استـفـزازات !
Provocations
."كتاب مُترجم للفيلسوف المسيحى "سورين كيركيغارد
[[[ إنَّ ما أحتاج إليه حقاً هو التوافق مع
ذاتى، و فِهم قدرى و ما يريد منى الله أن أفعل، إنَّ ما يهم هو اكتشاف حقيقة تكون
"حقيقية" بالنسبة لى، و أن أجد تلك الفكرة التى أعيش و أموت من أجلها،
فليست الحقيقة سوى أن تعيش من أجل فكرة !]
فى عصر أحد أيام صيف 1835 م، و
بينما هو جالس وسط حقول أزهار الـ"ألبا" الشهيرة، مستمتعاً بتلك
النَسَمة الخفيفة التى كانت تداعب وجهه الرقيق ـ فى مصيف"جليليج" على
الساحل الدنماركى ـ دوَّن الشاب "سورين كيركغارد" فى يومياته تلك
الكلمات السالفة، التى لا تُعبِّر ـ فقط ـ عن بدء رحلة طالب اللاهوت ذا الاثنين و
العشرين ربيعاً فى البحث عن مفهوم فلسفى شخصى لحياته ، بل تُنذر ببدء كتابة فصل
جديد فى تاريخ الفكر البشرى ، معه، ستُجَدِد الإنسانية ذلك العَجَز و الفتور الذى
أصابها على يد فلاسفة القرن السابع عشر، فَصل، سيحتل فيه "الفرد"
الأهمية القصوى و يلعب فيه دور البطولة بلا أى مُنازع أو غريم ! ]]]
م . استفزازات
كان هذا ما كتبته
كـ"افتتاحية" لمقدمة أحد الأعمال المترجمة، لنبى الإنسانية الجديد
"سورين آباى كيركيغارد" ،و هو عمل مُجمَّع من كتاباته، ذات التوجه
الإنسانى المسيحى، المرتكز على غِنى كلمة الله، و الإختبار المأساوى الذى عاشه هذا
المفكر الدانماركى فى سنى حياته الاثنين و الأربعين .
كتبتها ... بعد ما يقرب من
الثلاثة أشهر، من تلك الجلسة الممتعة التى حدثنى فيها صديقى العزيز "د/ فادى
فيكتور" ـ و كان يترجم بعض أعمال كيركيغارد ـ عن ذلك المُفكر الغربى الذى صار
مؤسساً لتيار "الوجودية المسيحية" فى تاريخ الفكر الإنسانى برمته ،
قراءاتى الفلسفية آنذاك كانت لاتزال فى بدايتها القاصرة، الأمر الذى لم يُمكنِّى
من متابعة حديثه باستيعاب كامل، لكنى لم أكن أتوقع أن تلك الجلسة القصيرة سوف تفتح
أمامى باباً فكرياً جديداً، أُدرك من خلاله كل هذا الغِنى الإنسانى الرائع فى
الفكر المسيحى الغربى ـ غير الأرثوذكسى، و أتعرف على "فيلسوفى" الوجودى
الأول الذى قضيت معه أروع لحظات فكرية مرَّت علىَّ فى تاريخ قراءاتى !
و بإعتبارى قارىء لبعض الدراسات
التحليلية عن "كيركيغارد" ،طلب منى هذا الصديق "قراءة" ذلك
العمل المترجم عن الإنجليزية، فى تعريـبه ،قرأته فى ساعات قلائل بشغف كبير كما هى
عادتى مع كلمات "كركيغارد"، اشتركت فى
تعديل بعض الصياغات البسيطة، و اقترحت عليه كتابة "مقدمة" صغيرة، رسمت
فيها صورة عامة موجزة عن حياة "كريكيغارد" و الهاجس الذى كان يسيطر عليه
أثناء تلك الحياة القصيرة ، الغنية، مع فقرة نقدية غير مستفيضة !!
كتبت المقدمة فى 900 كلمة، و هو عمل بسيط فى مقابل عمل الترجمة التى قام بها : د.مينا مدحت، د. فادى فيكتور، بالحقيقة لم أكن أستحق أن يوضع اسمى على غلاف الكتاب بصفتى "مُراجِع" له، و هو الأمر الذى من أجله أشكر محبة المترجمين جزيل الشكر
كتبت المقدمة فى 900 كلمة، و هو عمل بسيط فى مقابل عمل الترجمة التى قام بها : د.مينا مدحت، د. فادى فيكتور، بالحقيقة لم أكن أستحق أن يوضع اسمى على غلاف الكتاب بصفتى "مُراجِع" له، و هو الأمر الذى من أجله أشكر محبة المترجمين جزيل الشكر
J
إليك أخى القارىء مقتطفات من
تلك "المقدمة"، القصيرة :
[[[ ... ليس"الأب" و "الحب"
فقط هما من شكََّلا شخصية كيركغارد المأساوية و اللامعقولة، فلكى يكتمل الثالوث
الإنسانى الكريجورى، كان لابد أن تشتعل شرارة الحرب المقدسة التى خاضها و ناضل
فيها بضراوة و خرج منها منتصراً للإنسان ! ،إنها سلسلة من المعارك التى أدارها ضد
الكنيسة اللوثرية الرسمية آنذاك منذ انتقاده للأسقف "مينستر" على أنه لا
يمثل المثال المسيحى الصارم، فيها نجده كمقاتل شرس عن"التفرد المسيحى"
ضد كل أشكال التغرب الإنسانى عن الله، حتى داخل المسيحية الحاضرة التى اتخذت من
الحشد و التكتل سُبلاً أفقدت بها الوجود الإنسانى وزنه و جماله !
أما تلك الحركة الوجودية ـ أو
قل "الإنسانية" ـ التى أحدثها كيركغارد فى مسار الفكر الفلسفى شديد
العقلانية، فهى "وجودية حياتية" تهتم دوماً بمعنى أن يوجد الفرد ككائن
إنسانى ، أو كيف يمكن للمرء أن يحيا كموجود إنسانى ( على نحو ما يقرر بريتيوف برانت)
، إنها وجودية تركز على الفرد الإنسانى فى معاناته و قلقه و سعيه فى سبيل الله،
غير عابئة بالمعقول و العالم العقلى ، إنسانية بحتة باحثة عن العبث و اللامعقول فى
كل ما هو قلبى و ذاتى و شخصى !
على شاهد قبره أوصى كيركغارد بنقش شعر
"برسون":[ لحظة قصيرة، ثم أنتصر، ثم أنَّ كل المُعاناة تكون قد ولَّت فى
التو، و حينئذ يمكننى أن أستريح فى الوديان الحلوة، بشكل دائم، و مع المسيح أتكلم
!]، و هكذا انِتقل "نبى الإنسانية" عام 1855م ، عن عمر الثانية و
الأربعين بعد أن شهد حياة مليئة بالمآسى الروحية، انتقل إلى
ذلك"المُطلَق" الذى طالما ناداه، مُعطياً الإنسانية أملاً جديداً ! ]]]
+ + +
و الكتاب حقاً ملىء بالاستفزازات!! ، استفزازات للروح الإنسانية التى
يدعوها أن تُجدد شبابها فى ضوء كلمة الله و الإيمان "غير المعقول" به،
استفزازات "للإيمان" لكى يتخلى عن الطبقات التاريخية، الشكلية التى
احاطت به فى سبيل تكوين علاقة شخصية بالمُخلِّص، استفزازات – متميزة- للفكر ، كى يتخلى عن سياسة القطيع، و لكى لا يحدد علاقته الخاصة بالله فى ضوء أفكاره المسبقة
يقع العمل فى ما يقَرب من الـ (
130 ) صفحة ،لم يَصدُر بشكل فعلى فى المكتبات، لكن من المُزمَع توزيعه فى:
1- دار النشر الأسقفية
2 – مكتبة النيل المسيحية
3 – مكتبة الحرية
يحتوى على 20 مقال من تأليف هذا
العملاق الفلسفى، كلها مُقتطعة من أعماله ذات التوجة الدينى الإنجيلى بشكل خاص :
1 ـ استفزازات .
2 ـ أعمال المحبة .
3 – واحدة سألتُ
4 – إما .../ أو ...
5 – أن تجرؤ على اتخاذ قرار .
6 – الخطر الأكبر .
7 – الدعوة .
8 – تعويذة النوايا الحسنة .
9 – ضد الحشد .
10 – ينبغى أن ذاك يزيد ( و هى من أحب المقالات إلى قلبى )
11 – نقاوة القلب .
12 – لؤلؤة كثيرة الثمن .
13 – انتصار الحُب .
14 – حِب الإنسان الذى تراه (1)
15 – حِب الإنسان الذى تراه (2)
16 – من هو قريبى ؟
17 – الحُب الأعظم .
18 – المحبة تبنى .
19 – السن بالسن .
20 – المحبة تَثبُت .
+ + +
إليك أخى القارىء مقتطفات من
مقال "حِب الإنسان الذى تراه"، الذى يتحدث فيه العظيم "سورين"
عن المحبة المسيحية غير المشروطة لكل من هو "آخر" !
حِـب الإنـسان الذى تـراه !
"إِنْ
قَالَ أَحَدٌ:«إِنِّي أُحِبُّ اللهَ» وَأَبْغَضَ أَخَاهُ، فَهُوَ كَاذِبٌ. لأَنَّ
مَنْ لاَ يُحِبُّ أَخَاهُ الَّذِي أَبْصَرَهُ، كَيْفَ يَقْدِرُ أَنْ يُحِبَّ اللهَ
الَّذِي لَمْ يُبْصِرْهُ؟"(1يو 4: 20 )
[ أن تُحب الآخر رغم ضعفاته و أخطاؤه، و نواقصه، ليس هذا
هو الحُب الكامل !، أن تُحب هو أن ترى الآخر جميلاً على الرغم من كل ضعفاته و
اخطاؤه و نواقصه، لنفهم بعضنا البعض !
لنفترض أن هناك رسامين، و قال أحدهما: " لقد سافرت
كثيراً حول العالم و رأيت كثيراً، و ضاع سعيى لإيجاد وجه يستحق الرسم سدى، لم أجد
وجه له جمال كامل يجعلنى أتخذ قرار رسمه، فى كل وجه كنت أرى عيب، لذلك ضاع سعيى
سُدى !!!" ، هل يبين هذا الكلام أن هذا الرسَّام كان رسَّاماً عظيماً ؟!
على النقيض، قال الثانى: "حسناً ... لا أتظاهر
بكونى رسَّام ماهر جداً، و أنا أيضاً لم أسافر كثيراً، و لكن فى دائرة معارفى
الصغيرة، لم أجد وجه قبيح أو ملىء بالعيوب، لدرجة تجعلنى غير قادر على تمييز
الجوانب الجميلة فيه، و اكتشاف شىء رائع فى هذا الوجه، لذلك أنا سعيد بممارسة
الرسم، و مع ذلك أنا لا أدَّعى إنى رسام" ... ألا يبين هذا الكلام أن هذا
الإنسان رسَّام عظيم؟!
من الشائع جداً أن نتحدث عن مواصفات الإنسان، الذى نريد
أن نحبه قبل أن نحبه! أن هذا لوضع مقلوب و مُحزن جداً، ليس من المفترض أن تجد
إنسان حسب ذوقك، بل أن تُحب الإنسان الموجود أمامك – سواء أُعطى لك أو أنت من
اختاره – و أن تستمر فى البحث عن أسباب تجعلك تحبه، بصرف النظر عن كون هذا الإنسان
قد يتغير أو لا، الحُب هو أن تُحِب الإنسان الذى تراه، كما جاء فى رسالة يوحنا :"إِنْ قَالَ أَحَدٌ «إِنِّي أُحِبُّ اللهَ»
وَأَبْغَضَ أَخَاهُ، فَهُوَ كَاذِبٌ. لأَنَّ مَنْ لاَ يُحِبُّ أَخَاهُ الَّذِي
أَبْصَرَهُ، كَيْفَ يَقْدِرُ أَنْ يُحِبَّ اللهَ الَّذِي لَمْ يُبْصِرْهُ؟"(1يو
4: 20 ))
كيف نظر المسيح لبطرس عندما أنكره ؟!، هل نظر له نظرة
اشمئزاز و رفض ؟!، بالطبع لا، فقد كانت نظرته له مثل نظره الأم لابنها عندما يكون فى
خطر بسبب طيشه و رعونتنه، و لأنها لا تستطع أن تصل إلى طفلها، لتنقذه من الخطر، فإنها
تفاجئه بنظرة تأنيب تنقذه من الخطر، هل كان بطرس فى خطر، إذاً ؟!!، للأسف أننا لا
ندرك كم يكون خطير على الإنسان أن يخون صديقه، و الصديق المجروح ربما لا يدرك فى
خِضَم غضبه و ألمه أن صديقه فى خطر !، و مع ذلك فإن المخِّلِّص ادرك أن بطرس هو
مَن فى خطر، و ليس هو!!، و أن بطرس هو مَن فى حاجة إلى الإنقاذ، مخلِّص العالم لم
يرتكب غلطة اعتبار أن تعبه قد ضاع لأن بطرس لم يسرع لمساعدته، و لم ينظر إلى بطرس
على أنه ضال لأنه لم يُسرع لمساعدته
!!
!!
إنَّ حُب المسيح لبطرس كان غير مشروط، فى حبه لبطرس حقق
"حُب الإنسان الذى تراه"! ، فهو لم يَقل : " بطرس ... عليك أن
تتغير أولاً و تكون إنسان آخر قبل أن استطيع أن أحبك ثانيةً" ، لا ، فقد قال
العكس تماماً : " بطرس .. أنت بطرس، و أنا أحبك على حالك، و الحب هو ما
سيساعدك أن تكون إنسان مختلف" !
فالمسيح لم يقطع علاقته ببطرس، و بعد ذلك جَدد العلاقة
مرة أخرى، بعد أن أصبح بطرس إنسان مختلف، لا ... بل حافظ على الصداقة و بهذه
الطريقة ساعد بطرس كى يتغير !
هل تعتقد أن
بطرس كان ليتوب دون هذا الحُب المُخلِّص؟؟! نحن البشر الأغبياء نظن أنه إذا تغير
إنسان إلى الأسوء، أصبحنا معفيين من محبته، يا لهذا التناقض !!!، معفيين من محبته
!، و كان محبته كانت بالإكراه !، قيد نريد أن نكسره و نفر!، إذا كانت هذه هى رؤيتك
للإنسان، فأنت فى الحقيقة لا تراه، أنت لا ترى إلا عدم الإستحقاق و العيوب، و هذا
إعتراف أنك عندما أحببته لم تعرفه !، و لكنك رأيت مميزاته .
المحبة الحقيقية هى أن تحب الإنسان بصرف النظر عن عيوبة
و مميزاته، فمن يحب المميزات لا ينظر إلى الإنسان، و إنما ينظر من خلاله، فهو لا
يحبه حقاً، لأن محبته تزول بمجرد زوال تلك المميزات، لكن حتى مع حدوث تغيرات سيئة
لشخص ما،فهو يظل موجوداً، لا يزول مع ميزاته، و الحب لا يتبخر فى الهواء، بل يبقى
و يصمد مُوَجهَّاً لنفس الشخص، حتى مع كل ما حدث له من تغيرات، سواء كانت جيدة أو
سيئة، هذا لأنه لايزال يرى نفس الشخص حتى مع كل ما مر عليه من تغيرات!، الحُب
الإنسانى يتطاير مع إختفاء مميزات المحبوب، لكن الحب المسيحى، يبقى رغم العيوب و
الضعفات، يبقى رغم كل التغيرات، و يستمر فى حثب نفس الشخص الذى يراه !!
يا للأسف! ، فنحن عادةً ما نتكلم عن إيجاد الشخص الكامل
كى نحبه، و لكن المسيحية هى أن الإنسان الكامل "هو من يُحِب الإنسان الذى
يراه !" ، فنحن البشر دائماً ما نبحث عن الإنسان الكامل، لكن المسيح نظر إلى
الأرض و أحب الإنسان الذى يراه !
إذن، إذا كنت تريد أن تكون كاملاً فى محبتك، فَحب
الإنسان الذى تراه كما هو، بكل نواقصه و ضعفاته، حبَّه و كأنك تراه بعد أن تغَّير
تماماً، أو أنه لم يعد يحبك، أو ربما تحول لحب شخص آخر، .. حِبَّه و أنت تتخيله
يخونك أو ينكرك، حِب الإنسان الذى تراه، و ابحث فيه عن صورة من تُحِب !!! ]
+ + +
لماذا قرأت "كيركيغارد" ؟!
حسناً .. لماذا و أنا إنسان حامل الإيمان المسيحى الشرقى الأرثوذكسى ـ عن
قناعة و قوة يقين ـ أقرأ لأحد الفلاسفة ذى الخلفية اللاهوتية اللوثرية من أمثال
كريكيغارد ؟
دعونى أُعدِد الأسباب فى إيجاز شديد، لأن كل منهم يستحق قراءة دراسية منفصلة فى
الفكر الكيركيجورى :
أولاً : القيمة الفلسفية و الإيمانية :
ينزل كيركيغارد عند أهل "الوجودية" منزلة الإثيل، ففى عام 1919م،
نشر" كارل ياسبيرز" كتابه" سيكولوجية النظرة الكلية للعالم" ،
فيه ، قد قدَّم الحركة الوجودية العالمية على أساس كيركغاردى ، بعدها بثمانى سنوات
نشر الفيلسوف الوجودى الملحد " هيدغر" كتابه " الوجود و
الزمان" الذى أشار فيه إلى أن كيركيغارد هو مؤسس الوجودية
لذلك جائت كتابات كيركيغارد بمثابة "ثورة" متمردة على النزعة الهيجيلية العقلية المُجرَّدة السائدة فى عصره، فى هذه الأعمال قد طوَّر الكثير من الأفكار الإيمانية التى أسست فيما بعد ما عُرف بتيار الوجودية المؤمنة و ذلك فى مقابل الوجودية الملحدة عند سارتر و هيدغر ـ تلك الحركة الإلحادية التى نقدها المفكر الأرثوذكسى "كوستى بندلى" فى كتابه " إله الإلحاد المُعاصر"
أهم ما يميزه هو ذلك الإتجاة الإنسانى الطاغى
على كل أعماله ، فهو يُقدم المسيحية على أنها "رسالة إلهية" لهذا
الكائن المضطرب المدعو "إنساناً" ! ، نجده كـ "بنَّاء حكيم"
على للأساس الأنثروبى المسيحى الذى ترسخ قبله بثمانية عشر قرناً من الزمان !
بعد أن يدرك دارس التاريخ الفلسفى ذلك الفقر القاحل الذى أصاب الفلسفة
الحديثة ، فإن قراءة كيركغارد تعتبر بمثابة نسمة هواء عليل يهب فى صفوف الفلسفة
النظرية، فالقرن السابع عشر كان يسمى "عصر المنطق" من وجهة نظر معرفية،
و القرن الثامن عشر كذلك ، ليس بسبب التمييز بين الإتجاهين المنطقى و التجريبى ـ
كما كان الحال فى السابع عشر ـ بل بسبب "تعظيم" دور المنطق حتى فوق
الإعلان الإلهى !
لذلك جائت كتابات كيركيغارد بمثابة "ثورة" متمردة على النزعة الهيجيلية العقلية المُجرَّدة السائدة فى عصره، فى هذه الأعمال قد طوَّر الكثير من الأفكار الإيمانية التى أسست فيما بعد ما عُرف بتيار الوجودية المؤمنة و ذلك فى مقابل الوجودية الملحدة عند سارتر و هيدغر ـ تلك الحركة الإلحادية التى نقدها المفكر الأرثوذكسى "كوستى بندلى" فى كتابه " إله الإلحاد المُعاصر"
لكن فى حين كان سارتر معاد تماماً للمسيحية، و لجميع أشكال الإيمان بالله،
الذى اعتبره بمثابة "مسترق نظر كونى" يُفقد الإنسان حريته، و قرر أن الإنسان
هو "عاطفة لا نفع لها"، حتى أنه أصدر أكثر أعماله كآبة و هو كتاب صغير
عنوانه يتكون من كلمة واحدة، بها يعبر عن شعوره تجاه الوجود الإنسانى برمته، هذه
الكلمة هى "الغـثيان" !
على النقيض تماماً يقف كيركيغارد مُدافعاً عن "المفارقة
العظمى" فى الوجود الإنسانى برمَّته، و هى "تجسد الله فى التاريخ"،
أن الله قد إتحد بالإنسان فى لحظة مفارقة إيمانية عجيبة [ الإعتقاد بأن ما هو أبدى
و إلهى قد دخل الزمان، و عن طريق ذلك الدخول نصبح على ثقة قلبية من الغفران
الإلهى، و على ذلك نهب أرواحنا و قلوبنا إلى الأبدى ... ]، لقد أصبح الإلهى إنسانى
، و الإنسانى إلهى [ إن القول بان فرد إنسانى هو الله، هنا تكون المسيحية، و هذا
الفرد هو الإنسان الإلهى !] فلحظة التجسد هى لحظة أبدية حاسمة، فيها يتحد الخاطىء
مع الله المطلق فينال الغفران
"وجودية" كيركيغارد مشبعة بالمسيحية المؤمنة ، ذات الطابع الشخصى
الذى لن يتحقق إلا بإجتياز الفرد المسيحى للحظة المفارقة الإيمانية تلك فى حياتة
الخاصة ، و إذا كان "سورين" هو مؤسس التيار الوجودى برمته، إذاً، ففكره
"الإيمانى" هذا يعطى لنا الصورة النقية لما يسمى "وجودية" !!
، الأمر الذى دفع ريجيس روليفييه إلى القول : [ إن الوجودية الحقَّة هى المسيحية ،
أو بتعبير أدق " صيرورة الإنسان مسيحياً ] !
ثانياً : القيمة الإبستمولوجية (المعرفية) :
الأمر هنا يتعلق بنا نحن كأبناء الكنيسة الأرثوذكسية التقليدية، فلقد
تعودنا بحكم تراثنا على الإنحصار فى أنماط الفكر "الهلينية – اللاتينية"
، حتى داخل الدوائر التى من المفترض أنها "منفتحة" على نحو ما، و هى
الأوساط المهتمة بالدراسات الآبائية ـ بحكم واقعنا الكنسى الراهن ! و هذا الموقف
يحتاج إلى مراجعة حتمية
و الحُجَّة بسيطة جداً، فعصرنا الحالى يُصنَّف
على أنه :
ـ "العصر ما بعد الكانطى" Post-Kantian Era
و إيمانويل كانط هذا
هو الرجل الذى قدم النقد الأكثر
تدميراً للإيمان الكلاسيكى بالله الواحد، و تعتبر جميع الحركات الفلسفية التى قامت
فى القرنين الثامن عشر و التاسع عشر تعود جذورها إلى بعض جوانب العمل الذى أسسه هذا
الفيلسوف
أعُنى أن الفكر الإنسانى قد تعرض لتطورات "ثورية" لا يمكن تجاهلها بسهولة عند دراسة الإيمان المسيحى، و أُحدث فيه تغيرات فلسفية لا يمكن إنكار آثارها عند تقديم هذا الإيمان إلى أبناء عصرنا، الأمر الذى يتطلب منَّا المزيد من الإنفتاح، و رحابة الفكر، حتى و لو كانت تلك الرحابة سوف تشمل فكراً حديثاً ( غير تقليدى ) و بروتستانتياً (غير أرثوذكسى) و وجودياً ( لم نعتد عليه) !!!
أعُنى أن الفكر الإنسانى قد تعرض لتطورات "ثورية" لا يمكن تجاهلها بسهولة عند دراسة الإيمان المسيحى، و أُحدث فيه تغيرات فلسفية لا يمكن إنكار آثارها عند تقديم هذا الإيمان إلى أبناء عصرنا، الأمر الذى يتطلب منَّا المزيد من الإنفتاح، و رحابة الفكر، حتى و لو كانت تلك الرحابة سوف تشمل فكراً حديثاً ( غير تقليدى ) و بروتستانتياً (غير أرثوذكسى) و وجودياً ( لم نعتد عليه) !!!
أليس هذا هو "تَقدُّم التقليد المقدس" كما نتحدث عنه دائماً؟؟!،
فظهور أنظمة فكرية "إنسانية" جديد – تلك التى تفرعت من النظام الكانطى
الرئيسى _ مثل : الوجودية، المثالية، الجدلية، البرغماتية، الفينومبنولوجية
(الظاهراتية) ، يستتبع معه تقدم "الإنسان"، و التقدم الإنسانى يلزم تقدم
التقليد الذى أعطاه الرب و وضعه فى الكنيسة، فقط، من أجل الإنسان!!
إنه إذاً تحدى !! فالقدرة على مخاطبة إنسان هذا العصر، بكل ما استجد
عليه من نسق فكرية لم تكن فاعلة فى النظام الفكرى الهلينى ( الذى نتجرعه حتماً
بحكم تراثنا ) ، هو الدليل الأسمى على إلهيَّة و أصالة الأرثوذكسية !
و يُقدِّم الفكر الكريكيغاردى مناقشات ثريَّة حول اثنتين من أهم مشاكل
"الإبستمولوجيا" فى التاريخ المسيحى
+ المفارقة بين المعقول و اللامعقول : أى بين المسيحية و الفلسفة، بين الوجود و الفكر
، و قد كان من
أنصار أن الإيمان المسيحى
يتعارض مع التفكير العقلى، فالمسيحية لا تقبل أى نسق فكرى أو دوجماتى أياً كان، بل
أن الجوهر الكلى للحياة المسيحية
يستلزم "قفزة الإيمان" [ إن أكبر مفارقة يمكن أن يقوم به إنسان هو أن
يصير مسيحياً ، لأن المسيح هو المفارقة الأعظم ] و يأتى رأيه هذا تبعاً لإيمانه - سالف الذكر – بالمفارقة العظمى غير
المعقولة التى حدثت بتجسد الله [ إن الأزلى قد تحقق فى أى لحظة من الزمان ( تجسد
الله )،و هذا ما لا يمكن فهمه، و هو لأنه لا يمكن فهمه فهو موجود !] [ثمة صراع حتى
الموت بين الوجود و الفكر ]، الأمر الذى عبَّر عنه أيما تعبير فى كتابه "
إما.../أو.."
+ المفارقة بين الموضوعية و الذاتية : أى بين ما يخرج عن ذات الإنسان، و بين ما يقبع
داخلها، فهو يُقرر أن [ الذاتية هى الحقيقة !] ،و يستغرق فى تلك الفكرة بل و
يتطرَّف فيها و يجعلها تأخذ منه أكبر مأخذ !، لكن ذلك التشديد على الجانب الذاتى
للحقيقة و ضرورة فهم الإيمان بصورة ذاتية بحتة هو أمر يمكننا فهمه على أن الحقيقة
لا تصبح حية أو فعَّالة إلا إذا تم إدراكها و الإشتراك فيها بشكل ذاتى و شخصى
للفرد الإنسانى ، لأننا لو فهمناها على أن الحقيقة يمكن "إحالتها" إلى
التفضيل الشخصى و الذاتى ، فهذا من شأنه نسف الحقيقة الموضوعية لإعلان الله عن
ذاته فى التاريخ !
ثالثاً : القيمة الواقعية:
لا تقف أهمية "كيركيغارد" عند الحد النظرى أو البحت فقط، بل
تتعداه إلى الجوانب العملية الواقعية، فالصراع الذى أخذ جُلّ حياته، و الذى أسهم
فى تشكيل فكره "الوجودى" بشكل أكثر صرامة، هو ذلك الصراع الذى خاضه ضد
المجرِّدين و بائعى الكلام، المتدينين الاسميين، و المتاجرين باسم يسوع، كل هؤلاء
كانوا كالأشباح التى طاردته فى حياته، لقد هاجم "الحشد" بكل ضراوة و
اعتبره أكثر وسائل الإقناع حقارة، لأنه يلغى الشخصية و التفرد الإنسانيين ، بل و
يجعل المسيحية تبدو كأنها خداعاً مسرحياً، تحركه
العاطفة و التأثر بشعور جمعى قادر على الإطاحة بالإختبار المسيحى العميق !
حارب امتزاج الكنيسة بالسياسة : [ لا يستطيع المسيحى الحقيقى أو السياسى الحقيقى
إمتلاك أى رغبة فى الحكم، لأنهما يعرفان ما هى الدولة من جهة، و ما هى المسيحية من
جهة أخرى، أن ما هو إنسانى لا يمكن أن يحمى ما هى إلهى فى الدولة المسماه مسيحية ]
و عن الرياء، نجده يقول فى كتابه "حاشية غير علمية" :[ إذا ولج
إنسان يعيش فى مسيحية العصور الوسطى بيت الرب الحقيقى، بالتصور الحقيقى عن الرب فى
معرفته، و يصلى ، فإنه يصلى فى اللاحقيقة... و الإنسان الذى يعيش فى الأرض الوثنية
و لكن يصلى بكل إنفعال باللامتناهى، بالرغم من أن نظرته مثبته على الوثن ، فأين
إذاً تكمن الحقيقة القصوى؟ ... إن الإنسانى يُصلى فى الحقيقة للرب ، بالرغم من أنه
يعبد الوثن، و الآخر يُصلى فى اللاحقيقة إلى الرب الحقيقى، و لهذا فهو يعبد فى
الحقيقة وثناً ! ]
أما عن الكهنة الذين يتلاعبون بالمسيحية، و يتخذون من الكنيسة مصدراً لكسب
العيش ، يقول :[ كلما زادت الآلاف التى يتقاضاها مُعلم المسيحية كمرتب، قلَّت خدمة
المسيحية ..الكهنة هم أكلة لحوم بشر، و بأكثر شكل وحشى ! ] [ إذاً
ما الفرق بين الكنيسة و المسرح ؟ ... المسرح أكثر صدقاً !!! ، الممثل فى المسرح يخبرك أنه مجرد ممثل ، بينما القس فى
الكنيسة لا يخبرك بأنه كذلك ! ]
حركة النقد هذه قد استفاد منها "باسكال" فى هجومه على رهبانية
"الجزويت – اليسوعيين" الكاثوليكية كما فعل "سورين" مع كنيسته
اللوثرية ، يا تُرى، ما مدى علاقة هذه الحركة بواقعنا الكنسى القبطى المُعاصر،
بشكل خاص ؟!، و إلى أى مدى يتحتم علينا أن نتأثر بها ؟؟!!!!
ختاماً ...
عندما كان سورين على فراش الموت، تفوَّه بتلك الكلمات لصديقه
"بواسن" :
[سلِّم لى على كل إنسان، لقد أحببتهم جميعاً حباً جماً و قل لهم، إنَّ
حياتى كانت عذاباً كبيراً لا يطاق بشكل لم يعرفه أحد عداى، لقد كان الأمر يبدو
تكبراً عبثاً لكنه لم يكن هكذا على الإطلاق، إننى لست أفضل من الآخرين بالمرة، لقد
كانت لى شوكتى التى كانت تؤلم لحمى و لهذا لم أستطع أن أتزوج و لا أن ألج الحياة،
لقد حصلت على درجات علمية فى اللاهوت و كانت لى حقوق رسمية و أفضليات خاصة، لقد
كان يمكننى أن احصل على ما أشاء، لكن بدلاً من هذا أصبحت "المستثنى" و
"الشاذ"، بالنهار كنت أعيش مع الكلمة و التوتر، و فى الليل كنتُ أُنحَّى
جانباً و كان هذا هو الاستثناء و الشذوذ !! ]
:عندما قرأت هذا، كتبت له تلك الرسالة
صديقى سورين كيركيغارد ...
انت كنت إنسان رقيق جداً ... جداً ..!
أكثر شىء أثَّر فىَّ هو قصة حبك الفاشلة
كلماتك عند إنتقالك، كانت تشبة كثيراً كلمات يسوع
المجروحة من كراهية العالم !
لَمَستنى جداً ... و عرفت إنك إنسان بمعنى الكلمة
!
عشقت إنسانيتك الصادقة
أحببت نظرتك الذاتية للحقيقة
تألمت كثيراً من أجل أحزانك و اكتئابك و مرارة
نفسك ...
صدقنى يا صديقى ... يوجد الكثير المشترك بيننا !!!
إنها نفس الروح الواحدة التى تقود كلانا ...
الإنسانية !
إنى لم أكتسب معرفة فكر أحد الفلاسفة و حسب ..
بل ربحت صديقاً جديداً
حبيباً بينى و بينه خط وجدانى سرى و عميق !
[[[ إننى أشعر بتلك النَسَمة الخفيفة التى داعبت وجة كيركغارد منذ أكثر من
سبعة و سبعين عاماً بعد المئة ، تَعبُر على وجوهنا اليوم، لكى نستمد روحاً من
روحه،و نتعلم حتى من مأساته و نقده و تمرده و صدقه! لكى يصل بنا إلى غاية العمق، و
قمة الإلهام ! ]]]
مراجع و قراءات مزيدة :
+ كيركيغارد / فريتيوف برينت / ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد .
+ فلسفة الدين عند كيركيغارد
/ د. حسن يوسف .+ المذاهب الوجودية من كيركيجور إلى جان بول سارتر/ ريجيس روفلييه / ترجمة فؤاد كامل.
+ دراسات فى الفلسفة الوجودية / د. عبد الرحمن بدوى.
+ فلاسفة وجوديون / د. فؤاد كامل عبد العزيز.