Sunday 17 June 2012

النباح المقدس 2 / ما بعد دون كيخوته


النباح المقدس (2)
ما بعد "دون كيخوته" !

 [ إن الحظ يسوق أمورنا خيراً مما تستطيعه رغبتنا، أنظر يا صديقى "سنشو بنثا "، أمامنا على الأقل ثلاثون من المردة العتاة، أو يزيدون ، أرى أن أنازلهم و أسلبهم الحياة جميعاً بدون استثناء ، و بإسلابهم نبدأ ثروتنا ... لأن هذا الجهاد نبيل ، و فى سبيل الله إبادة تلك العصابة الشريرة من على وجه الأرض ][1]
دون كيخوته

 لمَّّا قرأت ما كتبه العظيم ثربانتس فى رائعته "دون كيخوته" ، عمّا فعله هذا البطل الورقى النحيف ... عندما اندفع بجهله و غبائه ليصارع طواحين الهواء ، متخليلاً أنه سينتصر على تلك "المردة الجبارة الشريرة" فى معركة غير متكافئة - فى حين أنها تهرب من أمامه بخسةٍ و دنائة - و كيف أنه كان مقتنعاً تماماً فى مخيلته أنه سيجعل تلك المخلوقات الأسطورية تدفع ثمناً غالياً ... لما قرأت وجدت أن صورة ذلك الرجل لا تبرح من مُخيلتى كلما تمعنت فى حال ثقافتنا التى تختلق لها عدداً من تلك الطواحين ، و تُحاربها عن تُعمد ، و ما جَنت من هذه الحرب إلا "اللاشىء" !
... سيتضح ذلك على طول التدوينة ، و بالرغم من أننا سنتعرض "للأدب" كثيراً ، إلا أن العديد من الممارسات التى نناقشها هنا تنتمى غالباً إلى "قلة الأدب" ...

طواحين الهواء ...
تلك مجموعة من الملاحظات التى شكَّلت جانباً ثورياً فى رؤيتى الخاصة للمشهد الراهن :

أولاً: أن المعظم الجدالات التى "تُحشَر عنوةً" فى أدمغة الشباب الكنسى المثقف ، و يُدفعون لخوض معارك دونكيخوتية من أجلها ، هى إمتداد لنمط الوعى الوهمى الذى تغرق فيه ثقافتنا ، و أكاد أجزم أن جُلَّها لا يمت بِصلة بما يحتاجه المؤمن الأرثوذكسى ـ العادى ـ من وعى إيمانى ، أو يمس مشكلاته الحقيقية حتى من بعيد !
خذ عندك الجدالات التى تستند فى بنيانها على الوهم و اختلاق "الأساطير" عن الموقف اللاهوتى للطرف المعارض :
مثلاً : عندما يصف سيدنا المتنيح البابا شنودة الثالث فى كتابه بدع حديثة عقيدة تأليه الإنسان بالنعمة بأن معناها الإتصاف بالصفات الإلهية [2] ، أو أنها تطابق مذهب وحدة الوجود ... و هى خطية الشيطان ، مع أن أحداً من الذين يرجعون إلى المصادر الآبائية الأولى للتعرف على دقائق تلك العقيدة القويمة لم يشير و لو من بعيد إلى تلك الأفكار، فالجدل منذ البدء مبنى على "أسطورة" لا تجد لنفسها مكاناً فى واقع الخطاب اللاهوتى المضاد ... و على قاعدة التوهُّم تلك تُبنى أكثر الجدالات العقائدية المُعاصرة أثراً فى شق الجسد الكنيسة !!
 أو إنتقاد "عدم تفسير" نهاية إنجيل مرقس ، بدون معرفة كافية بمستجدات علم النقد النصى ...
 أو الإدعاء بأن الخصوم ينكرون صفة جوهرية فى الله ، لمجرد أنهم إتخذوا موقف تفسيرى مختلف من "العدل الإلهى"...مع الإستغراق فى هذا الجدل كله بدون عرض ـ و لو حتى مبتسر _ لتاريخ تطور الأفكار و الشروحات المسيحية ، حتى و لو من باب أن التطور و التغير هو ظاهرة إنسانية عامة توجد عندنا و عند غيرنا ...
أو عندما ننشغل بعبارات مثل " أن الكنيسة وُلدت فى بيت لحم مسقط رأس البشرية المفتداة" و " الله ليس آخر بالنسبة للإنسان" ، "نحن نأكل اللاهوت فى الإفخارستيا" و كلها عبارات مستيكية تتماشى مع طريقة تفكير و كتابة الأب متى المسكين و لا تؤخذ بالمعنى الدوجماتى الدقيق ..
أو الإستغرق فى الجدل العقيم بتاع النعمة و الأعمال ..أو تغيير معنى عبارة "صُلبنا معه .. قُمنا معه" أثناء الجدل اللاهوتى بغرض تشويه عقيدة الطرف الآخر !!!

قارن تلك الجدالات مع الحرب الملحمية التى خاضها أثناسيوس فى سبيل تأكيد الخلاص ، أو المعمعة الدهرية التى دخل فيها كيرلس دفاعاً عن وحدة الله و الإنسان ... أعتقد أن جدالاتنا المعاصرة ستتهافت و تفقد الكثير من ثقلها الذى نتخيله ، و الكــيفية التى تم خوض تلك الجدالات وفقاً لها تحمل الكثير من التفاهة ، فهى غير ذات قيمة من جهة مُطلقة ، لكن هذا ما فرضه الواقع التاريخى و علينا أن نُنهى تلك الركاكات فى أسرع وقت !
...

ثانياً : سمة خطيرة أخرى نجدها فى تلك الجالات ، فتجريدها و تَخليتها من بُعدها الإنسانى يجعل من المُدافع عنها يُركز على تأكيد بعض "التعبيرات" و القضايا الجافة ، و هو أمر يبتعد كثيراً عن اللاهوت الذى نبحث عنه !
و هنا أعترف أن لاهوت دكتور بباوى يمتلك قاعدة إنسانية صحيحة و قوية ، لكن قليلاً ما تجد صدى تلك القاعدة فى الكثير من تلاميذه و مريديه ، و بالرغم من أن ما يقدمه يفيدنى جداً فى التعرف على الفكر الإنسانى الأرثوذكسى ، إلا أن السمة العامة الغالبة لكل الجدل لايزال مُجرّداً !
كل هذا بلا شك ينطوى على تسطيح الخطاب اللاهوتى ، حتى خطاب الطبقات المثقفة "الغزير معلوماتياً" ، غالباً ما يكون سطحياً من الناحية الفكرية ، لأنه ـ و ببساطة ـ لا يمتلك أدنى حد من الإنفتاح و قبول الآخر ، فنادراً ما تجد مَن يقبل الآخر المختلف فى أدبٍ و رقى ، أو يكون عالماً ، مثلاً ، بدهاليز أفكار العصور الوسطى التى ينتقدها...، أو مَن يخرج بتلك الجدالات من دائرة التوهم و الجهل التى تحدثنا عنها ، أو من يُعلن بطلانها فى مجملها ، لأنه لا ينبغى لكنيسة عريقة مثلنا أن تستغرق فى تلك البدائيات .

علاوةً على أن بعض تلك الجدالات تختزل دوجما الكنيسة بقدر كبير من الإخلال ، فما معنى أن يتم اختزال لاهوت خلاصنا فى الدفاع المصطنع عن "تعبير التأله"؟؟ ( و هو عند أصحابه يظل جدالاً اسمياً ... لأنه غير متحقق فى الواقع من الناحية الأخلاقية ) ، أو ما معنى أن يتم ابتسار عقيدة الكنيسة فى اللإفخارستيا فى قضايا مثل : أكل الطبيعة الإلهية ، تناول يهوذا ، هل كان المؤمنوم يتناولون الجسد فى أيديهم .. إلخ
ناهيك عن الخروج بتلك الجدالات من مكانها الطبيعى و هو الكليات و المعاهد الأكاديمية ، إلى الشارع القبطى الذى ينقسم ما بين جاهل يتلقفها و ينبح بها ، و بين مَن لا يهمه تلك النقاشات برُمتها.
...

ثالثاً: لعلَّ المتابعون لكتابات و محاضرات د. جورج حبيب بباوى ، يلاحظ أنه عادةً ينتقد المتنيح البابا شنودة فى أمريِّن ، أولهما أنه يتبع ثقافة حشد الأتباع و قد كوّن حوله مجموعات تتشيع له ، "فأصبحوا شيعة" ، و ثانيهما أنه يقصى الطرف الآخر و يُشيطنه و يشوهه بحملات الأكاذيب و الكراهية .

هنا من حقى أن أسأل د. بباوى و من يقتنعون "بأسلوبه" ، هل كان خطابه اللاهوتى "أفضل" مما ينتقده ؟؟... أعتقد أن الإجابة ستكون بالنفى !
لأن الذى انتقد ثقافة التشيُّع فى عصر الأنبا شنودة ، هو نفسه قد تجمعت حوله شيعه سواء قصد ذلك أو لم يقصد ، جرّب كدا إنك تنتقد د. بباوى قُدام أحد من مريديه أو أحبائه .. و شوف هيحصل فيك إيه [3]!!!...
كما أن الخطاب اللاهوتى لدكتور بباوى مُحمّلاً بالكثير من العنف و الإقصاء هو الآخر ، فمن الهجوم غير المشروح و لا المتزن على الفلسفة و العصر الوسيط ( بإعتباره يختلف معهم ) ، إلى هرطقة قداسة البابا شنودة و وصفه بالنسطورية و الأوطاخية... إلى آخر تلك الاتهامات ، التى فى حقيقتها متبادلة بين طرفين مختلفين، مِن المفترض أن يجمعهما جسداً واحداً ، يعنى مافيش حد أحسن من حد ، و مادام الطرفان قد إنزلقا فى هذا المستنقع ، إذاً فالمفاضلة بينهما تصبح شيئاً سخيفاً !!!
أرجو أن تتحملنى يا عزيزى فى كلامى هذا... أنظر مثلاً تحريض د. بباوى على الامتناع عن حضور القداسات والخدمات الكنسية و عدم تقديم أى عطايا و نذور للكنيسة ، بل و وصفه هذا التحريض
بـ"ممارسة الحق الكنسى لرتبة الشعب التى أنتهكت حقوقها" .. أو كلامه على أن شرارة الثورة قد دخلت الكنيسة ، و دفعه المُبطَّن للشباب الكنسى المثقف الذين درسوا اللاهوت و التاريخ خارج أسوار الكنيسة للصدام مع هؤلاء ( اللى هم الأساقفة) الذين تفوق الشباب على عدد كبير منهم ... و العجب العُجاب أن يصدر ذلك الكلام عن لاهوتى مثله يُعد أحد قادة الرأى ،و المؤثرين عليه فى الكنيسة اليوم !!!... هل المشهد  ( العنيف أصلاً ) يحتاج إلى مزيد من العنف و الصدام ؟؟ .. و هل صدام د. بباوى نفسه مع قيادات الكنيسة أنتج ثماراً للمحبة و السلام و الإصلاح ؟؟؟ .. هل نستطيع تشبيه هذا بما تفعله جماعات العنف الدينى من شحن الشباب ـ بشكل غير مباشرـ بالآراء و الأجواء العنيفة ، لينطلقوا لممارسته بدون وعى ؟؟؟

نعم .. قد لا يكون الرجل قاصداً ذلك  .. لكن لغته تلك تؤثر حتماً .. أنا "حزين" من أجل الوصول إلى تلك النتيجة .. فقط أرجوه أن يرتقى بلغته اللاهوتية فوق من ينعتهم بالهراطقة ، من حقه أن يشرح فكرته ، و أن يثبت دعائم ما يراه أرثوذكسى ، لكن ليس من حقه أن يصِّدر لى كل هذا الكم من العنف فى خطابه اللاهوتى !!
...
  
رابعاً : المشهد المرتبك الذى نُحلله هنا ، يكشف لنا عن إنقسام حاد و خطير بين مَن هم "مع السلطة الكنسية" ، و مَن هم ضدها ، و مِن المؤسف حقاً أن نتحدث عن : تكتلات مع و ضد أشخاص ، تحيُّز إلى سلطة ما أو مناهضتها .. فى حين أننا ننسى الجسد المسيح الذى يوّحدنا جميعاً معاً كأعضاؤه بالحقيقة ... و إذا كان هذا هو نمط ثقافتنا .. فلا مناص من نقده ,,,
إذا كانوا مَن يتشيعون للسلطة ( حتى عن سلامة نيَّة) يساهمون فى الإبقاء على بعض الأوضاع الخاطئة فى المجتمع الكنسى كما هى بدون تعديل إيجابى ، فإن من يُعارضونها هم فى كثير من الأحيان أشد خطراً على الكنيسة المقدسة من هؤلاء ، لعدة أسباب :

أولاً : أنهم لا يرتكنون إلى مصدر للأمان ، بمعنى أن الفريق الأول المُتشيِّع للسلطة ، يمتلك قدرٍ من القوة (حتى لو كانت مصطنعة) و من الثقة فى الذات ( حتى لو كانت عن جهل) ، مما يعطى لهم إحساساً زائفاً بالإطمئنان ، لأنهم " ولاد الكنيسة / اللى بيدافعوا عنها ضد المُخربين / ولاد الطاعة اللى هيحل عليهم البركة ..." !

أما الفريق الثانى المُعارض فهو متوتِّر على أعلى مستوى ، يظهر ذلك فى حالات الهياج و التشنج النفسى و العصبى التى تُلاحظها على هؤلاء ، هو لا يمتلك أدنى حد من الأمان النفسى ، لأنه يدرك تماماً أنه أمام سلطة كنسية ـ إلهية لا يملك أمامها سوء المزيد من النباح ... أمام واقع يستحيل تغييره إلا إذا امتلك تلك السلطة عينها أو حصل على بعض مواقع القوة !!.. و إذا ما أخذنا العوامل النفسية و الشخصية التى تُحرِّك هؤلاء فى الحسبان .. فسنصل إلى أن ما يقوم به هذا التيار لا يساهم فى الواقع إلا فى مزيد من الإنحطاط الخلقى ... هذا فضلاً عن أثره العكسى فى زيادة تكتُّل الشعب حول "أشخاص" [4]القيادات الكنسية ، و هو ما يُحدث المزيد من الفُرقة !

ثانياً : أن هذا الفريق الثانى غالباً ما يلجأ إلى بعض المرجعيات ( الآباء القديسين و متى المسكين ) ليستمد منها قوة غائبة يعرف جيداً أنه لا يستطيع الحصول عليها واقعياً ، فنجد من لا يعرف من كتابات الآباء سوى النصوص التى تتحدث عن عقوبات الأسقف و كيفية رعاية شعبه ، أو توبيخ يوحنا ذهبى الفم لكهنته ... فقط ليستغلها فى ممارسة هواية النباح ... فإذا جمعنا تلك المرجعيات بثقلها مع ما يفرزه هؤلاء من تُسفُّل خلقى ، فسنجد ان المشهد قد إزداد تعقيداً !!!
..

خامساً : أحد السمات التى يُلاحظ تواجدها فى بعض المجموعات ذات الصوت العالى فى المجتمع الكنسى هى الإنقلاب على المرجعيات التى تعتبرها و تُصدرها كواجهة عندما يقتضى الأمر بأن تدلو بدلوها فى أحد المشاكل المستجدة أو المعضلات العملية فى الكنيسة ، و بالطبع تلك الحالة من "الفصام" هى أحد مظاهر شيزوفرينيا الهوية التى يعانى منها المجتمع الكنسى برُمتُّه !
مثلاً : كم مِن مرة تحدث فيها مُنظروا "التيار العلمانى"عن الأب المسكين بالكثير من المدح و الإطراء ، و كم من مرة صدّروه بإعتباره "الأب الروحى الحقيقى" و "الباعث الأول لنهضة الكنيسة القبطية" .. إلخ
فهل إلتزم المنضمون تحت لواء هذا التيار بموقف الأب متى من قضية الطلاق و الزواج الثانى فى الكنيسة الأرثوذكسية عندما طُرحت على الرأى العام ؟؟ أم جائت مواقفهم المُعلنة منقلبة تماماً على المرجعية التى اتخذوها هم لأنفسهم ، و التى تقر بحقيقة أن موقف الأب المسكين من تلك القضية جاء مُطابقاً تماماً للموقف "الكنسى الرسمى" الذى يناهضونه ؟؟؟!

 لك أن تقرأ ما كتبه المسكين عن أن الطلاق :[[[ "أمراً غير وارد في قلب الله منذ البدء ، أن الزواج رباط غير قابل للإنحلال .. الطلاق بدون العلَّة غير قانوني، وهو مرفوض من قبل الله ... ثم ألا يكون هذا هدماً لجسم الكنيسة، وقطعاً للطريق أمام الرجل والمرأة والنسل المؤدِّي إلى الملكوت؟؟ ... فالكنيسة التي تتهاون في تسهيل الطلاق، إنما تهدم نفسها وتقضي على مستقبل الذين سهَّلت لهم الطلاق، وهذا يكاد يكون غلقاً لباب الملكوت في وجوههم... لذلك نتمنَّى أن تشدِّد الكنيسة على سمو هذا السر العميق والفائق، لأن في إدراك هذه الحقائق تتقدَّس الوحدة، وتثمر لحساب الكنيسة والمسيح. ]]][5]
... الإجابة معروفة و لا تحتاج إلى تعليق .. !

بل ربما تجد أحدهم مهتماً جداً بإعادة ترجمة رسالة القديس كليمندس الرومانى إلى الكورنثيين ، التى تُعالج الشقاق الذى حدث فى تلك الكنيسة بين الشعب و الإكليروس[6] ، فى حين أنه هو نفسه لا يدّخر جهداً فى إصطناع المشكلات و سَبّ الإكليروس و تقديم العلمانيين بإعتبارهم "الأعلون" .... كل هؤلاء ليس لديهم أدنى مشكلة فى التحول و التلون و الإنقلاب على ما يُنظِّرون به ، فى أول مُنعطف ، و حسناً جداً أن تظهر حقيقتهم لنا سريعاً !!!
 ...

سادساً : أتسائل هنا عن المتحقق الفعلى من كل هذا الصراخ و النباح و التطاول على الكنيسة ، و نقد أشخاص و أفعال قادتها .. كل هذا الذى قرأته و الذى مازالوا يمارسونه بجهدٍ و عن إقتناع ... لا شىء سوى فسخ الكنيسة !!!
لم يتحقق أى شىء حقيقى على أرض الواقع .. صحيح أنه ساهم بقدرٍ ما فى دفعنا لدراسة الآباء والتقدم فى المعرفة ، لكن هذا الهدف الأخير كان من الممكن تحقيقه بكيفيات أخرى أكثر فاعلية و بشكل أكثر رُقيَّاً لا يقسم الجسد الواحد ... إنه مجرد نباح .. هذا هو الوعى الذى فى حقيقته "لا وعى" ... يرقد على ركام من القش و يظن أنه منجم من ذهب !! ... "ضجة فارغة" ، و "جعجعة دون طحن"[7] على حد تعبيرات شكسبير !
هذا الأمر قد أدركه البابا الراحل ، فبإمكانك أن تكتب فى الجرائد كما شئت ، أن تعقد إجتماعات و لقاءات لحركة العلمانيين و أن تدعو لمؤتمرات صحفية ، و لكن لا شىء حقيقى يتغير .. " و خلى اللى يقول يقول" " خليهم يتسلوا" ... فى هذه النقطة تحديداً كان حكيماً جداً ، لأنه يعلم أن النباح لا يفيد .. دعه ينبح دعه يمر .. إنه لا يَضُر مادام قد ظل شيئاً أليفاً !
...

سابعاً : يقول سقراط أنَّ [ قلة الدين ، و قلة الأدب ، و قلة الندم عند الخطأ ، و قلة قبول العتاب .... أمراض لا دواء لها ].. فيا تُرى ، ماذا كان سيقول إذا رأى حال ثقافتنا ؟
و إذا كان من عادة القول أن نتحدث عن الله بإعتباره هو من يستطيع تفسير"الأخلاق" فى الوجود الإنسانى، فإن البعض أثبتوا أنهم يستطيعون الحديث فى اللاهوت بلا أدنى حد من الأخلاقية !!!
يعنى هيفيدنى بإيه إنك تحشر هذا الكم من النصوص الآبائية فى كتبك ، و توصلنى إياها، و أنت لم تتعلم طريق المحبة بعد ؟ أو  كيف تكون مُتألهاً و أنت تدعو لرفع دعوى قضائية على من ظلمك من المطارنة .. وخطابك اللاهوتى يفرز هذا القدر من العنف ؟
كل ما تكلمنا عنه من جدالات غير مُفعّل من الناحية الأخلاقية ، و تتدخل فيه العوامل الشخصية و تصفية الحسابات لتوجهه و تحدد مساره البعيد عن الموضوعية[8] .. و هذا ما يجعله غير شريف بقدرٍ كبير !

فقد يصيبك القَدَر بالتعرُّف على أحدهم الذى لا يطيق أن يكتب قداسة البابا شعره الروحى الذى يقول فيه " قلبى الخفاق أضحى مضجعك .."، و يسبُّه من أجل كلماته، فى حين أن هذا الشخص نفسه ليست لديه أدنى مشكلة فى أن يشتم و يلصق صور البورنو على صفحته الفيسبوكية ... هذا يُذكرنى بشخصية "فيدرو بافلوفيتش[9] " / المُهرَّج العريق " الذى تحدث عنه ديستويفسكى فى رائعته "الإخوة كارمازوف" !
أو قد تصطدم بأحد الشيّب من الناس ، الذى قد بلغ من العمر أرزله ـ فى الواقع لم يتجاوز مرحلة المراهقة بأى حال ـ و هو يكتب تلك التعليقات و المقالات الطويلة ، التى لا تخرج منها بشئ سوء التطاول و التسفل ، حتى على مَن إنتقل مِن قيادات الكنيسة ، الذى لا يملك الآن سوى الصلاة لهذا الشخص !

و فى حالاتٍ عالية من التأزُّم النفسى... تجد أحدهم يتحدث عن "إسقاط الدولة الشينودية" ( على مراحل طبعاً ) و عزمه على إجبار البطرك على الرحيل ، و عن مغامراته الخطيرة فى الخدمة و الجهاد فى سبيل الكنيسة، بغرض تقديم نفسه فى صورة بطولية مُهترئة كروبنهود الأقباط ، فى حين أنه ما بيعرفش يكتب عربى و لا يعرف يفرّق بين التاء المربوطة و الهاء ضمير المُذكر !!!
الأمر يتطلب تدخل سيكولوجى حاد تجاه تلك الشخصيات لعلاج حالاتهم النفسية و العقلية التى لا علاقة لها بالإصلاح المنشود فى الكنيسة .
...

عودةً مرة أخرى إلى"دون كيخوته" رفيقنا فى تلك التدوينة ،  فذاك الشجاع حينما اصطدم بالواقع و سقط أرضاً مُلطخاً بالتراب من جرّاء الإصطدام بطواحين الهواء ، لم يرض أن يعترف بجهله ، و توهّم أن الحكيم "فرستون" قد حوّل تلك المردة إلى طواحين هوائية حتى يحرمه من شرف الإنتصار عليها ، و الخوف كل الخوف من أن نُصبح مشابهين لدون كيخوته فى تلك الصفة بالذات ، عدم القدرة  على إختراق الشرنقة التى حبسنا فيها أنفسنا، و الوقوف عند منطقة الضباب التى اصطنعنا في أجوائها الوهم إصطناعاً لنجعل منه عدواً نحاربه و ننتصر عليه ، لنشبع بها ذاتيتنا الغائبة و نملأ به الفراغ الفكرى الذى لم يقوى "لاهوتيونا" على تدميره !! .. هنا مكمن الداء و مصدر الخطر !... إذا لم نستطع تجاوز تلك الدونكيخوتية ، فقولوا علينا السلام !

...

الملحوظة المعتادة : استنى ما تشتمش ـ و تبيِّن طبيعتك المنحطة ـ إلا لما تقرا التدوينة الجاية ... إتقل أوماااال ...



1 – دون كيخوته / ثربانتس ـ ترجمة عبد الرحمن بدوى ـ الفصل الثامن
2 - بدع حديثة / قداسة البابا شنودة الثالث
3 – يمكن الشتايم اللى هيقولها هؤلاء هتأكد وجهة نظرى
4 ـ لأن وجودنا المسيحى الحقيقى هو فى الكنيسة / جسد المسيح و ليس حول أشخاص أياً كانت أسمائهم !
5 ـ يمكنك مراجعة تفسيره لـ (مت 5 ، 19 ) على سبيل المثال
6 ـ [ من يستطيع أن يصف الرباط المبارك لمحبة الله ؟؟ أى إنسان يقدر أن يخبر عن عظمة جماله ؟؟؟  إن العظمة التى يمكن أن تمدح بها المحبة لا يمكن التكلم عنها ، المحبة توحدنا بالله ، المحبة تحتتتمل كل شىء ، و تتأنى على كل شىء ، ليس فى المحبة دناءة و لا عجرفة ، المحبة لا تسمح بأى إثارة للفتنة و الشقاق ، المحبة تصنع كل شىء فى تناغم ] ـ نص من الرسالة
7 ـ مسرحيات شهيرة لويليم شكسبير
8 ـ أفضل الأمثلة على ذلك ، هو ما تلقيته من سُباب و ألفاظ نابية ، كرد فعل على التدوينة السابقة ، و التى طالبنى فيها الأخ الشاتم أن أنشر سفالاته علناً على المدونة ... لكن إحتراماً لك عزيزى القارىء ، و تقديساً لما أدرسه فى تلك المدونة من لاهوت و فلسفة مسيحية ، فقررت أن أنأى بك عن تلك التجاوزات ، أما من شتمنى فأقول له : ربنا يسامحك ... فكل ما يستطيع الشيطان أن يفعله بهيجانه علينا ... هو إعطائنا المزيد من التأكيد حول ما نملكه من الإنتصار .                                                                                         
 9 - كان مُتسفِّلاً خلقياً .. و ناقداً للكهنة فى نفس الوقت .. و هو ما لا يخلو من طرافة