Thursday 21 June 2012

النباح المقدس 3 / من أجل الكنيسة


النباح المقدس (3)
من أجل الكنيسة ... !




[ أليس لنا إله واحد و مسيح واحد ؟... فلماذا نقسم و نمزق أعضاء المسيح ؟ ، بل و نصل إلى هذه  الدرجة من الهذيان حتى ننسى أننا أعضاء بعضنا للبعض ؟ ]   

ق. كليمندس الرومانى[1]

[   _ و كيف يتحاور الحكماء أيها المحترم نجاسينا ؟؟!
    _ فى حوارات الحكماء يتجلى نوع من الربط و الحل، اللإقناع و الإقرار، و تُعرض المقارنات و المُعارضات جنباً إلى جنب، و رغم هذا لا يفقد العظماء فطنتهم ، هكذا أيها الملك يتحاور الحكماء ... ]
ميلدا ـ بنها
نص هندى قديم من القرن الثانى قبل الميلاد[2]


لا أحب البدايات العاطفية ، لكن فيما يبدو أنى لا أستطيع هنا إلَّا أن أكون عاطفياً !
أتذكر حينما أصطُحبِت فى حداثتى لأول مرة إلى تلك الكنيسة الصغيرة ، هناك حيث أرسل لىَّ الرب خدام علمونى بالحقيقة كيف أدرس .. أفكر ..أخدم .. ألعب .. فقط من أجل الكنيسة ! ، كان كل الكيان و الوجدان مرصوداً لها هى وحدها ، عندما تكون هى بيتك الحقيقى ، أمك لا الثانية .. بل الأولى ، مصدر الأمان الوحيد الذى ينعدم السلام بغياب الحضور فيه !
تحت تلك القبة البسيطة ، و فى عيون يسوع الناظر إلىَّ من السماء .. هناك عشت خبرة "الوجود الحق" كعضو فى جسد واحد يتشارك جميع أعضاؤه نفس الدم و نفس الحياة ، تلك الخبرة التى ترتفع بأَناك العزيزة لتمحو حدودها و توحِّدها مع كل عناصر الكون الذى قدسّه الرب ..

جسد مكسور على المذبح ... هكذا ينبغى لذاتك الفردية أن تُكسر من أجل الجميع ... !
إله واحد فى ثلاثة أقانيم ..ثالوث الحقيقة الأزلية التى تجتمع فيها الوحدة و التعدد معاً بلا إفتراق ! 
أيقونة الإله متجسداً فى طبيعتنا .. إنه يوحِّدنا معه .. لم يصبح غريباً بعد ... و لم نَعُد غرباء عن بعضنا !
حينما تتجمع خيوط النور ... و رائحة البخور حول وجه العذراء و هى تَقتبِل بشارة الملاك فى خضوعٍ لتكون معمل إتحاد الله مع الإنسان .. هناك حيث تجتمع كل البشرية فى جسدٍ واحد .. رأس وحيد و نحن أعضاؤه .. و وعد أبدى بأن قوى السماء و الأرض جميعاً لن تقدر أن تفصم تلك الوحدة !
  عندما تتعالى أصوات التسبيحات " فرِّق أعداء الكنيسة و حصنها فلا تتزعزع .." " بمحبة قلبى النارية أهواكِ يا أرثوذكسية .." ... تُلملِم أشتات تلك الذكريات لتتأملها فى هدوء و قدسية ، هنا تتجلى الهوية الإلهية للكنيسة التى لن تُمحى أبداً ممن عاش تلك الخبرة ...
قلت لك إنى لا أحب العاطفية .. لكنى لم أستطع أن أكتب تلك التدوينة إلا بعد التمعُّن فى تلك الحقيقة التى ما غابت عنى قط ، فكل الكتابة من أجلها هى .. الكنيسة المُقدسة.. سيدة الكون التى من أجلها خُلقت السماء و الأرض ![3]


نحـو تحــرير الذات :

حتى لا تخرج عزيزى القارى من التدوينتين السابقتين بنتيجة مفادها أنه قد أصابنى رفض مطلق للماضى .. و شك فى الحاضر .. و يأس فى المستقبل ، فسأكتب هنا ما حاولت أن أتلمسه من أفكار فى سبيل تحرير "ذاتنا الكنسية" الراهنة من القوقعة التى وضعناها فيها ، و هى فى الحقيقة ليس لها أدنى علاقة بهويتها المتجذِّرة فى الثالوث نفسه ، بل أمراض نقلها البشر إلى المجتمع الكنسى ، و تعود فى أغلبها إلى ما نتجرعه من الثقافة المجتمعية المحيطة و ما رسّبه التاريخ من مشكلات و ما فرضه علينا من إشكاليات !

يجب أن أؤكد أن الذات التى نبحث عنها هى نتاج بشرى فى مُجمله ، فهى تمثل خبرة كنيستنا القبطية تجاة الرب و تاريخ تعاملاته معها ، و ما ترسخ من مفاهيم عقائدية حول الله و الإنسان و الكون ، و هى تعبر عن رؤيتها و حياتها بما تحمله من تفُّرد ، فهى العنصر البشرى الذى نصنعه نحن لكى نقدمه إلى الله فى إطار ثقافتنا ، صحيح أن هذا العنصر يأخذ من الإعلان الإلهى و الهوية السرية للكنيسة مُنطلقاً له ، إلا أنه نتاج بشرى متميِّز يختلف واقعياً عن ما عداه من تقليدات ( أرثوذكسية لاخلقيدونية ـ أرثوذكسية خلقيدونية  ـ كاثوليكية ... ) ، و هكذا يجتمع العنصرين معاً، الإلهى و الإنسانى ، ما أعلنه لنا الله و ما نصنعه نحن ليتجلى الله فيه ، لكن هذا الأخير قد أصابه العطب و هو ما نعنى به من علاج .. و نحن نهتم بتحديده و إفراز ما علق به من شوائب حتى نستطيع أن نقدمه نقياً إلى الله ليتجسد فيه و يثمر به و ينير العالم كله !

و فى سبيل تشخيص أعمق للمعضلة ، أسوق عدد من الملاحظات ذات الدلالات الخطيرة ( على المستويين السلبى و الإيجابى ) :

 أولها : و هى ظاهرة إيجابية لا شك ، أن حالة الصراع على الهوية تلك التى تعيشها ثقافتنا الكنسية على طول تاريخها ، هى حالة ذات طبيعة جدلية ديناميكية / دياليكتيكية ، بين ما تعيشه فعلاً تلك الثقافة من هوية ( فى فترة تاريخية عينية ) ، و بين ما يستجد عليها من مدخلات ثقافية تستلهمها من واقعها الحضارى المحيط ، و من هذين العاملين ينشأ كل ما نعيشه و نستغرق فيه من جدل !
تلك الطبيعة الحركية مفيدة على أعلى مستوى ، بل إنها تُعبِّر عن طبيعة أى جدل ، لأنها تُبقى الثقافة فى حالة حِراك مستمر من المفترض أن يتجه دائماً نحو الأفضل ، إلى هنا يظل الأمر إيجابياً ، لكن يؤسفنى القول أن حالنا غالباً لا يعكس هذا النمط من التَقدُّم !
لأن المُركَّب الناتج من تلك الديالكتيكية  هو مُركَّب مشوة و ممسوخ و ينزل كالسقط غير مُكتمل النمو ، فنحن غالباً ما نحتار بين ما هو قائم فعلاً و بين ما يستجد علينا و نقف لنتسائل "أيهما هو الصحيح ؟" ،لأنه ليس ثمة مرجعية أو قاعدة محددة نستطيع بها أن "نمتحن الأرواح" ، فكل جديد نقبله ، و من ثمَّ يتصارع مع القديم ، و الكل يتعصب لرأيه ( الذى نقله )  و هو ما يكشف عن سلبية حقيقية !

 ثانيها : اننا إذا حلَّلنا بنية ما يدور الآن فى الكنيسة من جدالات لاهوتية ، فسنجدها غير ذات أهمية على أكثر من مستوى ، فهى لا تمثل هذا القدر من الأهمية المطلقة الذى نتخيله ( بمعنى أننا إذا طرحنا تلك الجدالات على غيرنا من الكنائس ، فأعتقد أن صورتنا كمجتمع كنسى متخلف ثقافياً سوف تتأكد بصورةٍ كبيرة ) و لا حتى ترقى لتكون ذات أهمية نسبية ( فى ظل مجتمع لا يكون الفرد العادى فيه مهتماً بما تطرحه من جدالات عقيمة ) .. إنها - فى نظرى - ركاكات و هرتلات لا أكثر من ذلك ، و إذا كنا نبغى حقاً التقدم فى المعرفة اللاهوتية فعلينا الخروج من تلك المستنقعات الفكرية الضحلة بأسرع وقت !!

 ثالثها : دائماً ما أقول أننا نحتاج إلى "أزمة" لنخرج منها بكنيستنا نحو واقع أفضل ، و ها هى تلك الواقعة عينها تفرض نفسها علينا و تتدخل لتضع لنا محدداً عما يجب أن نناقشه و نفكر فيه و نُنظِّر له !! بمعنى ... أنَّ عدم إيمانى المطلق فى قيمة تلك الجدالات ، لا ينفى حقيقة كونها واقعاً فرضته الحتمية التاريخية للجدل و التطور ، بل أنه من ناحية تفاؤلية ، يمكن إعتبارها "أزمة" تجتازها الكنيسة و لابد أن تخرج منها منتصرة بنعمة الرب ، و هو ما يستطيع هذا الجيل (الجديد) إنجازه ، فقط إذا اقتنع أولاً بعبثية الاستغراق فى صراعات لا طائل منها سوى تصفيه حسابات شخصية بين أفراد جيل قديم مات و عفى عليه الزمن ... علينا أن ننهى ذلك الأمر بسرعة و إحترافية و بشكل لا يقسم الكنيسة !

رابعها : الخروج من المستنقعات المظلمة التى تم زج الحوار اللاهوتى فيها يتجلى فى تغيير أسلوب إدراة الحوار بكامله :
+ فأعظم ما يمكن أن نقوم به هو منع الأجيال القديمة من أن تُصدِّر لنا هذا العنف و المرض الذى صنعوه على طول تاريخهم ... فلا يكفيهم ما عاشوه من نباح و خصام ، لا  .. يريدون أن يصدروا لنا أمراضهم النفسية و جدالاتهم الركيكة التى تحمل من الجهل شيئاً كثيراً ، تلك التى لسنا بصانعيها و لا منظريها و لا يجب أن تنتقل إلينا !
+ أصل الداء هو غياب الموضوعية ، أو المزج بين الرأى الموضوعى الخالص و بين درجة حبك أو كراهيتك لشخص طارح الرأى ، و هذا ما يدل على غوغائية و ديماجوجية عالية المستوى تفرض نفسها على حوار من يلقبون أنفسهم باللاهوتيين !! .. الأمر يتطلب أولاً تحقيق أدنى حد من الإنسانية و رحابة الصدر للنقد بعيداً عن أى نظرة عاطفية ممزوجة بالغضب تجاه الأشخاص و المسلمات، و الفصل التام بين الذات و الآراء و عدم الإتصال مع كينونة أصحابها، فيستحيل أن تحدث تلك الفورة الفكرية التى ننشدها فى ظل مناخ عام يكون فيه الإنسان و آراؤه شخصاً واحداً !
+ عدم الإستغراق فى جدالات فرعية هامشية لا تُعبِّر عن أصل المشكلة ، و هو كما قلنا حالة مُرتبكة من غياب المرجعية... يبدو أن "القاعدة الأرثوذكسية الآبائية" هى التى تفرض نفسها على المشهد الآن بإعتبارها الأصل الذى نرجع إليه لتقرير الصحيح من الخاطىء .. و لكن بالطبع مشكلتنا أن الرجوع لتلك القاعدة ليس سائداً بدرجة كبيرة فى بعض الأوساط ، فلا تُطالب المتجادل الجاهل بكتابات الآباء بأن يُقر معك الرجوع إليها ، كما أن العوامل الشخصية تلعب دوراً مُحدِداً فى ذلك ، فإذا لم يجد المتجادل أن ذلك الرجوع فى صالحه فسيتهرب منه فى حالات كثيرة ، ناهيك عن ما يعانيه رجوعنا لكتابات الآباء من تشوهات سنناقشها عاجلاً .

نحـو الهوية :
الهوية هى ما تصنعه أنت ، و ليس ما يُفرض عليك، أو تأتى إلى هذه الحياة لتجده مستقراً ، و ليس هو ما تنقله من أوراق الماضى أو ما تتحصّن به من "أقوال الآباء" لتستمد منه شرعية غائبة و قوة فى حقيقتها هى الضعف عينه ! ، بل هى حقيقتك التاريخية التى تعيد إكتشافها فى إطار الواقع ، و فى مقابل الآخر ... هى ما كُنت عليه فى يوم ما، و ما تسعى لتصيره الآن ، و ما ستستقر عليه فى المستقبل عندما تصنع شركة حقيقية مع آخرٍ مختلف !!!
إذاً ، يجب إعادة إكتشاف "الأنا" فى إطار علاقتها المتعددة مع الأبعاد الثلاثة : التاريخ ، الواقع ، الآخر ، و من ثمَّ إعادة قراءة كل واحدة من تلك الأبعاد بحثاً عن المستقبل !!!

البُعد الأول : التاريخ :

إذا نظرنا إلى هذا البُعد من زاوية ما هو سائد من خرافات عن "ماضينا التليد المجيد دائماً و أبداً " ، و "العصر الذهبى للكنيسة فى القرنين الرابع و الخامس" فسندرك مقدار ما يحمله من أهمية بالنسبة إلى ثقافتنا ، و سنكتشف ما يعانيه من تشوهات عند تعاطينا معه !
 و حتى يفهمنا من لا يعرفون سوى المصطلحات الكنسية ، فإن هذا البعد يتمثَّل فى: التراث الكنسى / كتابات الآباء القديسين / التقليد المقدس .... هنا لا أُعنى بتقديم معنى التقليد بإعتباره الهوية الإلهية للكنيسة التى سلَّمنا إياها الرب بواسطة الرسل و هى وديعة الإيمان[4] ، فهو بهذا المفهوم واحد فى كل الكنائس التقليدية الرسولية ، بل أُعنى به فى جانبه التاريخى الخاص بنا نحن ككنيسة الأسكندرية، و الآباء الخصوصيين لها ، و هو يمثل الهوية الكلاسيكية للكنيسة القبطية ، و التى بها تتميّز و تتفرّد عن ما عداها من كنائس و تقليدات !!!

التاريخ ذو بُعد خاص فى التحليل الذى نحاول الوصول إليه ، لأنه أحد روافد ما يدور الآن من جدالات ، و هو المشروع الكنسى للأب متى المسكين الذى يتمثل فى حركة الرجوع إلى التراث ، و مُراجعة ما هو قائم فعلاً فى الكنيسة فى ضوء التقليد الأصيل لها ، ...هذا بالطبع شىء عظيم جداً ، بل لم يكن مسبوقاً قبل بدء الخدمة الإلهية لأبينا الجليل فى هذا المضمار !
لكن المشكلة التى تواجهنا نحن الآن ، و بعد ستين سنة من بدء تلك الحركة ، أننا لم ننضج بعد فى طريقة تعاطينا مع تراثنا اللاهوتى ، فمن العظيم أن ترجع إلى كتابات الآباء ، و لكن من المُخجِل أن يكون تعاملك معها ساذجاً لدرجة الطفولية !!! ، يبدو لى أن حالنا أصبح كالصغير الذى لا يستطيع أن يفعل شىء سوى أن يُقلد والده و ينقل عنه حراكاته بدون وعى[5] !!!

أكثر التشوهات تتمثل فى الظن بأن التراث الكنسى وحده فقط هو الذى يمثل الهوية الكنسية ، فهى تنحصر فيه و لا تتعداه ، و قد بلغت أوج عظمتها فى "العصر الذهبى" الذى يجب أن نرجع إليه لينصلح حالنا و لنشابه الكنيسة الأولى .. كما أننا نجد مَن يتحدث ـ و لو ضمنياً ـ عن نوع  من العصمة الخاصة بالكتابات الآبائية ( .. الآباء بيقولوا كدا ... إعترض بقا ... ) ..، ناهيك عن ما أصاب دراساتنا الآبائية من تجريد لا يخلو من تطرُّف ، فما نتعرف عليه من أفكار آبائية هو فى الواقع غير متموضع فى ثقافتنا التى نتحرك بها فى الواقع ، فكل ما نفعله هو أننا ننقل قضايا عالم قديم فى مجتمع حديث ، بنوع من التقديس المصطنع المُتكلِّف .. هذه هى السذاجة التى أصابتنا : عندما يصبح النقل قيمة فى حد ذاته !!!

مشكلتنا الأبدية ، بل و المُسكِّن الذى نتجرعة لنريح ضمائرنا و نلقى عنّا ما يُفرض علينا من جهد ، أننا نلجأ إلى ما ننقله ( و هو فى حالتنا كتب الآباء)[6] و نتقوقع فيه و نتمسك به عن ما عداه لنُقنع أنفسنا " إننا خلاص وجدنا هويتنا ... ضالتنا المنشوده التى سنكتفى بها ... نهرطق ما عداها ، و لا حاجة لنا إلَّا فى مزيد من النقل " !!!

لا .. التقليد الأرثوذكسى هو حركة حياة نحو الأبدية عينها !!! .. و هو لا يتوقَّف عند نقطة زمنية معينة و لا ينتهى أو ينقطع إكثاره ، التقليد ليس فيه استاتيكية ، و لا خمول ، و لا تعثُّرٍ قَط ... مُهمتنا نحن أبناء الأرثوذكسية أن نتقدم بهذا التقليد ليكون مناسب لإنسان القرن الحادى و العشرين و ليس لإنسان القرن الرابع !!! ... فكل ما ننقله و نترجمه من كتابات الآباء لا يمثل أدنى قيمة إلا إذا لم يتم تقديمه فى إطار واقعى ، و إذا لم يتحدد ( سواء بالإتفاق أو بالإختلاف ) فى مقابل تراث كنسى ، أو لاهوتى ، أو فكرى آخر لأى من الأطراف التى تحتك بها الكنيسة فى عصر فَرض عليها بأن تكون أحد أعضاء مجلس الكنائس العالمى !!!
[[ فإن لم تنعكس تلك الحركة التجديدية و روحانيتها لاهوتياً ، و تدخل فى حوار مع علم اللاهوتى الحديث بكافة مذاهبه ، فبالكاد ستساهم فى تطور العلم اللاهوتى المسيحى إلى أبعد مدى ، بل بالعكس ، ستصير بسهولة محصورة فى روحانية عاطفية حيث تجعل التقليد اللاهوتى بلا تأثير بل حتى تجعله تقليداً متحجراً ، و بهذا تكون سنداً للتعصب و الإستعلاء الذاتى و المذهبى .]][7]

 الأمر يتطلب تحرير رؤيتنا للتراث اللاهوتى من هذا السجن التاريخى و المفاهيمى الذى وضعناه فيه ، لننطلق به حتى نُلهم العالم كله ![8]

البُعد الثانى : الواقع :

إذا ذُكر الواقع فحدِّث و لا حرج !!!.. فمقدار التشوهات التى يعانى منها ذاك البُعد لا تقل خطورة عن سابقتها بأى حال ٍ ، بل تزيد و تتعقد جداً !!!

أول ما نصطدم به هو الفقر الشديد لمكونات ذاك الواقع الذى نحياه ، فجُّل ما يشغلنا من جدالاتٍ ركيك ، و هو إمتداد لحالة الفراغ الفكرى غير المُشبَع بدرجة كبيرة ، كما أننا نعانى من غياب المشروع اللاهوتى الموحّد الذى تتبناه الكنيسة رسمياً ، و الذى من الممكن أن يعمل على توحيد تلك التيارات القبائلية المتصارعة داخلها .. حتى "المشروع الآبائى" الذى تحدثنا عنه تتبناه مؤسسات صغيرة و مجموعات متفرقة كلها "تنحَت فى الصخر" !

لكن ما يصيب واقعنا فى مقتل ، هو التجريد و المونوفيزية التى لحقت بأغلب ما نكتبه و ما نقدمه ، فهو ليس إنسانياً بأى حال ، بل و يقوم على إلغاء هذا الإنسان ليكون عبداً للتجادُل حول مجموعة من الأفكار المجردة ، أو أن يلغى شخصيته و يمسحها تماماً عندما يذوب فى الجماعة التى يتكتل معها ضد جماعات أخرى ، و هذا النمط الذى يتشكَّل عليه واقعنا هو بلا شك استمراراً لحالة الإنفصام عن جذر هويتنا ، فجُل آباء كنيستنا ( حتى الذين اشتركوا فى الصراع الخلقيدونى و الذين يتهمون بالمونوفيزية جهلاً و كذباً ) نستطيع أن نستلهم منهم لاهوتاً إنسانياً على أعلى مستوى .. فلماذا لا نقوم بهذا ؟؟ هل تغيّبنا و تغرّبنا إلى هذا الحد ؟!!!

بالرغم من كل هذا ، نحن لا نمارس النقد المحترم و الراقى لسلبياتنا ، بل تجد من يسمى النباح و التطاول إعلاناً للحق و كأن الحق خالياً من أى أخلاقية !! ، أنظر مثلاً للواقع العربى المحيط فى الربع الأخير من القرن العشرين ، الذى شهد ظهور العديد من العظماء الذين قدموا مشروعات فكرية كاملة فى "نقد العقل العربى" و من ثمَّ نقد هذا النقد : د. محمد عابد الجابرى ، جورج طرابيشى ، محمد أركون ، مراد وهبة .. إلخ ، فأين نحن من كل هذا ؟ ، و هل فكَّر أحد ممن يتحفونا بكتاباتهم أن يُقدِّم مثل هذا النقد لثقافتنا القبطية ؟؟ ، أم أن جُل النقد هو فى جوهره نباحاً يبدأ بكلمات معتادة مثل " إن التشوهات التى تجول فى العقلية القبطية المعاصرة .." و تنتهى بهرطقة قيادات الكنيسة ؟؟


البُعد الثالث : الآخر :

لا أُعنى هنا بتفصيل التشوهات التى أصابتنا حول مفهومنا للآخر ، بل أكتفى بتقرير أن ما هو سائد من هرطقته و إقصاؤه و شيطنته ، و تقديم أنفسنا بإعتبارنا أصحاب أفضل واقع و أجّل تاريخ ، و أننا الأعلون .. خير أمة أُخرجت للناس .. الجماعة التى تملك الحقيقة المطلقة و ما عدانا هم أشرار .. إلخ ، هو ليس حالة من التشوه ، بل من التغرُّب عن الله نفسه ، لأن قبول الآخر بالنسبة لى حتمية يفرضها الإيمان بالثالوث و التجسد ! ... هو ليس شىء تختاره أو تقرر رفضه أو قبوله .. بل هو أمر تفرضه عليك المسيحية و بغيابه تفقد جوهر ما تؤمن به، بل يصبح كلامك كله مجرد لغو لا طائل منه ... لأنه لا يصنع محبة !
هذا لا ينعكس فقط على تعاملاتنا مع الآخر المختلف خارج الكنيسة ( الطوائف الهراطقة / الفلاسفة و مفكرى العصر الوسيط و الغربيين الكفار[9] / العرب المسلمين المحتلين أعداء المسيحية )، بل على المجموعات المختلفة داخل الجسد الواحد. 
لهذا ، فكل رؤية لإصلاح الوضع الراهن المشوش لا بد أن تنطلق من "قبول الآخر" و التسامح معه إلى أبعد حد ، فكل ذنبه هو أنه اختلف معك ليس أكثر ، و ليس معنى هذا بالضرورة أن يكون مخطئاً لمجرد أنه يدافع عن رؤية وصلت له نتيجة ظرف تاريخى معين ، بل أن المسيح نفسه يقف أمام أى محاولة من جانبك لاستخدام سلطتك الثيوقراطية فى إقصاء الآخر ... إنه نوعاً من كسر الحاجز النمطى الذى نتعامل فى إطاره ، و السعى نحو حَقن ثقافتنا بجرعات متزايدة من الحب حتى نستطيع أن ننقذ ما بقى فيها من حياة ! إنفتاحنا على الآخر مهما كان شديد الإختلاف هو وحده القادر على كسر تلك الحلقة المفرغة التى حوصرنا فيها ، كلما ازدت انفتاحاً و ثقافةً كلما زاد اختلافك و كلما تقبلت الإختلاف بدرجة أكبر و زادت قدرتك على تحطيم هذا الإنغلاق الذى نفرضه على أنفسنا !!!

أنا لا أؤمن بعقيدة أنسلم فى الفداء و ألتزم بما قرره آباء كنيستى ، لكن ليس لدى أدنى إعتراض أن يعتلى أحدهم المنبر ليشرح تلك العقيدة و يدافع عنها ، و أرجو أن يشاركنى المُختلف رأيى حينما يسمح لى أن أتكلم عن التأله فى مفهومه الأرثوذكسى بحرية و بدون إرهابى بالإتهام بالخروج عن عقيدة الكنيسة .. أعرف أن نظرتى هنا قد تمثل نوعاً من المثالية المفرطة ، و لكنى أؤمن بأنه لا إصلاح حقيقى إلا و يتضمن هذا القبول حتى يتسنى قيام حوار لاهوتى راقى بعيد عن العاطفية و التعصب للأشخاص ، إلى أن نصل إلى إتفاق حول الرأى محل الخلاف على أساس أرثوذكسى سليم ، بهذا نعرف أننا نسير على الدرب الإلهى ، إذا قبلنا بعضنا البعض بالرغم من إختلافنا بل و تناحرنا فى السابق !

بالطبع لا أتوقع أن يقتنع أبناء الجيل القديم بهذا الكلام ، فهم قد استنفذوا حياتهم فى الصراخ و التكفير بدون طائل ، بل الخطاب هنا موجه إلى إخوتى الشباب ، نحن فقط القادرين على وضع حد لكل ما يحدث و بدء عصر راقى يسوده التفهُّم و القبول ... أقبلنى الآن كما أنا إلى أن يوحِّدنا المسيح فى فكره ، الإختلاف فى الرأى و التعبير و الموروث لا يكسر وحدتنا الإلهية بأى شكل ، إذا فعلنا هذا فسنصل معاً إلى الحقيقة عينها ... أرجو أن تستجب يا كل من يقرأ !!!


نحــو الكنيسة ..

عادةً ما يُقال فى العلوم الإنسانية أن الإنسان لا يستطيع أن يحيا إلا إذا عاش "من أجل أمرٍ ما" ... و الأرثوذكسية تطرح لنا هذا الأمر ليس بإعتباره "شىء" بل "شخص".. و هو ليس فردياً أو فى حالة عزلة ، بل هو "شخص كنسى" أو "إنسان إفخارستى" لابد أن تتجه نحوه و تصنع معه شركة على مثال الثالوث .. و هناك فقط ستُحقق وجودك الحى الحقيقى !
فما نراه من انقسامات فى الكنيسة بين مجموعات متناحرة هو فى حقيقته صورة خطيرة من صور السقوط ، تلك الإنعزالية و الفردية و الدعوات المستمرة إلى التكتل جميعها تقود إلى مزيد من التفكيك و الشرذمة ، مثلما فقد آدم وحدته قديماً بينه و بين نفسه و حواء (الآخر) و الله ... نحن لا نتجرع تلك المفاهيم اللاهوتية لنُبقيها حبراً على ورق ... واجهوا الحقيقة .. نحن مجتمع منقسم .. إذاً فنحن مجتمع ســـاقــط !
فى المقابل ، يواجه هذا المجتمع الحقيقة الإلهية ..القيامة .. وهى فى جوهرها كل ما يدعو للوحدة و المحبة و قتل الخصام ، و هنا تتجلى قيامة ثقافتنا الكنسية من بعد صلبها ، إذا استطاعت أن تتخطى كل الخلافات لتدرك أن الكنيسة شخصية حية جامعة نشخص إليها و نتجه نحوها و نعيش من أجلها، و لن تنفصم وحدتها رغم أنف الجميع !

هذا ما يجب أن يقوم عليه أى أطروحة لإنهاء الأزمة الحالية ، أن تكون كل جدالاتنا و تفكيرنا و كتابتنا من أجل الكنيسة ... نحو الكنيسة ، ليس من أجل الأشخاص الفرديين الزائلين ، و ليس من أجل مجموعة أفكار نثق أنها صحيحة ، و ليس من أجل "مجتمع" أو "جماعة" ننضم لها لنستمد منها أماناً نفسياً زائفاً .. بل من أجل جسد واحد يجمع كل هذا فى وحدة مستيكية حيّة، و هى حقيقة إلهية لا ينبغى أن تطغى عليها ما يصطنعه البشر من شجارات و إنقسامات تحت أى مُسمى ... يجب على الجميع أن يُذعن لها ، لأنه ببساطة لا يستطيع طمسها !

أن تُصلح الكنيسة هو أن تُصلح الإنسان لا أكثر و لا أقل ، إنها مبنية من حجارة حيّة ، تنبض و تفكر و تُخطىء .. لكنها حتماً ستقوم ... و الأمر كله يتعلق بأن "تمحو الذنب بالتعليم" كما تُعلمنا الدسقولية المقدسة !

أكثر ما أكرهه هو النقد الذى يمسك العصا من المنتصف ، بل أنا لا أرى ضرورة لتلك العصا أصلاً ، فالسوس قد أفسدها و هى غير صالحة الآن على كل حال ... فى تلك التدوينات سعيت لأكون غير متحيِّز لهذا الطرف أو ذاك ، فأنا لست مع أو ضد ... بل أريد أن أكون "من أجل الكنيسة" ... أن يكون كل هذا "نحو شخص الكنيسة" فقط !  ولا عجب إذا لم يتقبل البعض تلك الحقيقة .. فلا أحد يقبل التوازن ، و هو موجود فقط فى بعض النماذج الإقتصادية النظرية التى درستها فى إطار آليات السوق !!!

أما من لم يدرك بعد تلك الحقائق و سيستمر فى نباحه فأرجو أن يعلم أنه لا يصلح سوى أن يكون "أراجوزاً" يشاهده الناس ليتسلوا و يسروا عن أنفسهم .. فطرائق هؤلاء لا تخلو من كوميديا لطيفة، و هم غير قادرين على الوصول إلى تحليل عميق للأمور ، فكل ما يهمهم هو النباح و كفى ... و هؤلاء لهم منى رسالة خاصة : ألف سلامة .. و تمنياتى لكم بالشفاء العاجل !

و لكل من إشترك فى تلك الجدالات أحمل أخباراً غير مفرحة على الإطلاق .. هذا الجيل لن يرحم أحداً... فهو يدرك تماماً أنه أمام طريقين ، إما أن يحاكم الواقع و يعيش فى الماضى ، و إما أن يحاكم الماضى و يتقدم نحو واقع أفضل .. نحن سنعلق المشانق لكل مَن ساهم يوماً فى وصول الكنيسة إلى ذاك الحال !

كل نقدى لتلك الثقافة ستجده يقوم على أنها "غير إنسانية" ، أما أنا فأريد أن أكون إنساناً ، و كلماتى هذه ليست بكلمات بالحقيقة ، و لا هى حروف و لا أفكار ، إنما صرخات أطلقها أمام الجميع مُتبرئاً من تلك الثقافة ، و من كل مُغزياتها ، و من المشاركين فيها ،ساعياً إلى الوصول إلى "الإنـــسان" الحق ، و هو يسوع المسيح ... رب الكنيسة و حافظها و مُقدِّسها إلى الأبد .. آمين !
تم بنعمة الرب
The Observer
_______________________________
 1 ـ رسالته إلى الكورنثيين 46 ، 48
2 ـ ينسن زونتجن ـ فكَّر بنفسك ـ عشرون تطبيقاً للفلسفة ـ صـ 7
3 – هذا التشبيه ورد عن الكنيسة فى كتاب الراعى لهرماس – من كتابات القرن الثانى
4 ـ " الذى أعطاه الرب و كرز به الرسل و حفظه الآباء" على حد تعبير قد أثناسيوس الرسولى
5 ـ بالطبع لا أقصد التعميم ، بل أردت وصف الطابع العام لإتجاهات تعاملنا مع النصوص الآبائية ، و هنا أذكر مؤسسة القديس أنطونيوس ـ المركز الأرثوذكسى للدراسات الآبائية التى تسهم بدور كبير فى تقديم دراسات آبائية ذات طابع إجتماعى و إنسانى !
6 ـ و فى حالات أخرى ما ننقله من هويات و ثقافات كنسية مُغايرة بدون وعى كما راينا
7 ـ صمويل روبنسون – تأثير كتابات الأب متى المسكين على الكتابات اللاهوتية فى الكنيسة القبطية
8 ـ عُذراً إذا كنت سأكتفى بتقرير حقائق سريعة فى تلك التدوينة ، لأنى بصدد إعداد دراستين نقديتين ، واحدة عن طريقة تعاطينا مع كتابات الآباء ، و الثانية عن مونوفيزية خطابنا اللاهوتى المعاصر .

9 ـ  حتى أنه صار يُنظر إلى الدراسات الغربية عن آباء الكنيسة ـ حتى و لو قام بها لاهوتيون من الكنائس الأرثوذكسية ـ بنظرة من الشك بل من الرفض و ذلك بتأثير الكتابات المسيحية العربية من القرون الوسطى / صمويل روبنسون