Monday 25 June 2012

عارٌ عليكم


عارٌ عليّكُم !

"اثبُتُوا فِى الإِيمَان ... كُونْوا رِجَالاً ... تَقَوّوْا .."
 (1 كو 16 : 13 )
...

حالة الهلع الصادرة من جماعة تَدَعى أنها "شعب الرب" تثير اشمئزازى بدرجة كبيرة ...
مش عايز أى قبطى "خايف من الإخوان" يكلمنى عن "القيامة" مرة تانية !
علشان تعرفوا حقيقتكم كشعب خائف ، مفزوع ، مذعور ... يُقنع نفسه أنه "أمة عظيمة" ، و هو مُجرّد قبيلة تتحصن بقلاع الماضى المتهدم !

الإسبان ... هذا الشعب العظيم .. تعاقبت عليه الخلافات الإسلامية ، و الطوائف ، و دِول المرابطين... و لم يفقد هويته !
اليونان ... كانوا ينزلون بأطفالهم إلى سراديب تحت الأرض ليسلِّموهم الإيمان الأرثوذكسى أثناء الحكم العثمانى ... و بالرغم من الإضطهاد ... لم يتنازلوا عن إيمانهم !

ماذا رأيتم أنتم من أهوال القمع الذى عاناه المسيحيون أمثالكم  تحت حكم الدولة البلشفية الدموية فى روسيا الشيوعية [1]؟ 


 أتريدون أن أُذكِّركُم بأن شعباً مثل الأرمن تعرّض لأبشع المجازر و الإبادات الجماعية على يد الأتراك و ظل صامداً إلى الآن [2]؟!

و أنتوا كل اللى تقدروا تعملوه ، هو تقمُص دور "المعددة" ( من الفلكلور المصرى)[3] و تقعدوا تصوتوا على حاجات ما حصلتش أصلاً !

أبقليل تهتز ثقتكم فى إلهكم ؟
أهكذا نؤمن بقيامة الرب التى وطأت حتى الموت ؟
أهذا ما تدعونا إليه الكنيسة المقدسة حينما نُصلى " اَلله لَنَا مَلْجَأٌ و قُوّةٌ، عَوْناً فِى الضّيِقَات ،وُجِد شَديِدَاً ، لِذَلِك لا نَخْشَى وَلَو تَزَحْزَت الأَرْضُ ، وَلَو انْقَلَبَت الجِبْال إِلى قَلْب البِحَار" ؟؟!  ( مز 46 : 1 ـ  2 )

إلى متى تَتكِلون على الإنسان ؟
هل يستطيع البشر خلاصكم ؟
ألم يَقُل هــو لكم " حتى شُعُورُ رُؤُوسِكُم جَمِعُها مُحْصَاةٌ" ؟؟ ( لو 10 : 30 )

وا أسفاه ... تَدَعون أنكم أبناء الشهداء و أنتم بلا إيمان ... و تسيرون فى درب الحياة كأنكم بلا مسيح !
عارٌ عليكم !
The Observer
2012/6/25



1 ـ هذا الذى أرّخ له ـ على سبيل المثال ـ القس "ريتشارد ومبراند" فى كتبه :  العذاب الأحمر / و لم يحبوا حياتهم / الكنيسة المنتصرة ، و جميعها مترجمة إلى اللغة العربية ، أدعوك لقراءتها !
2 ـ بلغ عدد ضحايا هذه المذابح من مليون إلى مليون و نصف نفس حيّة !
3 ـ ترجع تلك المهنة إلى تاريخنا الفرعونى ، فحسب المؤرخ هيرودوت فإن المعددة أو من يمتهنّ الغناء الحزين في الطقوس الجنائزية كان الفراعنة يلقبونهم بـ (مانيروس) وهم نوع من الكهنة تخصص في بكاء الموتى واستدرار الدموع فيصطفون حول المقبرة وهم يغنون ويرتلون أغنيات جنائزية وبمرور الوقت باتت هناك طائفة عملها هذا النوع من الغناء وهم دائماً من النساء، وأطلق عليهم المصريون وصف «العديد» وصاحبة المهنة هي المِعدّدة (التي ترثي الميت بشعر مغنَّى)، ويستأجرها أهل المتوفى للتغني بصفاته الحميدة
فالمعددة مهنة تراثية تاريخية ، و قد أوردت ذكرها هنا على سبيل التشبيه و حسب ، أرجو ألا يسىء البعض فهم هذا التعبير !



Thursday 21 June 2012

النباح المقدس 3 / من أجل الكنيسة


النباح المقدس (3)
من أجل الكنيسة ... !




[ أليس لنا إله واحد و مسيح واحد ؟... فلماذا نقسم و نمزق أعضاء المسيح ؟ ، بل و نصل إلى هذه  الدرجة من الهذيان حتى ننسى أننا أعضاء بعضنا للبعض ؟ ]   

ق. كليمندس الرومانى[1]

[   _ و كيف يتحاور الحكماء أيها المحترم نجاسينا ؟؟!
    _ فى حوارات الحكماء يتجلى نوع من الربط و الحل، اللإقناع و الإقرار، و تُعرض المقارنات و المُعارضات جنباً إلى جنب، و رغم هذا لا يفقد العظماء فطنتهم ، هكذا أيها الملك يتحاور الحكماء ... ]
ميلدا ـ بنها
نص هندى قديم من القرن الثانى قبل الميلاد[2]


لا أحب البدايات العاطفية ، لكن فيما يبدو أنى لا أستطيع هنا إلَّا أن أكون عاطفياً !
أتذكر حينما أصطُحبِت فى حداثتى لأول مرة إلى تلك الكنيسة الصغيرة ، هناك حيث أرسل لىَّ الرب خدام علمونى بالحقيقة كيف أدرس .. أفكر ..أخدم .. ألعب .. فقط من أجل الكنيسة ! ، كان كل الكيان و الوجدان مرصوداً لها هى وحدها ، عندما تكون هى بيتك الحقيقى ، أمك لا الثانية .. بل الأولى ، مصدر الأمان الوحيد الذى ينعدم السلام بغياب الحضور فيه !
تحت تلك القبة البسيطة ، و فى عيون يسوع الناظر إلىَّ من السماء .. هناك عشت خبرة "الوجود الحق" كعضو فى جسد واحد يتشارك جميع أعضاؤه نفس الدم و نفس الحياة ، تلك الخبرة التى ترتفع بأَناك العزيزة لتمحو حدودها و توحِّدها مع كل عناصر الكون الذى قدسّه الرب ..

جسد مكسور على المذبح ... هكذا ينبغى لذاتك الفردية أن تُكسر من أجل الجميع ... !
إله واحد فى ثلاثة أقانيم ..ثالوث الحقيقة الأزلية التى تجتمع فيها الوحدة و التعدد معاً بلا إفتراق ! 
أيقونة الإله متجسداً فى طبيعتنا .. إنه يوحِّدنا معه .. لم يصبح غريباً بعد ... و لم نَعُد غرباء عن بعضنا !
حينما تتجمع خيوط النور ... و رائحة البخور حول وجه العذراء و هى تَقتبِل بشارة الملاك فى خضوعٍ لتكون معمل إتحاد الله مع الإنسان .. هناك حيث تجتمع كل البشرية فى جسدٍ واحد .. رأس وحيد و نحن أعضاؤه .. و وعد أبدى بأن قوى السماء و الأرض جميعاً لن تقدر أن تفصم تلك الوحدة !
  عندما تتعالى أصوات التسبيحات " فرِّق أعداء الكنيسة و حصنها فلا تتزعزع .." " بمحبة قلبى النارية أهواكِ يا أرثوذكسية .." ... تُلملِم أشتات تلك الذكريات لتتأملها فى هدوء و قدسية ، هنا تتجلى الهوية الإلهية للكنيسة التى لن تُمحى أبداً ممن عاش تلك الخبرة ...
قلت لك إنى لا أحب العاطفية .. لكنى لم أستطع أن أكتب تلك التدوينة إلا بعد التمعُّن فى تلك الحقيقة التى ما غابت عنى قط ، فكل الكتابة من أجلها هى .. الكنيسة المُقدسة.. سيدة الكون التى من أجلها خُلقت السماء و الأرض ![3]


نحـو تحــرير الذات :

حتى لا تخرج عزيزى القارى من التدوينتين السابقتين بنتيجة مفادها أنه قد أصابنى رفض مطلق للماضى .. و شك فى الحاضر .. و يأس فى المستقبل ، فسأكتب هنا ما حاولت أن أتلمسه من أفكار فى سبيل تحرير "ذاتنا الكنسية" الراهنة من القوقعة التى وضعناها فيها ، و هى فى الحقيقة ليس لها أدنى علاقة بهويتها المتجذِّرة فى الثالوث نفسه ، بل أمراض نقلها البشر إلى المجتمع الكنسى ، و تعود فى أغلبها إلى ما نتجرعه من الثقافة المجتمعية المحيطة و ما رسّبه التاريخ من مشكلات و ما فرضه علينا من إشكاليات !

يجب أن أؤكد أن الذات التى نبحث عنها هى نتاج بشرى فى مُجمله ، فهى تمثل خبرة كنيستنا القبطية تجاة الرب و تاريخ تعاملاته معها ، و ما ترسخ من مفاهيم عقائدية حول الله و الإنسان و الكون ، و هى تعبر عن رؤيتها و حياتها بما تحمله من تفُّرد ، فهى العنصر البشرى الذى نصنعه نحن لكى نقدمه إلى الله فى إطار ثقافتنا ، صحيح أن هذا العنصر يأخذ من الإعلان الإلهى و الهوية السرية للكنيسة مُنطلقاً له ، إلا أنه نتاج بشرى متميِّز يختلف واقعياً عن ما عداه من تقليدات ( أرثوذكسية لاخلقيدونية ـ أرثوذكسية خلقيدونية  ـ كاثوليكية ... ) ، و هكذا يجتمع العنصرين معاً، الإلهى و الإنسانى ، ما أعلنه لنا الله و ما نصنعه نحن ليتجلى الله فيه ، لكن هذا الأخير قد أصابه العطب و هو ما نعنى به من علاج .. و نحن نهتم بتحديده و إفراز ما علق به من شوائب حتى نستطيع أن نقدمه نقياً إلى الله ليتجسد فيه و يثمر به و ينير العالم كله !

و فى سبيل تشخيص أعمق للمعضلة ، أسوق عدد من الملاحظات ذات الدلالات الخطيرة ( على المستويين السلبى و الإيجابى ) :

 أولها : و هى ظاهرة إيجابية لا شك ، أن حالة الصراع على الهوية تلك التى تعيشها ثقافتنا الكنسية على طول تاريخها ، هى حالة ذات طبيعة جدلية ديناميكية / دياليكتيكية ، بين ما تعيشه فعلاً تلك الثقافة من هوية ( فى فترة تاريخية عينية ) ، و بين ما يستجد عليها من مدخلات ثقافية تستلهمها من واقعها الحضارى المحيط ، و من هذين العاملين ينشأ كل ما نعيشه و نستغرق فيه من جدل !
تلك الطبيعة الحركية مفيدة على أعلى مستوى ، بل إنها تُعبِّر عن طبيعة أى جدل ، لأنها تُبقى الثقافة فى حالة حِراك مستمر من المفترض أن يتجه دائماً نحو الأفضل ، إلى هنا يظل الأمر إيجابياً ، لكن يؤسفنى القول أن حالنا غالباً لا يعكس هذا النمط من التَقدُّم !
لأن المُركَّب الناتج من تلك الديالكتيكية  هو مُركَّب مشوة و ممسوخ و ينزل كالسقط غير مُكتمل النمو ، فنحن غالباً ما نحتار بين ما هو قائم فعلاً و بين ما يستجد علينا و نقف لنتسائل "أيهما هو الصحيح ؟" ،لأنه ليس ثمة مرجعية أو قاعدة محددة نستطيع بها أن "نمتحن الأرواح" ، فكل جديد نقبله ، و من ثمَّ يتصارع مع القديم ، و الكل يتعصب لرأيه ( الذى نقله )  و هو ما يكشف عن سلبية حقيقية !

 ثانيها : اننا إذا حلَّلنا بنية ما يدور الآن فى الكنيسة من جدالات لاهوتية ، فسنجدها غير ذات أهمية على أكثر من مستوى ، فهى لا تمثل هذا القدر من الأهمية المطلقة الذى نتخيله ( بمعنى أننا إذا طرحنا تلك الجدالات على غيرنا من الكنائس ، فأعتقد أن صورتنا كمجتمع كنسى متخلف ثقافياً سوف تتأكد بصورةٍ كبيرة ) و لا حتى ترقى لتكون ذات أهمية نسبية ( فى ظل مجتمع لا يكون الفرد العادى فيه مهتماً بما تطرحه من جدالات عقيمة ) .. إنها - فى نظرى - ركاكات و هرتلات لا أكثر من ذلك ، و إذا كنا نبغى حقاً التقدم فى المعرفة اللاهوتية فعلينا الخروج من تلك المستنقعات الفكرية الضحلة بأسرع وقت !!

 ثالثها : دائماً ما أقول أننا نحتاج إلى "أزمة" لنخرج منها بكنيستنا نحو واقع أفضل ، و ها هى تلك الواقعة عينها تفرض نفسها علينا و تتدخل لتضع لنا محدداً عما يجب أن نناقشه و نفكر فيه و نُنظِّر له !! بمعنى ... أنَّ عدم إيمانى المطلق فى قيمة تلك الجدالات ، لا ينفى حقيقة كونها واقعاً فرضته الحتمية التاريخية للجدل و التطور ، بل أنه من ناحية تفاؤلية ، يمكن إعتبارها "أزمة" تجتازها الكنيسة و لابد أن تخرج منها منتصرة بنعمة الرب ، و هو ما يستطيع هذا الجيل (الجديد) إنجازه ، فقط إذا اقتنع أولاً بعبثية الاستغراق فى صراعات لا طائل منها سوى تصفيه حسابات شخصية بين أفراد جيل قديم مات و عفى عليه الزمن ... علينا أن ننهى ذلك الأمر بسرعة و إحترافية و بشكل لا يقسم الكنيسة !

رابعها : الخروج من المستنقعات المظلمة التى تم زج الحوار اللاهوتى فيها يتجلى فى تغيير أسلوب إدراة الحوار بكامله :
+ فأعظم ما يمكن أن نقوم به هو منع الأجيال القديمة من أن تُصدِّر لنا هذا العنف و المرض الذى صنعوه على طول تاريخهم ... فلا يكفيهم ما عاشوه من نباح و خصام ، لا  .. يريدون أن يصدروا لنا أمراضهم النفسية و جدالاتهم الركيكة التى تحمل من الجهل شيئاً كثيراً ، تلك التى لسنا بصانعيها و لا منظريها و لا يجب أن تنتقل إلينا !
+ أصل الداء هو غياب الموضوعية ، أو المزج بين الرأى الموضوعى الخالص و بين درجة حبك أو كراهيتك لشخص طارح الرأى ، و هذا ما يدل على غوغائية و ديماجوجية عالية المستوى تفرض نفسها على حوار من يلقبون أنفسهم باللاهوتيين !! .. الأمر يتطلب أولاً تحقيق أدنى حد من الإنسانية و رحابة الصدر للنقد بعيداً عن أى نظرة عاطفية ممزوجة بالغضب تجاه الأشخاص و المسلمات، و الفصل التام بين الذات و الآراء و عدم الإتصال مع كينونة أصحابها، فيستحيل أن تحدث تلك الفورة الفكرية التى ننشدها فى ظل مناخ عام يكون فيه الإنسان و آراؤه شخصاً واحداً !
+ عدم الإستغراق فى جدالات فرعية هامشية لا تُعبِّر عن أصل المشكلة ، و هو كما قلنا حالة مُرتبكة من غياب المرجعية... يبدو أن "القاعدة الأرثوذكسية الآبائية" هى التى تفرض نفسها على المشهد الآن بإعتبارها الأصل الذى نرجع إليه لتقرير الصحيح من الخاطىء .. و لكن بالطبع مشكلتنا أن الرجوع لتلك القاعدة ليس سائداً بدرجة كبيرة فى بعض الأوساط ، فلا تُطالب المتجادل الجاهل بكتابات الآباء بأن يُقر معك الرجوع إليها ، كما أن العوامل الشخصية تلعب دوراً مُحدِداً فى ذلك ، فإذا لم يجد المتجادل أن ذلك الرجوع فى صالحه فسيتهرب منه فى حالات كثيرة ، ناهيك عن ما يعانيه رجوعنا لكتابات الآباء من تشوهات سنناقشها عاجلاً .

نحـو الهوية :
الهوية هى ما تصنعه أنت ، و ليس ما يُفرض عليك، أو تأتى إلى هذه الحياة لتجده مستقراً ، و ليس هو ما تنقله من أوراق الماضى أو ما تتحصّن به من "أقوال الآباء" لتستمد منه شرعية غائبة و قوة فى حقيقتها هى الضعف عينه ! ، بل هى حقيقتك التاريخية التى تعيد إكتشافها فى إطار الواقع ، و فى مقابل الآخر ... هى ما كُنت عليه فى يوم ما، و ما تسعى لتصيره الآن ، و ما ستستقر عليه فى المستقبل عندما تصنع شركة حقيقية مع آخرٍ مختلف !!!
إذاً ، يجب إعادة إكتشاف "الأنا" فى إطار علاقتها المتعددة مع الأبعاد الثلاثة : التاريخ ، الواقع ، الآخر ، و من ثمَّ إعادة قراءة كل واحدة من تلك الأبعاد بحثاً عن المستقبل !!!

البُعد الأول : التاريخ :

إذا نظرنا إلى هذا البُعد من زاوية ما هو سائد من خرافات عن "ماضينا التليد المجيد دائماً و أبداً " ، و "العصر الذهبى للكنيسة فى القرنين الرابع و الخامس" فسندرك مقدار ما يحمله من أهمية بالنسبة إلى ثقافتنا ، و سنكتشف ما يعانيه من تشوهات عند تعاطينا معه !
 و حتى يفهمنا من لا يعرفون سوى المصطلحات الكنسية ، فإن هذا البعد يتمثَّل فى: التراث الكنسى / كتابات الآباء القديسين / التقليد المقدس .... هنا لا أُعنى بتقديم معنى التقليد بإعتباره الهوية الإلهية للكنيسة التى سلَّمنا إياها الرب بواسطة الرسل و هى وديعة الإيمان[4] ، فهو بهذا المفهوم واحد فى كل الكنائس التقليدية الرسولية ، بل أُعنى به فى جانبه التاريخى الخاص بنا نحن ككنيسة الأسكندرية، و الآباء الخصوصيين لها ، و هو يمثل الهوية الكلاسيكية للكنيسة القبطية ، و التى بها تتميّز و تتفرّد عن ما عداها من كنائس و تقليدات !!!

التاريخ ذو بُعد خاص فى التحليل الذى نحاول الوصول إليه ، لأنه أحد روافد ما يدور الآن من جدالات ، و هو المشروع الكنسى للأب متى المسكين الذى يتمثل فى حركة الرجوع إلى التراث ، و مُراجعة ما هو قائم فعلاً فى الكنيسة فى ضوء التقليد الأصيل لها ، ...هذا بالطبع شىء عظيم جداً ، بل لم يكن مسبوقاً قبل بدء الخدمة الإلهية لأبينا الجليل فى هذا المضمار !
لكن المشكلة التى تواجهنا نحن الآن ، و بعد ستين سنة من بدء تلك الحركة ، أننا لم ننضج بعد فى طريقة تعاطينا مع تراثنا اللاهوتى ، فمن العظيم أن ترجع إلى كتابات الآباء ، و لكن من المُخجِل أن يكون تعاملك معها ساذجاً لدرجة الطفولية !!! ، يبدو لى أن حالنا أصبح كالصغير الذى لا يستطيع أن يفعل شىء سوى أن يُقلد والده و ينقل عنه حراكاته بدون وعى[5] !!!

أكثر التشوهات تتمثل فى الظن بأن التراث الكنسى وحده فقط هو الذى يمثل الهوية الكنسية ، فهى تنحصر فيه و لا تتعداه ، و قد بلغت أوج عظمتها فى "العصر الذهبى" الذى يجب أن نرجع إليه لينصلح حالنا و لنشابه الكنيسة الأولى .. كما أننا نجد مَن يتحدث ـ و لو ضمنياً ـ عن نوع  من العصمة الخاصة بالكتابات الآبائية ( .. الآباء بيقولوا كدا ... إعترض بقا ... ) ..، ناهيك عن ما أصاب دراساتنا الآبائية من تجريد لا يخلو من تطرُّف ، فما نتعرف عليه من أفكار آبائية هو فى الواقع غير متموضع فى ثقافتنا التى نتحرك بها فى الواقع ، فكل ما نفعله هو أننا ننقل قضايا عالم قديم فى مجتمع حديث ، بنوع من التقديس المصطنع المُتكلِّف .. هذه هى السذاجة التى أصابتنا : عندما يصبح النقل قيمة فى حد ذاته !!!

مشكلتنا الأبدية ، بل و المُسكِّن الذى نتجرعة لنريح ضمائرنا و نلقى عنّا ما يُفرض علينا من جهد ، أننا نلجأ إلى ما ننقله ( و هو فى حالتنا كتب الآباء)[6] و نتقوقع فيه و نتمسك به عن ما عداه لنُقنع أنفسنا " إننا خلاص وجدنا هويتنا ... ضالتنا المنشوده التى سنكتفى بها ... نهرطق ما عداها ، و لا حاجة لنا إلَّا فى مزيد من النقل " !!!

لا .. التقليد الأرثوذكسى هو حركة حياة نحو الأبدية عينها !!! .. و هو لا يتوقَّف عند نقطة زمنية معينة و لا ينتهى أو ينقطع إكثاره ، التقليد ليس فيه استاتيكية ، و لا خمول ، و لا تعثُّرٍ قَط ... مُهمتنا نحن أبناء الأرثوذكسية أن نتقدم بهذا التقليد ليكون مناسب لإنسان القرن الحادى و العشرين و ليس لإنسان القرن الرابع !!! ... فكل ما ننقله و نترجمه من كتابات الآباء لا يمثل أدنى قيمة إلا إذا لم يتم تقديمه فى إطار واقعى ، و إذا لم يتحدد ( سواء بالإتفاق أو بالإختلاف ) فى مقابل تراث كنسى ، أو لاهوتى ، أو فكرى آخر لأى من الأطراف التى تحتك بها الكنيسة فى عصر فَرض عليها بأن تكون أحد أعضاء مجلس الكنائس العالمى !!!
[[ فإن لم تنعكس تلك الحركة التجديدية و روحانيتها لاهوتياً ، و تدخل فى حوار مع علم اللاهوتى الحديث بكافة مذاهبه ، فبالكاد ستساهم فى تطور العلم اللاهوتى المسيحى إلى أبعد مدى ، بل بالعكس ، ستصير بسهولة محصورة فى روحانية عاطفية حيث تجعل التقليد اللاهوتى بلا تأثير بل حتى تجعله تقليداً متحجراً ، و بهذا تكون سنداً للتعصب و الإستعلاء الذاتى و المذهبى .]][7]

 الأمر يتطلب تحرير رؤيتنا للتراث اللاهوتى من هذا السجن التاريخى و المفاهيمى الذى وضعناه فيه ، لننطلق به حتى نُلهم العالم كله ![8]

البُعد الثانى : الواقع :

إذا ذُكر الواقع فحدِّث و لا حرج !!!.. فمقدار التشوهات التى يعانى منها ذاك البُعد لا تقل خطورة عن سابقتها بأى حال ٍ ، بل تزيد و تتعقد جداً !!!

أول ما نصطدم به هو الفقر الشديد لمكونات ذاك الواقع الذى نحياه ، فجُّل ما يشغلنا من جدالاتٍ ركيك ، و هو إمتداد لحالة الفراغ الفكرى غير المُشبَع بدرجة كبيرة ، كما أننا نعانى من غياب المشروع اللاهوتى الموحّد الذى تتبناه الكنيسة رسمياً ، و الذى من الممكن أن يعمل على توحيد تلك التيارات القبائلية المتصارعة داخلها .. حتى "المشروع الآبائى" الذى تحدثنا عنه تتبناه مؤسسات صغيرة و مجموعات متفرقة كلها "تنحَت فى الصخر" !

لكن ما يصيب واقعنا فى مقتل ، هو التجريد و المونوفيزية التى لحقت بأغلب ما نكتبه و ما نقدمه ، فهو ليس إنسانياً بأى حال ، بل و يقوم على إلغاء هذا الإنسان ليكون عبداً للتجادُل حول مجموعة من الأفكار المجردة ، أو أن يلغى شخصيته و يمسحها تماماً عندما يذوب فى الجماعة التى يتكتل معها ضد جماعات أخرى ، و هذا النمط الذى يتشكَّل عليه واقعنا هو بلا شك استمراراً لحالة الإنفصام عن جذر هويتنا ، فجُل آباء كنيستنا ( حتى الذين اشتركوا فى الصراع الخلقيدونى و الذين يتهمون بالمونوفيزية جهلاً و كذباً ) نستطيع أن نستلهم منهم لاهوتاً إنسانياً على أعلى مستوى .. فلماذا لا نقوم بهذا ؟؟ هل تغيّبنا و تغرّبنا إلى هذا الحد ؟!!!

بالرغم من كل هذا ، نحن لا نمارس النقد المحترم و الراقى لسلبياتنا ، بل تجد من يسمى النباح و التطاول إعلاناً للحق و كأن الحق خالياً من أى أخلاقية !! ، أنظر مثلاً للواقع العربى المحيط فى الربع الأخير من القرن العشرين ، الذى شهد ظهور العديد من العظماء الذين قدموا مشروعات فكرية كاملة فى "نقد العقل العربى" و من ثمَّ نقد هذا النقد : د. محمد عابد الجابرى ، جورج طرابيشى ، محمد أركون ، مراد وهبة .. إلخ ، فأين نحن من كل هذا ؟ ، و هل فكَّر أحد ممن يتحفونا بكتاباتهم أن يُقدِّم مثل هذا النقد لثقافتنا القبطية ؟؟ ، أم أن جُل النقد هو فى جوهره نباحاً يبدأ بكلمات معتادة مثل " إن التشوهات التى تجول فى العقلية القبطية المعاصرة .." و تنتهى بهرطقة قيادات الكنيسة ؟؟


البُعد الثالث : الآخر :

لا أُعنى هنا بتفصيل التشوهات التى أصابتنا حول مفهومنا للآخر ، بل أكتفى بتقرير أن ما هو سائد من هرطقته و إقصاؤه و شيطنته ، و تقديم أنفسنا بإعتبارنا أصحاب أفضل واقع و أجّل تاريخ ، و أننا الأعلون .. خير أمة أُخرجت للناس .. الجماعة التى تملك الحقيقة المطلقة و ما عدانا هم أشرار .. إلخ ، هو ليس حالة من التشوه ، بل من التغرُّب عن الله نفسه ، لأن قبول الآخر بالنسبة لى حتمية يفرضها الإيمان بالثالوث و التجسد ! ... هو ليس شىء تختاره أو تقرر رفضه أو قبوله .. بل هو أمر تفرضه عليك المسيحية و بغيابه تفقد جوهر ما تؤمن به، بل يصبح كلامك كله مجرد لغو لا طائل منه ... لأنه لا يصنع محبة !
هذا لا ينعكس فقط على تعاملاتنا مع الآخر المختلف خارج الكنيسة ( الطوائف الهراطقة / الفلاسفة و مفكرى العصر الوسيط و الغربيين الكفار[9] / العرب المسلمين المحتلين أعداء المسيحية )، بل على المجموعات المختلفة داخل الجسد الواحد. 
لهذا ، فكل رؤية لإصلاح الوضع الراهن المشوش لا بد أن تنطلق من "قبول الآخر" و التسامح معه إلى أبعد حد ، فكل ذنبه هو أنه اختلف معك ليس أكثر ، و ليس معنى هذا بالضرورة أن يكون مخطئاً لمجرد أنه يدافع عن رؤية وصلت له نتيجة ظرف تاريخى معين ، بل أن المسيح نفسه يقف أمام أى محاولة من جانبك لاستخدام سلطتك الثيوقراطية فى إقصاء الآخر ... إنه نوعاً من كسر الحاجز النمطى الذى نتعامل فى إطاره ، و السعى نحو حَقن ثقافتنا بجرعات متزايدة من الحب حتى نستطيع أن ننقذ ما بقى فيها من حياة ! إنفتاحنا على الآخر مهما كان شديد الإختلاف هو وحده القادر على كسر تلك الحلقة المفرغة التى حوصرنا فيها ، كلما ازدت انفتاحاً و ثقافةً كلما زاد اختلافك و كلما تقبلت الإختلاف بدرجة أكبر و زادت قدرتك على تحطيم هذا الإنغلاق الذى نفرضه على أنفسنا !!!

أنا لا أؤمن بعقيدة أنسلم فى الفداء و ألتزم بما قرره آباء كنيستى ، لكن ليس لدى أدنى إعتراض أن يعتلى أحدهم المنبر ليشرح تلك العقيدة و يدافع عنها ، و أرجو أن يشاركنى المُختلف رأيى حينما يسمح لى أن أتكلم عن التأله فى مفهومه الأرثوذكسى بحرية و بدون إرهابى بالإتهام بالخروج عن عقيدة الكنيسة .. أعرف أن نظرتى هنا قد تمثل نوعاً من المثالية المفرطة ، و لكنى أؤمن بأنه لا إصلاح حقيقى إلا و يتضمن هذا القبول حتى يتسنى قيام حوار لاهوتى راقى بعيد عن العاطفية و التعصب للأشخاص ، إلى أن نصل إلى إتفاق حول الرأى محل الخلاف على أساس أرثوذكسى سليم ، بهذا نعرف أننا نسير على الدرب الإلهى ، إذا قبلنا بعضنا البعض بالرغم من إختلافنا بل و تناحرنا فى السابق !

بالطبع لا أتوقع أن يقتنع أبناء الجيل القديم بهذا الكلام ، فهم قد استنفذوا حياتهم فى الصراخ و التكفير بدون طائل ، بل الخطاب هنا موجه إلى إخوتى الشباب ، نحن فقط القادرين على وضع حد لكل ما يحدث و بدء عصر راقى يسوده التفهُّم و القبول ... أقبلنى الآن كما أنا إلى أن يوحِّدنا المسيح فى فكره ، الإختلاف فى الرأى و التعبير و الموروث لا يكسر وحدتنا الإلهية بأى شكل ، إذا فعلنا هذا فسنصل معاً إلى الحقيقة عينها ... أرجو أن تستجب يا كل من يقرأ !!!


نحــو الكنيسة ..

عادةً ما يُقال فى العلوم الإنسانية أن الإنسان لا يستطيع أن يحيا إلا إذا عاش "من أجل أمرٍ ما" ... و الأرثوذكسية تطرح لنا هذا الأمر ليس بإعتباره "شىء" بل "شخص".. و هو ليس فردياً أو فى حالة عزلة ، بل هو "شخص كنسى" أو "إنسان إفخارستى" لابد أن تتجه نحوه و تصنع معه شركة على مثال الثالوث .. و هناك فقط ستُحقق وجودك الحى الحقيقى !
فما نراه من انقسامات فى الكنيسة بين مجموعات متناحرة هو فى حقيقته صورة خطيرة من صور السقوط ، تلك الإنعزالية و الفردية و الدعوات المستمرة إلى التكتل جميعها تقود إلى مزيد من التفكيك و الشرذمة ، مثلما فقد آدم وحدته قديماً بينه و بين نفسه و حواء (الآخر) و الله ... نحن لا نتجرع تلك المفاهيم اللاهوتية لنُبقيها حبراً على ورق ... واجهوا الحقيقة .. نحن مجتمع منقسم .. إذاً فنحن مجتمع ســـاقــط !
فى المقابل ، يواجه هذا المجتمع الحقيقة الإلهية ..القيامة .. وهى فى جوهرها كل ما يدعو للوحدة و المحبة و قتل الخصام ، و هنا تتجلى قيامة ثقافتنا الكنسية من بعد صلبها ، إذا استطاعت أن تتخطى كل الخلافات لتدرك أن الكنيسة شخصية حية جامعة نشخص إليها و نتجه نحوها و نعيش من أجلها، و لن تنفصم وحدتها رغم أنف الجميع !

هذا ما يجب أن يقوم عليه أى أطروحة لإنهاء الأزمة الحالية ، أن تكون كل جدالاتنا و تفكيرنا و كتابتنا من أجل الكنيسة ... نحو الكنيسة ، ليس من أجل الأشخاص الفرديين الزائلين ، و ليس من أجل مجموعة أفكار نثق أنها صحيحة ، و ليس من أجل "مجتمع" أو "جماعة" ننضم لها لنستمد منها أماناً نفسياً زائفاً .. بل من أجل جسد واحد يجمع كل هذا فى وحدة مستيكية حيّة، و هى حقيقة إلهية لا ينبغى أن تطغى عليها ما يصطنعه البشر من شجارات و إنقسامات تحت أى مُسمى ... يجب على الجميع أن يُذعن لها ، لأنه ببساطة لا يستطيع طمسها !

أن تُصلح الكنيسة هو أن تُصلح الإنسان لا أكثر و لا أقل ، إنها مبنية من حجارة حيّة ، تنبض و تفكر و تُخطىء .. لكنها حتماً ستقوم ... و الأمر كله يتعلق بأن "تمحو الذنب بالتعليم" كما تُعلمنا الدسقولية المقدسة !

أكثر ما أكرهه هو النقد الذى يمسك العصا من المنتصف ، بل أنا لا أرى ضرورة لتلك العصا أصلاً ، فالسوس قد أفسدها و هى غير صالحة الآن على كل حال ... فى تلك التدوينات سعيت لأكون غير متحيِّز لهذا الطرف أو ذاك ، فأنا لست مع أو ضد ... بل أريد أن أكون "من أجل الكنيسة" ... أن يكون كل هذا "نحو شخص الكنيسة" فقط !  ولا عجب إذا لم يتقبل البعض تلك الحقيقة .. فلا أحد يقبل التوازن ، و هو موجود فقط فى بعض النماذج الإقتصادية النظرية التى درستها فى إطار آليات السوق !!!

أما من لم يدرك بعد تلك الحقائق و سيستمر فى نباحه فأرجو أن يعلم أنه لا يصلح سوى أن يكون "أراجوزاً" يشاهده الناس ليتسلوا و يسروا عن أنفسهم .. فطرائق هؤلاء لا تخلو من كوميديا لطيفة، و هم غير قادرين على الوصول إلى تحليل عميق للأمور ، فكل ما يهمهم هو النباح و كفى ... و هؤلاء لهم منى رسالة خاصة : ألف سلامة .. و تمنياتى لكم بالشفاء العاجل !

و لكل من إشترك فى تلك الجدالات أحمل أخباراً غير مفرحة على الإطلاق .. هذا الجيل لن يرحم أحداً... فهو يدرك تماماً أنه أمام طريقين ، إما أن يحاكم الواقع و يعيش فى الماضى ، و إما أن يحاكم الماضى و يتقدم نحو واقع أفضل .. نحن سنعلق المشانق لكل مَن ساهم يوماً فى وصول الكنيسة إلى ذاك الحال !

كل نقدى لتلك الثقافة ستجده يقوم على أنها "غير إنسانية" ، أما أنا فأريد أن أكون إنساناً ، و كلماتى هذه ليست بكلمات بالحقيقة ، و لا هى حروف و لا أفكار ، إنما صرخات أطلقها أمام الجميع مُتبرئاً من تلك الثقافة ، و من كل مُغزياتها ، و من المشاركين فيها ،ساعياً إلى الوصول إلى "الإنـــسان" الحق ، و هو يسوع المسيح ... رب الكنيسة و حافظها و مُقدِّسها إلى الأبد .. آمين !
تم بنعمة الرب
The Observer
_______________________________
 1 ـ رسالته إلى الكورنثيين 46 ، 48
2 ـ ينسن زونتجن ـ فكَّر بنفسك ـ عشرون تطبيقاً للفلسفة ـ صـ 7
3 – هذا التشبيه ورد عن الكنيسة فى كتاب الراعى لهرماس – من كتابات القرن الثانى
4 ـ " الذى أعطاه الرب و كرز به الرسل و حفظه الآباء" على حد تعبير قد أثناسيوس الرسولى
5 ـ بالطبع لا أقصد التعميم ، بل أردت وصف الطابع العام لإتجاهات تعاملنا مع النصوص الآبائية ، و هنا أذكر مؤسسة القديس أنطونيوس ـ المركز الأرثوذكسى للدراسات الآبائية التى تسهم بدور كبير فى تقديم دراسات آبائية ذات طابع إجتماعى و إنسانى !
6 ـ و فى حالات أخرى ما ننقله من هويات و ثقافات كنسية مُغايرة بدون وعى كما راينا
7 ـ صمويل روبنسون – تأثير كتابات الأب متى المسكين على الكتابات اللاهوتية فى الكنيسة القبطية
8 ـ عُذراً إذا كنت سأكتفى بتقرير حقائق سريعة فى تلك التدوينة ، لأنى بصدد إعداد دراستين نقديتين ، واحدة عن طريقة تعاطينا مع كتابات الآباء ، و الثانية عن مونوفيزية خطابنا اللاهوتى المعاصر .

9 ـ  حتى أنه صار يُنظر إلى الدراسات الغربية عن آباء الكنيسة ـ حتى و لو قام بها لاهوتيون من الكنائس الأرثوذكسية ـ بنظرة من الشك بل من الرفض و ذلك بتأثير الكتابات المسيحية العربية من القرون الوسطى / صمويل روبنسون

Sunday 17 June 2012

النباح المقدس 2 / ما بعد دون كيخوته


النباح المقدس (2)
ما بعد "دون كيخوته" !

 [ إن الحظ يسوق أمورنا خيراً مما تستطيعه رغبتنا، أنظر يا صديقى "سنشو بنثا "، أمامنا على الأقل ثلاثون من المردة العتاة، أو يزيدون ، أرى أن أنازلهم و أسلبهم الحياة جميعاً بدون استثناء ، و بإسلابهم نبدأ ثروتنا ... لأن هذا الجهاد نبيل ، و فى سبيل الله إبادة تلك العصابة الشريرة من على وجه الأرض ][1]
دون كيخوته

 لمَّّا قرأت ما كتبه العظيم ثربانتس فى رائعته "دون كيخوته" ، عمّا فعله هذا البطل الورقى النحيف ... عندما اندفع بجهله و غبائه ليصارع طواحين الهواء ، متخليلاً أنه سينتصر على تلك "المردة الجبارة الشريرة" فى معركة غير متكافئة - فى حين أنها تهرب من أمامه بخسةٍ و دنائة - و كيف أنه كان مقتنعاً تماماً فى مخيلته أنه سيجعل تلك المخلوقات الأسطورية تدفع ثمناً غالياً ... لما قرأت وجدت أن صورة ذلك الرجل لا تبرح من مُخيلتى كلما تمعنت فى حال ثقافتنا التى تختلق لها عدداً من تلك الطواحين ، و تُحاربها عن تُعمد ، و ما جَنت من هذه الحرب إلا "اللاشىء" !
... سيتضح ذلك على طول التدوينة ، و بالرغم من أننا سنتعرض "للأدب" كثيراً ، إلا أن العديد من الممارسات التى نناقشها هنا تنتمى غالباً إلى "قلة الأدب" ...

طواحين الهواء ...
تلك مجموعة من الملاحظات التى شكَّلت جانباً ثورياً فى رؤيتى الخاصة للمشهد الراهن :

أولاً: أن المعظم الجدالات التى "تُحشَر عنوةً" فى أدمغة الشباب الكنسى المثقف ، و يُدفعون لخوض معارك دونكيخوتية من أجلها ، هى إمتداد لنمط الوعى الوهمى الذى تغرق فيه ثقافتنا ، و أكاد أجزم أن جُلَّها لا يمت بِصلة بما يحتاجه المؤمن الأرثوذكسى ـ العادى ـ من وعى إيمانى ، أو يمس مشكلاته الحقيقية حتى من بعيد !
خذ عندك الجدالات التى تستند فى بنيانها على الوهم و اختلاق "الأساطير" عن الموقف اللاهوتى للطرف المعارض :
مثلاً : عندما يصف سيدنا المتنيح البابا شنودة الثالث فى كتابه بدع حديثة عقيدة تأليه الإنسان بالنعمة بأن معناها الإتصاف بالصفات الإلهية [2] ، أو أنها تطابق مذهب وحدة الوجود ... و هى خطية الشيطان ، مع أن أحداً من الذين يرجعون إلى المصادر الآبائية الأولى للتعرف على دقائق تلك العقيدة القويمة لم يشير و لو من بعيد إلى تلك الأفكار، فالجدل منذ البدء مبنى على "أسطورة" لا تجد لنفسها مكاناً فى واقع الخطاب اللاهوتى المضاد ... و على قاعدة التوهُّم تلك تُبنى أكثر الجدالات العقائدية المُعاصرة أثراً فى شق الجسد الكنيسة !!
 أو إنتقاد "عدم تفسير" نهاية إنجيل مرقس ، بدون معرفة كافية بمستجدات علم النقد النصى ...
 أو الإدعاء بأن الخصوم ينكرون صفة جوهرية فى الله ، لمجرد أنهم إتخذوا موقف تفسيرى مختلف من "العدل الإلهى"...مع الإستغراق فى هذا الجدل كله بدون عرض ـ و لو حتى مبتسر _ لتاريخ تطور الأفكار و الشروحات المسيحية ، حتى و لو من باب أن التطور و التغير هو ظاهرة إنسانية عامة توجد عندنا و عند غيرنا ...
أو عندما ننشغل بعبارات مثل " أن الكنيسة وُلدت فى بيت لحم مسقط رأس البشرية المفتداة" و " الله ليس آخر بالنسبة للإنسان" ، "نحن نأكل اللاهوت فى الإفخارستيا" و كلها عبارات مستيكية تتماشى مع طريقة تفكير و كتابة الأب متى المسكين و لا تؤخذ بالمعنى الدوجماتى الدقيق ..
أو الإستغرق فى الجدل العقيم بتاع النعمة و الأعمال ..أو تغيير معنى عبارة "صُلبنا معه .. قُمنا معه" أثناء الجدل اللاهوتى بغرض تشويه عقيدة الطرف الآخر !!!

قارن تلك الجدالات مع الحرب الملحمية التى خاضها أثناسيوس فى سبيل تأكيد الخلاص ، أو المعمعة الدهرية التى دخل فيها كيرلس دفاعاً عن وحدة الله و الإنسان ... أعتقد أن جدالاتنا المعاصرة ستتهافت و تفقد الكثير من ثقلها الذى نتخيله ، و الكــيفية التى تم خوض تلك الجدالات وفقاً لها تحمل الكثير من التفاهة ، فهى غير ذات قيمة من جهة مُطلقة ، لكن هذا ما فرضه الواقع التاريخى و علينا أن نُنهى تلك الركاكات فى أسرع وقت !
...

ثانياً : سمة خطيرة أخرى نجدها فى تلك الجالات ، فتجريدها و تَخليتها من بُعدها الإنسانى يجعل من المُدافع عنها يُركز على تأكيد بعض "التعبيرات" و القضايا الجافة ، و هو أمر يبتعد كثيراً عن اللاهوت الذى نبحث عنه !
و هنا أعترف أن لاهوت دكتور بباوى يمتلك قاعدة إنسانية صحيحة و قوية ، لكن قليلاً ما تجد صدى تلك القاعدة فى الكثير من تلاميذه و مريديه ، و بالرغم من أن ما يقدمه يفيدنى جداً فى التعرف على الفكر الإنسانى الأرثوذكسى ، إلا أن السمة العامة الغالبة لكل الجدل لايزال مُجرّداً !
كل هذا بلا شك ينطوى على تسطيح الخطاب اللاهوتى ، حتى خطاب الطبقات المثقفة "الغزير معلوماتياً" ، غالباً ما يكون سطحياً من الناحية الفكرية ، لأنه ـ و ببساطة ـ لا يمتلك أدنى حد من الإنفتاح و قبول الآخر ، فنادراً ما تجد مَن يقبل الآخر المختلف فى أدبٍ و رقى ، أو يكون عالماً ، مثلاً ، بدهاليز أفكار العصور الوسطى التى ينتقدها...، أو مَن يخرج بتلك الجدالات من دائرة التوهم و الجهل التى تحدثنا عنها ، أو من يُعلن بطلانها فى مجملها ، لأنه لا ينبغى لكنيسة عريقة مثلنا أن تستغرق فى تلك البدائيات .

علاوةً على أن بعض تلك الجدالات تختزل دوجما الكنيسة بقدر كبير من الإخلال ، فما معنى أن يتم اختزال لاهوت خلاصنا فى الدفاع المصطنع عن "تعبير التأله"؟؟ ( و هو عند أصحابه يظل جدالاً اسمياً ... لأنه غير متحقق فى الواقع من الناحية الأخلاقية ) ، أو ما معنى أن يتم ابتسار عقيدة الكنيسة فى اللإفخارستيا فى قضايا مثل : أكل الطبيعة الإلهية ، تناول يهوذا ، هل كان المؤمنوم يتناولون الجسد فى أيديهم .. إلخ
ناهيك عن الخروج بتلك الجدالات من مكانها الطبيعى و هو الكليات و المعاهد الأكاديمية ، إلى الشارع القبطى الذى ينقسم ما بين جاهل يتلقفها و ينبح بها ، و بين مَن لا يهمه تلك النقاشات برُمتها.
...

ثالثاً: لعلَّ المتابعون لكتابات و محاضرات د. جورج حبيب بباوى ، يلاحظ أنه عادةً ينتقد المتنيح البابا شنودة فى أمريِّن ، أولهما أنه يتبع ثقافة حشد الأتباع و قد كوّن حوله مجموعات تتشيع له ، "فأصبحوا شيعة" ، و ثانيهما أنه يقصى الطرف الآخر و يُشيطنه و يشوهه بحملات الأكاذيب و الكراهية .

هنا من حقى أن أسأل د. بباوى و من يقتنعون "بأسلوبه" ، هل كان خطابه اللاهوتى "أفضل" مما ينتقده ؟؟... أعتقد أن الإجابة ستكون بالنفى !
لأن الذى انتقد ثقافة التشيُّع فى عصر الأنبا شنودة ، هو نفسه قد تجمعت حوله شيعه سواء قصد ذلك أو لم يقصد ، جرّب كدا إنك تنتقد د. بباوى قُدام أحد من مريديه أو أحبائه .. و شوف هيحصل فيك إيه [3]!!!...
كما أن الخطاب اللاهوتى لدكتور بباوى مُحمّلاً بالكثير من العنف و الإقصاء هو الآخر ، فمن الهجوم غير المشروح و لا المتزن على الفلسفة و العصر الوسيط ( بإعتباره يختلف معهم ) ، إلى هرطقة قداسة البابا شنودة و وصفه بالنسطورية و الأوطاخية... إلى آخر تلك الاتهامات ، التى فى حقيقتها متبادلة بين طرفين مختلفين، مِن المفترض أن يجمعهما جسداً واحداً ، يعنى مافيش حد أحسن من حد ، و مادام الطرفان قد إنزلقا فى هذا المستنقع ، إذاً فالمفاضلة بينهما تصبح شيئاً سخيفاً !!!
أرجو أن تتحملنى يا عزيزى فى كلامى هذا... أنظر مثلاً تحريض د. بباوى على الامتناع عن حضور القداسات والخدمات الكنسية و عدم تقديم أى عطايا و نذور للكنيسة ، بل و وصفه هذا التحريض
بـ"ممارسة الحق الكنسى لرتبة الشعب التى أنتهكت حقوقها" .. أو كلامه على أن شرارة الثورة قد دخلت الكنيسة ، و دفعه المُبطَّن للشباب الكنسى المثقف الذين درسوا اللاهوت و التاريخ خارج أسوار الكنيسة للصدام مع هؤلاء ( اللى هم الأساقفة) الذين تفوق الشباب على عدد كبير منهم ... و العجب العُجاب أن يصدر ذلك الكلام عن لاهوتى مثله يُعد أحد قادة الرأى ،و المؤثرين عليه فى الكنيسة اليوم !!!... هل المشهد  ( العنيف أصلاً ) يحتاج إلى مزيد من العنف و الصدام ؟؟ .. و هل صدام د. بباوى نفسه مع قيادات الكنيسة أنتج ثماراً للمحبة و السلام و الإصلاح ؟؟؟ .. هل نستطيع تشبيه هذا بما تفعله جماعات العنف الدينى من شحن الشباب ـ بشكل غير مباشرـ بالآراء و الأجواء العنيفة ، لينطلقوا لممارسته بدون وعى ؟؟؟

نعم .. قد لا يكون الرجل قاصداً ذلك  .. لكن لغته تلك تؤثر حتماً .. أنا "حزين" من أجل الوصول إلى تلك النتيجة .. فقط أرجوه أن يرتقى بلغته اللاهوتية فوق من ينعتهم بالهراطقة ، من حقه أن يشرح فكرته ، و أن يثبت دعائم ما يراه أرثوذكسى ، لكن ليس من حقه أن يصِّدر لى كل هذا الكم من العنف فى خطابه اللاهوتى !!
...
  
رابعاً : المشهد المرتبك الذى نُحلله هنا ، يكشف لنا عن إنقسام حاد و خطير بين مَن هم "مع السلطة الكنسية" ، و مَن هم ضدها ، و مِن المؤسف حقاً أن نتحدث عن : تكتلات مع و ضد أشخاص ، تحيُّز إلى سلطة ما أو مناهضتها .. فى حين أننا ننسى الجسد المسيح الذى يوّحدنا جميعاً معاً كأعضاؤه بالحقيقة ... و إذا كان هذا هو نمط ثقافتنا .. فلا مناص من نقده ,,,
إذا كانوا مَن يتشيعون للسلطة ( حتى عن سلامة نيَّة) يساهمون فى الإبقاء على بعض الأوضاع الخاطئة فى المجتمع الكنسى كما هى بدون تعديل إيجابى ، فإن من يُعارضونها هم فى كثير من الأحيان أشد خطراً على الكنيسة المقدسة من هؤلاء ، لعدة أسباب :

أولاً : أنهم لا يرتكنون إلى مصدر للأمان ، بمعنى أن الفريق الأول المُتشيِّع للسلطة ، يمتلك قدرٍ من القوة (حتى لو كانت مصطنعة) و من الثقة فى الذات ( حتى لو كانت عن جهل) ، مما يعطى لهم إحساساً زائفاً بالإطمئنان ، لأنهم " ولاد الكنيسة / اللى بيدافعوا عنها ضد المُخربين / ولاد الطاعة اللى هيحل عليهم البركة ..." !

أما الفريق الثانى المُعارض فهو متوتِّر على أعلى مستوى ، يظهر ذلك فى حالات الهياج و التشنج النفسى و العصبى التى تُلاحظها على هؤلاء ، هو لا يمتلك أدنى حد من الأمان النفسى ، لأنه يدرك تماماً أنه أمام سلطة كنسية ـ إلهية لا يملك أمامها سوء المزيد من النباح ... أمام واقع يستحيل تغييره إلا إذا امتلك تلك السلطة عينها أو حصل على بعض مواقع القوة !!.. و إذا ما أخذنا العوامل النفسية و الشخصية التى تُحرِّك هؤلاء فى الحسبان .. فسنصل إلى أن ما يقوم به هذا التيار لا يساهم فى الواقع إلا فى مزيد من الإنحطاط الخلقى ... هذا فضلاً عن أثره العكسى فى زيادة تكتُّل الشعب حول "أشخاص" [4]القيادات الكنسية ، و هو ما يُحدث المزيد من الفُرقة !

ثانياً : أن هذا الفريق الثانى غالباً ما يلجأ إلى بعض المرجعيات ( الآباء القديسين و متى المسكين ) ليستمد منها قوة غائبة يعرف جيداً أنه لا يستطيع الحصول عليها واقعياً ، فنجد من لا يعرف من كتابات الآباء سوى النصوص التى تتحدث عن عقوبات الأسقف و كيفية رعاية شعبه ، أو توبيخ يوحنا ذهبى الفم لكهنته ... فقط ليستغلها فى ممارسة هواية النباح ... فإذا جمعنا تلك المرجعيات بثقلها مع ما يفرزه هؤلاء من تُسفُّل خلقى ، فسنجد ان المشهد قد إزداد تعقيداً !!!
..

خامساً : أحد السمات التى يُلاحظ تواجدها فى بعض المجموعات ذات الصوت العالى فى المجتمع الكنسى هى الإنقلاب على المرجعيات التى تعتبرها و تُصدرها كواجهة عندما يقتضى الأمر بأن تدلو بدلوها فى أحد المشاكل المستجدة أو المعضلات العملية فى الكنيسة ، و بالطبع تلك الحالة من "الفصام" هى أحد مظاهر شيزوفرينيا الهوية التى يعانى منها المجتمع الكنسى برُمتُّه !
مثلاً : كم مِن مرة تحدث فيها مُنظروا "التيار العلمانى"عن الأب المسكين بالكثير من المدح و الإطراء ، و كم من مرة صدّروه بإعتباره "الأب الروحى الحقيقى" و "الباعث الأول لنهضة الكنيسة القبطية" .. إلخ
فهل إلتزم المنضمون تحت لواء هذا التيار بموقف الأب متى من قضية الطلاق و الزواج الثانى فى الكنيسة الأرثوذكسية عندما طُرحت على الرأى العام ؟؟ أم جائت مواقفهم المُعلنة منقلبة تماماً على المرجعية التى اتخذوها هم لأنفسهم ، و التى تقر بحقيقة أن موقف الأب المسكين من تلك القضية جاء مُطابقاً تماماً للموقف "الكنسى الرسمى" الذى يناهضونه ؟؟؟!

 لك أن تقرأ ما كتبه المسكين عن أن الطلاق :[[[ "أمراً غير وارد في قلب الله منذ البدء ، أن الزواج رباط غير قابل للإنحلال .. الطلاق بدون العلَّة غير قانوني، وهو مرفوض من قبل الله ... ثم ألا يكون هذا هدماً لجسم الكنيسة، وقطعاً للطريق أمام الرجل والمرأة والنسل المؤدِّي إلى الملكوت؟؟ ... فالكنيسة التي تتهاون في تسهيل الطلاق، إنما تهدم نفسها وتقضي على مستقبل الذين سهَّلت لهم الطلاق، وهذا يكاد يكون غلقاً لباب الملكوت في وجوههم... لذلك نتمنَّى أن تشدِّد الكنيسة على سمو هذا السر العميق والفائق، لأن في إدراك هذه الحقائق تتقدَّس الوحدة، وتثمر لحساب الكنيسة والمسيح. ]]][5]
... الإجابة معروفة و لا تحتاج إلى تعليق .. !

بل ربما تجد أحدهم مهتماً جداً بإعادة ترجمة رسالة القديس كليمندس الرومانى إلى الكورنثيين ، التى تُعالج الشقاق الذى حدث فى تلك الكنيسة بين الشعب و الإكليروس[6] ، فى حين أنه هو نفسه لا يدّخر جهداً فى إصطناع المشكلات و سَبّ الإكليروس و تقديم العلمانيين بإعتبارهم "الأعلون" .... كل هؤلاء ليس لديهم أدنى مشكلة فى التحول و التلون و الإنقلاب على ما يُنظِّرون به ، فى أول مُنعطف ، و حسناً جداً أن تظهر حقيقتهم لنا سريعاً !!!
 ...

سادساً : أتسائل هنا عن المتحقق الفعلى من كل هذا الصراخ و النباح و التطاول على الكنيسة ، و نقد أشخاص و أفعال قادتها .. كل هذا الذى قرأته و الذى مازالوا يمارسونه بجهدٍ و عن إقتناع ... لا شىء سوى فسخ الكنيسة !!!
لم يتحقق أى شىء حقيقى على أرض الواقع .. صحيح أنه ساهم بقدرٍ ما فى دفعنا لدراسة الآباء والتقدم فى المعرفة ، لكن هذا الهدف الأخير كان من الممكن تحقيقه بكيفيات أخرى أكثر فاعلية و بشكل أكثر رُقيَّاً لا يقسم الجسد الواحد ... إنه مجرد نباح .. هذا هو الوعى الذى فى حقيقته "لا وعى" ... يرقد على ركام من القش و يظن أنه منجم من ذهب !! ... "ضجة فارغة" ، و "جعجعة دون طحن"[7] على حد تعبيرات شكسبير !
هذا الأمر قد أدركه البابا الراحل ، فبإمكانك أن تكتب فى الجرائد كما شئت ، أن تعقد إجتماعات و لقاءات لحركة العلمانيين و أن تدعو لمؤتمرات صحفية ، و لكن لا شىء حقيقى يتغير .. " و خلى اللى يقول يقول" " خليهم يتسلوا" ... فى هذه النقطة تحديداً كان حكيماً جداً ، لأنه يعلم أن النباح لا يفيد .. دعه ينبح دعه يمر .. إنه لا يَضُر مادام قد ظل شيئاً أليفاً !
...

سابعاً : يقول سقراط أنَّ [ قلة الدين ، و قلة الأدب ، و قلة الندم عند الخطأ ، و قلة قبول العتاب .... أمراض لا دواء لها ].. فيا تُرى ، ماذا كان سيقول إذا رأى حال ثقافتنا ؟
و إذا كان من عادة القول أن نتحدث عن الله بإعتباره هو من يستطيع تفسير"الأخلاق" فى الوجود الإنسانى، فإن البعض أثبتوا أنهم يستطيعون الحديث فى اللاهوت بلا أدنى حد من الأخلاقية !!!
يعنى هيفيدنى بإيه إنك تحشر هذا الكم من النصوص الآبائية فى كتبك ، و توصلنى إياها، و أنت لم تتعلم طريق المحبة بعد ؟ أو  كيف تكون مُتألهاً و أنت تدعو لرفع دعوى قضائية على من ظلمك من المطارنة .. وخطابك اللاهوتى يفرز هذا القدر من العنف ؟
كل ما تكلمنا عنه من جدالات غير مُفعّل من الناحية الأخلاقية ، و تتدخل فيه العوامل الشخصية و تصفية الحسابات لتوجهه و تحدد مساره البعيد عن الموضوعية[8] .. و هذا ما يجعله غير شريف بقدرٍ كبير !

فقد يصيبك القَدَر بالتعرُّف على أحدهم الذى لا يطيق أن يكتب قداسة البابا شعره الروحى الذى يقول فيه " قلبى الخفاق أضحى مضجعك .."، و يسبُّه من أجل كلماته، فى حين أن هذا الشخص نفسه ليست لديه أدنى مشكلة فى أن يشتم و يلصق صور البورنو على صفحته الفيسبوكية ... هذا يُذكرنى بشخصية "فيدرو بافلوفيتش[9] " / المُهرَّج العريق " الذى تحدث عنه ديستويفسكى فى رائعته "الإخوة كارمازوف" !
أو قد تصطدم بأحد الشيّب من الناس ، الذى قد بلغ من العمر أرزله ـ فى الواقع لم يتجاوز مرحلة المراهقة بأى حال ـ و هو يكتب تلك التعليقات و المقالات الطويلة ، التى لا تخرج منها بشئ سوء التطاول و التسفل ، حتى على مَن إنتقل مِن قيادات الكنيسة ، الذى لا يملك الآن سوى الصلاة لهذا الشخص !

و فى حالاتٍ عالية من التأزُّم النفسى... تجد أحدهم يتحدث عن "إسقاط الدولة الشينودية" ( على مراحل طبعاً ) و عزمه على إجبار البطرك على الرحيل ، و عن مغامراته الخطيرة فى الخدمة و الجهاد فى سبيل الكنيسة، بغرض تقديم نفسه فى صورة بطولية مُهترئة كروبنهود الأقباط ، فى حين أنه ما بيعرفش يكتب عربى و لا يعرف يفرّق بين التاء المربوطة و الهاء ضمير المُذكر !!!
الأمر يتطلب تدخل سيكولوجى حاد تجاه تلك الشخصيات لعلاج حالاتهم النفسية و العقلية التى لا علاقة لها بالإصلاح المنشود فى الكنيسة .
...

عودةً مرة أخرى إلى"دون كيخوته" رفيقنا فى تلك التدوينة ،  فذاك الشجاع حينما اصطدم بالواقع و سقط أرضاً مُلطخاً بالتراب من جرّاء الإصطدام بطواحين الهواء ، لم يرض أن يعترف بجهله ، و توهّم أن الحكيم "فرستون" قد حوّل تلك المردة إلى طواحين هوائية حتى يحرمه من شرف الإنتصار عليها ، و الخوف كل الخوف من أن نُصبح مشابهين لدون كيخوته فى تلك الصفة بالذات ، عدم القدرة  على إختراق الشرنقة التى حبسنا فيها أنفسنا، و الوقوف عند منطقة الضباب التى اصطنعنا في أجوائها الوهم إصطناعاً لنجعل منه عدواً نحاربه و ننتصر عليه ، لنشبع بها ذاتيتنا الغائبة و نملأ به الفراغ الفكرى الذى لم يقوى "لاهوتيونا" على تدميره !! .. هنا مكمن الداء و مصدر الخطر !... إذا لم نستطع تجاوز تلك الدونكيخوتية ، فقولوا علينا السلام !

...

الملحوظة المعتادة : استنى ما تشتمش ـ و تبيِّن طبيعتك المنحطة ـ إلا لما تقرا التدوينة الجاية ... إتقل أوماااال ...



1 – دون كيخوته / ثربانتس ـ ترجمة عبد الرحمن بدوى ـ الفصل الثامن
2 - بدع حديثة / قداسة البابا شنودة الثالث
3 – يمكن الشتايم اللى هيقولها هؤلاء هتأكد وجهة نظرى
4 ـ لأن وجودنا المسيحى الحقيقى هو فى الكنيسة / جسد المسيح و ليس حول أشخاص أياً كانت أسمائهم !
5 ـ يمكنك مراجعة تفسيره لـ (مت 5 ، 19 ) على سبيل المثال
6 ـ [ من يستطيع أن يصف الرباط المبارك لمحبة الله ؟؟ أى إنسان يقدر أن يخبر عن عظمة جماله ؟؟؟  إن العظمة التى يمكن أن تمدح بها المحبة لا يمكن التكلم عنها ، المحبة توحدنا بالله ، المحبة تحتتتمل كل شىء ، و تتأنى على كل شىء ، ليس فى المحبة دناءة و لا عجرفة ، المحبة لا تسمح بأى إثارة للفتنة و الشقاق ، المحبة تصنع كل شىء فى تناغم ] ـ نص من الرسالة
7 ـ مسرحيات شهيرة لويليم شكسبير
8 ـ أفضل الأمثلة على ذلك ، هو ما تلقيته من سُباب و ألفاظ نابية ، كرد فعل على التدوينة السابقة ، و التى طالبنى فيها الأخ الشاتم أن أنشر سفالاته علناً على المدونة ... لكن إحتراماً لك عزيزى القارىء ، و تقديساً لما أدرسه فى تلك المدونة من لاهوت و فلسفة مسيحية ، فقررت أن أنأى بك عن تلك التجاوزات ، أما من شتمنى فأقول له : ربنا يسامحك ... فكل ما يستطيع الشيطان أن يفعله بهيجانه علينا ... هو إعطائنا المزيد من التأكيد حول ما نملكه من الإنتصار .                                                                                         
 9 - كان مُتسفِّلاً خلقياً .. و ناقداً للكهنة فى نفس الوقت .. و هو ما لا يخلو من طرافة