهُودِ أَنَّهُ هُنَاكَ، فَجَاءُوا لَيْسَ لأَجْلِ يَسُوعَ فَقَطْ، بَلْ لِيَنْظُرُوا أَيْضًا لِعَازَرَ الَّذِي أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ " (يو 12 : 9 )
لكن موقف الرب يسوع المسيح هنا كان غير معتاد فلقد رفض المسيح طوال أيام حياته كل مظاهر المجد و التكريم ، و تحاشى السير فى المواكب و الظهرو فى الأعياد رسمياً ، أما هنا فلأول مرة و لآخر مرة فى حياته يرتب بنفسه موكب الظفر و المسيرة الرسمية للدخول إلى أورشاليم كملك ، حتى اندهش منه كثيرون و ضج منه رؤسائ الكهنة و الفريسيون ، نعم ... فقد آن الأوان فعلاً أن يعلم العالم أنه هو المسيا الملك الفادى ، المخلص !
هذه أغصان الزيتون رمز السلام ، تشير إلى المسيا "شيلون" ، رجل السلام !
و هذه هى أغضان النخيل تشير إلى أقواس الظفر الملوكى الإلهى !
و هذه أصوات " أوصنا فى الأعالى " تشير إلى الخلاص و الفداء الإلهى !
و بهذا الموكب المزدحم بالمعانى العميقة و الأسرار ، ينتهى تاريخ إسرائيل الزمنى ، ليبدأ ملكوت المسيا الذى فيه تتحقق النبوات جميعاً .
و لعل فى الهتافات التى قيلت فى ذلك اليوم و سجلها لنا البشيرون توضيحاً لكل هذه التحقيقات التى كملت بدخول المسيح إلى مدينته العظمى ... أورشليم !
+ "أُوصَنَّا لابْنِ دَاوُدَ! مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ! أُوصَنَّا فِي الأَعَالِي!" (مت 21 : 9)
+ "أُوصَنَّا! مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ! مُبَارَكَةٌ مَمْلَكَةُ أَبِينَا دَاوُدَ الآتِيَةُ بِاسْمِ الرَّبِّ! "( مر 11 : 10 )
 +"مُبَارَكٌ الْمَلِكُ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ! سَلاَمٌ فِي السَّمَاءِ وَمَجْدٌ فِي الأَعَالِي! " ( لو 19 : 38  )
و العجيب أن المسيح كان موافقاً على كل ما كانوا يهتفون به حتى بلغ هتافهم عنان السماء ، بعكس كل مواقفة السابقة التى كان يحرم فيها أى هتاف له ، بل لما طالبه الفريسون أن يسكت الهاتفين قال لهم " إن سكت هؤلاء ، فالحجارة تصرخ " ( لو 19 : 40 )
إذن ، فكل ما هتف به الجموع كان هتافاً نبوياً من عمل الروح القدس الذى كان ينطق فى أفواة الأطفال و الرُضَّع !! فالمسيح قد جاء ليعلن أنه هو المخلص ، الذى يقتحم مدينته أورشليم ، الذى هى قلب كل خاطىء ، و يحوله إلى مكان كله فرح و تهليل و سعادة، حيث لا مكان للشيطان و جنوده !

أردت  و  لم  تــريــدوا  !
كَمْ مَرَّةٍ أَرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَ أَوْلاَدَكِ كَمَا تَجْمَعُ الدَّجَاجَةُ فِرَاخَهَا تَحْتَ جَنَاحَيْهَا، وَلَمْ تُرِيدُوا! 35هُوَذَا بَيْتُكُمْ يُتْرَكُ لَكُمْ خَرَابًا! ( لو 13 : 34 ) عوض أن يتجمع إلى صدره و تحت ستر جناحيه هؤلاء الأولاد الأشقياء بنو إسرائيل ، تركوه " تركونى أنا الحبيب مثل ميت مرزول" ( مز 37 : 21 ، 22 حسب الترجمة القبطية ) و ذهبوا وراء شهوات أنفسهم .
و لكن الدعوة مجدده لك هنا أيها الإنسان ، فالجناحان الحانيان مفرودان على الصليب ، و الجنب الجريح يسيل بدم الشفاء و الفداء ، المسيح لازال ينادى خرافه و يرسل صوته مبكراً كل يوم ليجمعهم تحت ظل جناحيه حتى يعبر الشر ... و هو لا ينادى فقط ، بل يجرى وراء الخروف الضال حتى يعيده إليه ، و لكن احذر ، فهذا لا يحدث إلى ما لانهاية .
ففى لحظة نلقى جزاء عنادنا ، حينما يتوقف الرب عن النداء و عن الجرى و عن النوسل ، ليقول للنفوس الجاهلة " كم مرة أردت و لم تريدوا " ، يقولها الرب و يبكى على النفس التى " لم تعرف زمان افتدقادها " ( لو 19 : 44 ) إذ يكون العدو قد اقتنصها و وقعت فى شباكه !

+ + + + + + + + + + + +

الشـــجــرة  الــتـى  بلا   تــــين !
موضوع شجرة التين يحتل جزءاً هاماً في هذه الأيام الأخيرة، وخاصة بعد أن بكى المسيح أُورشليم ورثاها وتنبَّأ بخرابها. فالمسيح وهو ذاهب من بيت عنيا إلى أُورشليم في الصباح جاع، فنظر شجرة تين من بعيد مورقة وكأنها مثمرة. فذهب نحوها ليأكل من تينها، فلمَّا وجدها غير مثمرة لعنها: لا يأكل أحد منكِ ثمراً بعد إلى الأبد " (مر 14:11) ، فيبست التينة في الحال. وقد كان. فقد مرَّ التلاميذ عليها في الغد فوجدوها أنها قد ذبلت. فهنا في الحقيقة قد حدثت معجزة !
لكن كل معجزات المسيح السابقة كانت بدافع المحبة وذاتَ ثمرٍ للمحبة واضح. فلماذا - إذن - هذه المعجزة وكأنها تأديب للتينة التى هى خليقة الله التى لا تحس ولا تشعر وبلا ذنب ؟. فهي بهذا تختلف كثيراً جداً عن باقي أعمال المسيح الأخرى، لأنه لم يأتِ ليهدم بل ليكمِّل ويشفي ويحيي!
أليس في هذا العمل تعبير عن مظهر الأُمة اليهودية التي تبدو كشجرة التين الخضراء الجميلة من الخارج، وهي من الداخل عفنة شبه ميتة و غير مثمرة البتة! عَمِلَ فيها صاحب الكرم ( الذى هو المسيح ) المستحيل ،  لثلاث سنوات مضت لكي تفْلَح فلم تفْلَح.
لقد عُرفت شجرة التين ـ فى العهد القديم ـ بين الأشجار الطيبة أنها تكني عن الأُمة اليهودية، وهذه الأُمة اليهودية رفعت يدها على مسيحها و خالقها و سعت لموته و إهانته و قتله فحكمت على نفسها بالهلاك .
لقد تركت إلهها مصدر الوجود والحياة، فحكمت على نفسها - قبل أن تحكم على المسيح  بالفناءو الموت . فالمسيح و هو يلعن شجرة التين فهو يعلن موت أمة اليهود ، بل و كل إنسان خاطىء يعمل فيه الرب و لا يستجسب ، أنظر يا أخى القارىء ، فليس اليهود فقط هم من تآمروا لقتل ربنا و أهانوه و صلبوه ، بل كل إنسان يقوم بهذا الأفعال بخطاياه ، كما قال مُعلمنا بولس عن الخطاة الذين سقطوا "إِذْ هُمْ يَصْلِبُونَ لأَنْفُسِهِمِ ابْنَ اللهِ ثَانِيَةً وَيُشَهِّرُونَهُ " (عب 6 :6).
إذاً فعندما نقرأ عن هذا اللعن لا نظن أنه موجه إلى اليهود ـ فقط ـ بل تحذير لأنفسنا أيضاً !


المسيَّـــا  يُـــطــهر  بــيــت  أبــيــه !
"و وجد في الهيكل الذين كانوا يبيعون بقراً وغنماً وحماماً، والصَّيارف جلوساً. فصنع سوطاً من حبال وطرد الجميع من الهيكل، الغنم والبقر، وكبَّ دراهم الصيارف وقلَّب موائدهم. وقال لباعة الحمام: ارفعوا هذه من ههنا. لا تجعلوا بيت أبي بيت تجارة." (يو 2 : 14 ـ 16)
  لقد تركهم الرب يدنسون هيكله تحت ناظريه لمده ثلاث سنوات منذ بدء خدمته و لم يحرك ساكناً ، بل و لم يذكر لنا الإنجيل المقدس أنه تفوَّه بكلمة واحدة يبدى فيها اعتراضه على هذا الذى يحدث فى بيته ، فلماذا الآن بالذات و هو داخل لُيذبح نيابة عن الجميع ، يخرج الباعة الصيارفة و كل الأشياء و الذبائح و الحيوانات المستخدمة فى العبادة الموسوية ؟

+ أولاً : لأنه قد  جاء ليعلن أنه هو الحق التى تعبر عنه الرموز المستخدمة فى عبادة العهد القديم ، فمجيئه يلغى كل تلك الرموز و الذبائح و التطهيرات جميعاً : فأمر أن تحمل تلك الأشياء المرتبطة بالناموس خارجاً حتى لو كانت تختص بالذبائح و محرقة البخور ، و أن هذا هو ما يعنيه بالتأكيد انتهار (المسيح) للباعة و طردهم من الأروقة المقدسة حينما كانوا يبيعون ما كان لازماً للذبائح  فهو قد جاء ليعلن انتهاء ظلال الناموس لكى يلمع الحق و يظهر الجمال و الطريق المسيحى و أمجاد الحياة النقية و الرائحة العقلية الحلوة التى للعبادة بالروح و الحق .. لأن الله رفض ذبائح اليهود لذلك طردهم من الأماكن المقدسة و يجعلهم خارج الحظيرة القديسين المقدسة .
+ تطهير الهيكل كوسيلة لإعلان ابن الله عن نفسه كرب الهيكل : و كونه المخلص و رب الكل فقد أظهر مجده لمنفعتهم حتى يؤمنوا به فبسبب أنه هو الرب فإنه يملك سلطاناً على الهيكل فهو يعتنى به ، و أيضاً يدعو الله أباه و ذلك ليعبدوه على انه هو مع الله الآب رب الهيكل .
+ و يتأكد سلطان المسيح على هيكل الآب لكونه هو رئيس الكهنة الأعظم الذى سيقدم نفسه كذبيحة من أجل خلاص الجميع :" أقسم الرب و لن يندم أنك انت هو الكاهن الى الأبد على طقس ملكيصادق" (مز 109 :4 س).. فأصل و بداءة وجود اسرائيل ذاته الذى بارك ابراهيم أبو الآباء أى تبارك بواسطة ملكيصادق لأن ملكيصادق و كهنوته كانا مثالاً للمسيح مخلصنا جميعاً الذى صار رئيس كهنتنا و رسول إعترافنا الذى يقرب الى الله الآب الذين يؤمنون به ليس عن طريق ذبائح دموية و تقدمات بخور بل يكملهم بالقداسة بواسطة خدمة اعلى من الناموس "لَنَا رَئِيسَ كَهَنَةٍ مِثْلَ هذَا ،قَدْ جَلَسَ فِي يَمِينِ عَرْشِ الْعَظَمَةِ فِي السَّمَاوَاتِ خَادِمًا لِلأَقْدَاسِ وَالْمَسْكَنِ الْحَقِيقِيِّ الَّذِي نَصَبَهُ الرَّبُّ لاَ إِنْسَانٌ " (عب 8 :1).. فهو لم يختلس سلطات الكهنوت اللاوى بل هو رئيس الكهنة الذى أقام هذا الكهنوت .
لذلك فتطهير الهيكل كان بمثابة إعلان آخر للمسيح عن نفسه كرب له سلطان على الهيكل ، و كرئيس الكهنة الأعظم ، و يضاف هذا إلى إعلانه عن نفسه كملك فى دخوله لأورشليم ، حتى يأتى الصليب و يعلن نفسه كمخلص العالم كله !


+ + + + + + + + + + + +

طَالِبُو  نَفْسِي  نَصَبُوا  شَرَكًا ( مز 38 : 12 )
لم يكن دخول المسيح أُورشليم بموكبه الملكي الظافر وآلاف الهتافات بهوشعنا يمرُّ بسلام على الفرِّيسيين، ومعه الإحساس بالمرارة التي خلَّفتها إقامة لعازر من الموت جهاراً وإشاعة الخبر في كل البلاد. وبلغ غيظهم القمة لمَّا رأوه يطرد الباعة من الهيكل بقوة وسلطان مثير. فقد تحرَّك الجزء الأكثر انفعالاً في مجمع اليهود ، السنهدريم ، لوضع نهاية حتمية للمسيح، بل أن الرب نفسه تعمد القيام بهذه الأفعال لكى يسرعوا هم أيضاً بالعمل الذى خططوا له فى السر ! و ها هى قد بدأت تحركاتهم و مؤامراتهم :
السؤال الأُول: بأي سلطان تفعل هذا؟ ومَنْ أعطاك هذا السلطان؟ " ( مت 21 : 23 )
السؤال الثاني: "أيجوز أن نعطي جزية لقيصر أم لا؟ نعطي أم لا نعطي؟ " ( مر 12 : 14)
السؤال الثالث: "في القيامة لمَنْ تكون زوجة؟" ( مت 22 : 28 )
السؤال الرابع:" أية وصية هي أول الكل؟" ( مر 12 : 32 )
السؤال الخامس: ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية ؟ ( مر 10 : 25 )


العــــذارى  المتألمـــــــات !!
كان يوم الثلاثاء من الأسبوع الأخير لرب المجد على الأرض ملىء بالتعاليم ، و لكن قمة و جوهر هذه التعاليم ، تلك التى قالها ربنا فى مثله عن العذارى العشر ، الحكيمات و الجاهلات !
يبدو هنا أن الرب يؤكد على حقيقة مجيئه الثانى ، لكن ما غرضه فى تقديم هذا التعاليم و هو فى قمة آلامه الخلاصية من أجلنا ، و فى قمة عناؤه النفسى من كثرة المؤامرات التى تحاك ضده فى الخفاء ، و فى العلن أيضاً ؟
إنه يريد أن يعطى تعزية للمتألمين و المجربين ، فهو قد أعطانا أن نكون مشتركين فى آلامه ، و متشبهين بموته ( فى 3 : 10 ) ، و ها هو يطمئنا أنه لن يتركنا هكذا إلى الأبد ، فلابد أن يأتى يوماً ما لينقذنا و ياخذنا و يريحنا من آلامنا و أتعابنا و يمسح كل دمعة من عيوننا !
لكنه سيجىء فى منتصف الليل ، بعد انتظار طويل ، بعدما يتأكد من صبرنا و احتمالنا و محبتنا له
إن مجد المستعدين الذين احتملوا هذه الآلام مع الرب،  سيبدأ عندما يظهر العريس ، لأن وجهه سيشرق لهم فيجعل وجوههم تضىء بالمجد ، حينئذ سيكونون معه حيث يكون هو ، لن يفرقه عنهم لا زمان أو مكان ، فعندما يظهر سيكونون معه فى الحال و لن يفصلهم عنه شىء " أيها الآب ، أريد أن هؤلاء الذين أعطيتنى يكونون معى حيث أكون أنا لينظروا مجدى الذى أعطيتنى " (يو 17 : 24 )
نعم سيقود المسيح الذين اشتركوا معه فى آلامه ، و صبروا و احتملوا و خرجوا من ضيقة هذا العالم منتصرين إلى السعادة الأبدية ، سيقودهم بنفسه لكى يشتركوا معه فى مجده ، لأنهم ذاقوا آلامه و غسلوا خطاياهم بدمه ، و استحقوا أن يعيشوا معه إلى الأبد ، و مصدر سعادتهم أن يروا وجهه كل حين و يفرحوا معه فى عرسه الأبدى !

+ + + + + + + + + + + +

محـــــبة ... و محـــــبة !
فى يوم الأربعاء من البصخة المقدسة ، تضع لنا الكنيسة فى قراءاتها ، موقفين متشابهين عن محبة الإنسان ليسوع المُخلص ، فإذا كانت الكنيسة تحدثنا فى كل أسبوع الآلام عن محبة الرب لنا حتى أنه احتمل الألم من أجلنا ، فهى فى هذا اليوم يظهر المقابل الذى يقدمه الإنسان لمخلصه !
تقدمت المرأة الخاطئة بقارورة الطيب كثير الثمن و سكبته على رجلى المسيح و مزجته بدموعها و مسحته بشعر رأسها ، فقال عنها المسيح أنها أحبت كثيراً لذلك غُفرت لها خطاياها الكثيرة .
و أيصاً تقدمت مريم أخت لعازر بقارورة طيب كثير الثمن و دهنت به قدمى المسيح و مسحت قدميه بشعر رأسها فقال عنها انها كفنت بالطيب جسده  !
ما أروع الحب الأول فقد استطاع أن يٌكفَّر عن كل الذنوب و الخطايا السابقة !
و ما أروع هذا الحب الذى استطاع أن يُكفن جسد المسيح ذاته ، إنه لم يُسمع قط أن هناك جسد قد تم تكفينه قبل الموت ، و لكن هذا هو جسد الرب يسوع الذى لن يرى فساداً " لن تدع قدوسك يرى فساداً " ( أع 13 : 35 ) ، و كون المسيح يعتبر سكب الطيب على قدميه كأنه تكفين ، فإنه يكشف لنا أنه كان واضعاً الموت على الصليب أمامه كهدف فى كل فعل يقوم به ، أو يسمح بأن يقوم به الإنسان من أجله !
  الحب الأول عاد بالخير على صاحبته ، و الحب الثانى كان للمسيح بلا مقابل !
ما أمجد الحب الخالص الذى بلا مقابل و بلا ثمن !
من هى مريم التى قدمت قارورة طيب بثلاثمائة دينار ؟ و لم تكن ملكة أو أميرة أو حتى ذات أموال بل هى إمرأة فقيرة ، قد جمعت كل أموالها و اشترت زجاجة طيب ..
إنه جنون المحجبة الذى هزأ به يهوذا اللص الخائن ، و قال عنه أنه اتلاف ، أما المسيح فمدحه جداً يهوذا قدره بالمال و ثمنه بالأسعار أما المسيح فقدره بالمحبة التى وجدها تفوق الأرض و ما عليها .
ياترى .. ماذا ستقدم أنت للمسيح فى ذكرى آلامه ؟؟؟

+ + + + + + + + + + + +

المُعــلم  يغســل  أرجــل  خــاصــته :
قصة غسيل أرجل التلاميذ في العشاء الأخير لا تأتي هامشية، بل تقع في صميم الإحتفال بالفصح المقدَّس، إذ تقول الرواية وهم جالسون للعشاء:
"قام عن العشاء، وخلع ثيابه (كما يفعل الخادم والعبد)، وأخذ منشفة واتَّزر بها - أي ربط وسطه كما يفعل الخادم - ثم صبَّ ماءً في مِغْسَلٍ، وابتدأ يغسل أرجل التلاميذ (وهم جلوس أمامه) ويمسحها بالمنشفة التي كان مُتَّزراً بها." (يو 13: 4و5) .
اندهش التلاميذ للمنظر وأخذتهم الحيرة كيف يتصرَّفون! لأن المسيح في مقام الكرامة العليا بينهم، فأن يقوم بعمل وضيع هو عمل الخدم والعبيد، أمر أربك مشاعرهم، ولكن لمخافتهم أغلقوا أفواههم ، وتبادلوا نظرات الحيرة والخوف، وجمدوا في أماكنهم دون حركة. غير أن بطرس كالعادة انفجر بالتذمُّر: » لن تغسل رجليَّ أبداً «(يو 8:13). ولكن في هدوء الأطفال ووداعة الحملان ردَّ عليه المُخلص و قال: » إن كنت لا أغسلك فليس لك معي نصيب «! فأنا أغسل عنك كبرياءك وادِّعاءك بالأولوية، لتصير مثلي عبداً ، لكى بعد ذلك تملك معي في مجدي ويكون لك معي نصيب! حتى يتعلَّم بطرس ومعه بقية التلاميذ العِبْرة من ذلك ، أن يعمل كعمل المسيح، أي ينزل إلى مستوى العبد، إن هو أراد أن يكون له نصيب مع المسيح العبد الذي يخدم البشر وهو الإله.
وبالرغم من أن بطرس لم يفهم إلاَّ التهديد فقط فَقَبِلَ، بل طلب غسيل يديه ورأسه أيضاً. لكن المسيح أقنعه أن الذي اغتسل (اعتمد) فهو طاهر لا يحتاج إلاَّ لغسل رجليه (للإتضاع).

+ + + + + + + + + + + +

الجــســد المــقــدس و الــدم الـــكريم !
فى هذا اليوم .. جلس يسوع مع تلاميذه وكشف لهم عن سر العهد الجديد فى مغفرة الخطايا و نوال الحياة الأبدية ، لقد أسس لهم سر الإفخارستيا ، و هو حضور جسده و دمه فى الخبز و الخمر الذى بين إيديهم ، لم يؤسس الرب هذا السر فى بداية خدمته، أو بعد المعمودية مباشرة و لكن أخَّره فى "الليلة التى أُسلم فيها" فحينما انتهى من كل تعاليمه و أكمل كل حبه و سلم لتلاميذه كل أسرار علاقته بالآب ، و عندما أحس بدنو ساعة موته ، أعطى تلاميذه سر من أعظم أسرار الوجود الإنسانى ، جسد الإله مكسوراً من أجلنا لكى نأكله و نحيا به ، و دمه الكريم مسفوكاً من أجل خطايانا لكى ننال به الغفران و التطهير !

إنه هو جسده و دمه بالحقيقة ، و ليس مجرد رمز أو خيال :
[ و لكونه هو نفسه تكلم و قال عن الخبز " هذا هو جسدى" فمن يجسر بعد أن يرتاب ؟ ، و لكونه هو نفسه ثبت و قال "هذا هو دم " ، فمن يتوهم أن يقول أنه ليس دمه ، لأن الذى حول وقتاً ما الماء إلى خمر فى قانا الجليل بإشارته ، أفليس مصدقاً إذا قال أنه حول الخمر إلى دم ؟]
القديس كيرلس الأورشليمى.
[ كم منكم يقول الآن ليتنى كنت أرى هيئة الرب و شكله و ملابسه ، أنت تنظره و تلمسه و تأكله هو نفسه ، و أنت تشتهى أن عترى ملابسه ، مع أنه يعطيك ذاته لا لتراه فقط بل لتلمسه أيضاً و لتأكله و لتأخذه فى داخلك ]

و قد أعطاه لنا الرب للخلود و الحياة الأبدية :
قال القديس بولس الرسول : " الذى فيه لنا الفداء بدمه " ( أف 1 : 7 )
قال القديس يوحنا اللاهوتى : " دم يسوع المسيح ابنه يطهرنا من كل خطية " ( 1 يو 1 : 7 )
[ إثبتوا أيها الإخوة فى الإيمان بيسوع المسيح ، مقسمين نفس الخبز الواجد ، الذى هو دواء الخلود ، و ترياق عدم الموت ]
القديس أغناطيوس الأنطاكى.
[ عندما ترى المائدة معدة قدامك قل لنفسك : من أجل جسده لا أعود أكون تراباً و رماداً ، و لا أكون سجيناُ بل حراً ، من أجل هذا الجسد أترجى السماء و و أتقبل الخيرات السماوية ، و الحياة الخالدة ، و نصيب الملائكة ، و المناجاة مع المسيح ، لقد سُمر هذا الجسد بالمسامير و جلد ، و لا يعود يقدر عليه الموت ، إنه الجسد الذى تخصب بالدماء و طعن ، و منه خرج الينبوعان المخلصان للعالم ، ينبوع الدم و ينبوع الماء ]
القديس يوحنا ذهبى الفم .
[ ثم أعطانا دواء آخر لمن اخطأ بعد تنقية المعمودية و تدنس بالذنوب ، و هو القربان الذى يغفر الخطايا لمن تقرب إليه بالإيمان به أنه جسد المسيح و دمه .. حقاً أعطانا إياه لمغفرة خطايانا ]
[ إن اتحادنا بالمسيح ، بتناولنا من جسده ومده .. أسمى من كل اتحاد ! ]
القديس أثناسيوس الرسولى .
 [ إن تناولت منه قليلاً ، أو شربت منه كثيراُ ، فإنك تنال نعمة الفداء عينها كامله بهذا المقدار ]
القديس امبروسيوس
 [ هب لأجسادنا نمواً فى النقاوة ، و لنفوسنا نمواً فى الفهم و المعرفة خلال تناولنا الجسد و الدم ]
القديس سيرابيون
لأ إن جسد الرب يتحد بجسدنا على نحو لا يلفظ به ، و دمه أيضاً الطاهر يصب فى شرايننا ، و هو كله بصلاحة الأقصى يدخل فينا ]
القديس مار إفرام السريانى.
بالإفخارستيا  نصير فى  السماء  عينها :
 [مادمنا قد صرنا سمائيين ، و حصلنا على ذبيحه كهذه فلنخف ، لأنه لا يليق بنا أن نستمر فى زحفنا على الأرض ، فإنه يستطيع من يريد منا ألا يكون على الأرض من الآن، إذ نقترب من الله نصير فى السماء ، بل ماذا أريد من السماء إذا كنت أريد رب السماء و صرت أنا نفسى سماء !]                  القديس يوحنا ذهبى الفم

+ + + + + + + + + + + +

أعــبر عــنى هــذه  الـــكـــأس !
إن أعنف صلاة سُمع بها لدى كل البشر لا تبلغ قوة صلاة المسيح فى بستان جثسيماني ، فمحور الصلاة الحزينة الكئيبة الضاغطة على النفس في جثسيماني كان شيئاً واحداً وهو الكأس؟ هذا هو الذي أفزع المسيح وأحسَّ أنه غير قادر على شربه حتى ولو كان بيد الآب!! طلب ثلاث مرات أن يجوز عنه هذا الكأس وكان طلبه مشفوعاً بدموع وتوسلات ونفس حزينة حتى الموت.
 هذا هو الكأس ، إنه كل خطايا البشرية وفضائح بني الإنسان التي سُجِّلت والتي لم تُسجَّل، حملها كلها ليموت بها كلها من أجل الخطاة. هذه هي التي كسرت نفسه قبل أن ينكسر الجسد على الصليب، وأحزنته حزن الموت أعمق من الموت الذي ماته على الصليب ألف مرَّة!
لكنه أطاع أبيه .. و شرب هذا الكأس أيضاً !
هذه الصلاة التى كانت فى البستان ؟؟ هل ياترى يتذكر الإنسان البستان ؟؟ إنه يمثل الفردوس الأول الذى طُرد منه أبونا آدم ، لكن بالمسيح فيه تمت عودتنا الى الحالة الإنسانية القديمة الأصلية فى البستان بدأت متاعب البشرية و لكن فيه أيضاّ بدأت آلام المسيح التى اتت بالنجاه من كل الشرور التى حدثت لنا لا سيما فى القديم .


أنا هـــــــو !
لما سلم المسيح نفسه لهؤلاء القتله ، عندها قال لهم " أنا هو " ، كان هذا ليتعلموا أن آلامه لم تحدث له بدون إرادته الخاصة فهو سلم نفسه لكى يتألم عارفاً تماماً أن آلامه على الصليب هى لخلاص العالم ، و قد أكد على سلطانه مراراً و تكراراً ، فاليهود حاولوا رجمه من قبل لكنه هرب منهم بقوته الإلهيه و صار غير مرئى ، لأنه لم يكن يريد أن يتألم لأن الوقت الخاص بآلامه لم يحن بعد و لكن لما حان الوقت ذهب و سهل للخائن يهوذا أن يجده فى البستان الذى كان معتاداً أن يجتمع فيه مع تلاميذه .


لمــاذا يـــا بــطـــرس ؟
ليلة الجمعة العظيمة ، ينشغل الناس بسؤال غالباً ما يحيرهم ، و هو لماذا أنكر بطرس مُعلمه ؟ ، و يقدم لنا القديس كيرلس الكبير عمود الدين ـ ذو الشخصية الرقيقة المُحبة ، تفسيراً من نوع خاص ، فبالرغن من أنه يقر بخطية بطرس ، لكنه يقدم لنا مُبرراً عن سبب هذه الخطية !
نعم ... فبطرس كان يحب المسيح ، وهو لم يقف خارج الدار لأن حرارة غيرته من نحو المسيح لم تكن قد بردت ، و لأجل عدم رغبته فى أن ينفصل عن المسيح الذى أحبه أضطر أن يجارى العبيد الحاضرين معه لئلا يطرد خارجاً حيث أعطى إنطباعاً أنه أحد المعروفين فى دار رئيس الكهنة رغم أنه مثقل بالحزن  و يحمل ثقيل الآلام فى قلبه و لكن لا يظهر حزنه لكى لا يطرد خارجاً و تغلق الأبواب و تحول بينه و بين من يحبه !
أما عن سبب الإنكار فلم يكن بطرس خائفاً من القبض عليه و لا تردد فى الإعتراف و إنما ظن أنه إذا راوغ من السؤال فإنه يستطيع البقاء داخل الباب ، و هو يريد أن يبقى ليتابع ما يحدث للمسيح مهما كان الأمر ، و لذلك أنكر رغم ما فى الإنكار من شر ، و هكذا نبع تعديه و انكاره من محبة خاطئة فانكاره أساسه محبة الله و لم يكن مجرد جبن و خوف مفاجىء أو عن مفاضلة بين الإنكار و خطر الاعتراف ، لذلك فإن انكار بطرس شهادة لرغبته الحارة فى أن يبقى مع المسيح !

لكن لا يجب أن ننسى أن خطيته هذه كانت بسبب ضعف الطبيعة البشرية لأن المسيح لم يكن قد قام بعد من الأموات و لم يكن الموت قد أبيد بعد و لا أزيل الفساد و أن مجابهة الموت كانت لا تزال أمر يفوق احتمال البشر ، فهو قد أدين من ضميره الشخصى الذى تبرهن ببكاءه علامة لتوبته ، بكى بمرارة ، نهض بشجاعة مرة أخرى و لم يفقد الهدف لأنه استمر على نفس الوضع الذى كان عليه أى تلميذ حقيقى فعندما انكر المسيح نال رجاء الغفران لأنه رجع و ثبت أخوته كما قال المسيح .
ليتنا لا ندين بطرس !


+ + + + + + + + + + + +
المراجع :
+ أقوال مضيئة لآباء الكنيسة.
+ تفسير إنجيلى لوقا و يوحنا / للقديس كيرلس الأسكندرى ـ المركز الأرثوذكسى للدراسات الآبائية .
+ مع المسيح فى آلامه حتى الصليب / للأب متى المسكين .
+ المسيح حياته و أعماله / للأب متى المسكين .