Friday 2 December 2011

استفزازات / لماذا قرأت كيركيغارد ؟


استـفـزازات !
Provocations
."كتاب مُترجم للفيلسوف المسيحى "سورين كيركيغارد

 [[[ إنَّ ما أحتاج إليه حقاً هو التوافق مع ذاتى، و فِهم قدرى و ما يريد منى الله أن أفعل، إنَّ ما يهم هو اكتشاف حقيقة تكون "حقيقية" بالنسبة لى، و أن أجد تلك الفكرة التى أعيش و أموت من أجلها، فليست الحقيقة سوى أن تعيش من أجل فكرة !]
فى عصر أحد أيام صيف 1835 م، و بينما هو جالس وسط حقول أزهار الـ"ألبا" الشهيرة، مستمتعاً بتلك النَسَمة الخفيفة التى كانت تداعب وجهه الرقيق ـ فى مصيف"جليليج" على الساحل الدنماركى ـ دوَّن الشاب "سورين كيركغارد" فى يومياته تلك الكلمات السالفة، التى لا تُعبِّر ـ فقط ـ عن بدء رحلة طالب اللاهوت ذا الاثنين و العشرين ربيعاً فى البحث عن مفهوم فلسفى شخصى لحياته ، بل تُنذر ببدء كتابة فصل جديد فى تاريخ الفكر البشرى ، معه، ستُجَدِد الإنسانية ذلك العَجَز و الفتور الذى أصابها على يد فلاسفة القرن السابع عشر، فَصل، سيحتل فيه "الفرد" الأهمية القصوى و يلعب فيه دور البطولة بلا أى مُنازع أو غريم ! ]]]
م . استفزازات
 
كان هذا ما كتبته كـ"افتتاحية" لمقدمة أحد الأعمال المترجمة، لنبى الإنسانية الجديد "سورين آباى كيركيغارد" ،و هو عمل مُجمَّع من كتاباته، ذات التوجه الإنسانى المسيحى، المرتكز على غِنى كلمة الله، و الإختبار المأساوى الذى عاشه هذا المفكر الدانماركى فى سنى حياته الاثنين و الأربعين .
كتبتها ... بعد ما يقرب من الثلاثة أشهر، من تلك الجلسة الممتعة التى حدثنى فيها صديقى العزيز "د/ فادى فيكتور" ـ و كان يترجم بعض أعمال كيركيغارد ـ عن ذلك المُفكر الغربى الذى صار مؤسساً لتيار "الوجودية المسيحية" فى تاريخ الفكر الإنسانى برمته ، قراءاتى الفلسفية آنذاك كانت لاتزال فى بدايتها القاصرة، الأمر الذى لم يُمكنِّى من متابعة حديثه باستيعاب كامل، لكنى لم أكن أتوقع أن تلك الجلسة القصيرة سوف تفتح أمامى باباً فكرياً جديداً، أُدرك من خلاله كل هذا الغِنى الإنسانى الرائع فى الفكر المسيحى الغربى ـ غير الأرثوذكسى، و أتعرف على "فيلسوفى" الوجودى الأول الذى قضيت معه أروع لحظات فكرية مرَّت علىَّ فى تاريخ قراءاتى !
و بإعتبارى قارىء لبعض الدراسات التحليلية عن "كيركيغارد" ،طلب منى هذا الصديق "قراءة" ذلك العمل المترجم عن الإنجليزية، فى تعريـبه ،قرأته فى ساعات قلائل بشغف كبير كما هى عادتى مع كلمات "كركيغارد"، اشتركت فى تعديل بعض الصياغات البسيطة، و اقترحت عليه كتابة "مقدمة" صغيرة، رسمت فيها صورة عامة موجزة عن حياة "كريكيغارد" و الهاجس الذى كان يسيطر عليه أثناء تلك الحياة القصيرة ، الغنية، مع فقرة نقدية غير مستفيضة !!
كتبت المقدمة فى 900 كلمة، و هو عمل بسيط فى مقابل عمل الترجمة التى قام بها : د.مينا مدحت، د. فادى فيكتور، بالحقيقة لم أكن أستحق أن يوضع اسمى على غلاف الكتاب بصفتى "مُراجِع" له، و هو الأمر الذى من أجله أشكر محبة المترجمين جزيل الشكر   

J

إليك أخى القارىء مقتطفات من تلك "المقدمة"، القصيرة :
 [[[ ... ليس"الأب" و "الحب" فقط هما من شكََّلا شخصية كيركغارد المأساوية و اللامعقولة، فلكى يكتمل الثالوث الإنسانى الكريجورى، كان لابد أن تشتعل شرارة الحرب المقدسة التى خاضها و ناضل فيها بضراوة و خرج منها منتصراً للإنسان ! ،إنها سلسلة من المعارك التى أدارها ضد الكنيسة اللوثرية الرسمية آنذاك منذ انتقاده للأسقف "مينستر" على أنه لا يمثل المثال المسيحى الصارم، فيها نجده كمقاتل شرس عن"التفرد المسيحى" ضد كل أشكال التغرب الإنسانى عن الله، حتى داخل المسيحية الحاضرة التى اتخذت من الحشد و التكتل سُبلاً أفقدت بها الوجود الإنسانى وزنه و جماله !
أما تلك الحركة الوجودية ـ أو قل "الإنسانية" ـ التى أحدثها كيركغارد فى مسار الفكر الفلسفى شديد العقلانية، فهى "وجودية حياتية" تهتم دوماً بمعنى أن يوجد الفرد ككائن إنسانى ، أو كيف يمكن للمرء أن يحيا كموجود إنسانى ( على نحو ما يقرر بريتيوف برانت) ، إنها وجودية تركز على الفرد الإنسانى فى معاناته و قلقه و سعيه فى سبيل الله، غير عابئة بالمعقول و العالم العقلى ، إنسانية بحتة باحثة عن العبث و اللامعقول فى كل ما هو قلبى و ذاتى و شخصى !
 على شاهد قبره أوصى كيركغارد بنقش شعر "برسون":[ لحظة قصيرة، ثم أنتصر، ثم أنَّ كل المُعاناة تكون قد ولَّت فى التو، و حينئذ يمكننى أن أستريح فى الوديان الحلوة، بشكل دائم، و مع المسيح أتكلم !]، و هكذا انِتقل "نبى الإنسانية" عام 1855م ، عن عمر الثانية و الأربعين بعد أن شهد حياة مليئة بالمآسى الروحية، انتقل إلى ذلك"المُطلَق" الذى طالما ناداه، مُعطياً الإنسانية أملاً جديداً ! ]]]
+ + +
و الكتاب حقاً ملىء بالاستفزازات!! ، استفزازات للروح الإنسانية التى يدعوها أن تُجدد شبابها فى ضوء كلمة الله و الإيمان "غير المعقول" به، استفزازات "للإيمان" لكى يتخلى عن الطبقات التاريخية، الشكلية التى احاطت به فى سبيل تكوين علاقة شخصية بالمُخلِّص، استفزازات – متميزة- للفكر ، كى يتخلى عن سياسة القطيع، و لكى لا يحدد علاقته الخاصة بالله فى ضوء أفكاره المسبقة
 يقع العمل فى ما يقَرب من الـ ( 130 ) صفحة ،لم يَصدُر بشكل فعلى فى المكتبات، لكن من المُزمَع توزيعه فى:
1- دار النشر الأسقفية
2 – مكتبة النيل المسيحية
3 – مكتبة الحرية
 يحتوى على 20 مقال من تأليف هذا العملاق الفلسفى، كلها مُقتطعة من أعماله ذات التوجة الدينى الإنجيلى بشكل خاص :
1 ـ استفزازات .
2 ـ أعمال المحبة .
3 – واحدة سألتُ
4 – إما .../ أو ...
5 – أن تجرؤ على اتخاذ قرار .
6 – الخطر الأكبر .
7 – الدعوة .
8 – تعويذة النوايا الحسنة .
9 – ضد الحشد .
10 – ينبغى أن ذاك يزيد ( و هى من أحب المقالات إلى قلبى )
11 – نقاوة القلب .
12 – لؤلؤة كثيرة الثمن .
13 – انتصار الحُب .
14 – حِب الإنسان الذى تراه (1)
15 – حِب الإنسان الذى تراه (2)
16 – من هو قريبى ؟
17 – الحُب الأعظم .
18 – المحبة تبنى .
19 – السن بالسن .
20 – المحبة تَثبُت .
+ + +
إليك أخى القارىء مقتطفات من مقال "حِب الإنسان الذى تراه"، الذى يتحدث فيه العظيم "سورين" عن المحبة المسيحية غير المشروطة لكل من هو "آخر" !

حِـب الإنـسان الذى تـراه !

"إِنْ قَالَ أَحَدٌ:«إِنِّي أُحِبُّ اللهَ» وَأَبْغَضَ أَخَاهُ، فَهُوَ كَاذِبٌ. لأَنَّ مَنْ لاَ يُحِبُّ أَخَاهُ الَّذِي أَبْصَرَهُ، كَيْفَ يَقْدِرُ أَنْ يُحِبَّ اللهَ الَّذِي لَمْ يُبْصِرْهُ؟"(1يو 4: 20 )

[ أن تُحب الآخر رغم ضعفاته و أخطاؤه، و نواقصه، ليس هذا هو الحُب الكامل !، أن تُحب هو أن ترى الآخر جميلاً على الرغم من كل ضعفاته و اخطاؤه و نواقصه، لنفهم بعضنا البعض !

لنفترض أن هناك رسامين، و قال أحدهما: " لقد سافرت كثيراً حول العالم و رأيت كثيراً، و ضاع سعيى لإيجاد وجه يستحق الرسم سدى، لم أجد وجه له جمال كامل يجعلنى أتخذ قرار رسمه، فى كل وجه كنت أرى عيب، لذلك ضاع سعيى سُدى !!!" ، هل يبين هذا الكلام أن هذا الرسَّام كان رسَّاماً عظيماً ؟!

على النقيض، قال الثانى: "حسناً ... لا أتظاهر بكونى رسَّام ماهر جداً، و أنا أيضاً لم أسافر كثيراً، و لكن فى دائرة معارفى الصغيرة، لم أجد وجه قبيح أو ملىء بالعيوب، لدرجة تجعلنى غير قادر على تمييز الجوانب الجميلة فيه، و اكتشاف شىء رائع فى هذا الوجه، لذلك أنا سعيد بممارسة الرسم، و مع ذلك أنا لا أدَّعى إنى رسام" ... ألا يبين هذا الكلام أن هذا الإنسان رسَّام عظيم؟!

من الشائع جداً أن نتحدث عن مواصفات الإنسان، الذى نريد أن نحبه قبل أن نحبه! أن هذا لوضع مقلوب و مُحزن جداً، ليس من المفترض أن تجد إنسان حسب ذوقك، بل أن تُحب الإنسان الموجود أمامك – سواء أُعطى لك أو أنت من اختاره – و أن تستمر فى البحث عن أسباب تجعلك تحبه، بصرف النظر عن كون هذا الإنسان قد يتغير أو لا، الحُب هو أن تُحِب الإنسان الذى تراه، كما جاء فى رسالة يوحنا :"إِنْ قَالَ أَحَدٌ «إِنِّي أُحِبُّ اللهَ» وَأَبْغَضَ أَخَاهُ، فَهُوَ كَاذِبٌ. لأَنَّ مَنْ لاَ يُحِبُّ أَخَاهُ الَّذِي أَبْصَرَهُ، كَيْفَ يَقْدِرُ أَنْ يُحِبَّ اللهَ الَّذِي لَمْ يُبْصِرْهُ؟"(1يو 4: 20 ))

كيف نظر المسيح لبطرس عندما أنكره ؟!، هل نظر له نظرة اشمئزاز و رفض ؟!، بالطبع لا، فقد كانت نظرته له مثل نظره الأم لابنها عندما يكون فى خطر بسبب طيشه و رعونتنه، و لأنها لا تستطع أن تصل إلى طفلها، لتنقذه من الخطر، فإنها تفاجئه بنظرة تأنيب تنقذه من الخطر، هل كان بطرس فى خطر، إذاً ؟!!، للأسف أننا لا ندرك كم يكون خطير على الإنسان أن يخون صديقه، و الصديق المجروح ربما لا يدرك فى خِضَم غضبه و ألمه أن صديقه فى خطر !، و مع ذلك فإن المخِّلِّص ادرك أن بطرس هو مَن فى خطر، و ليس هو!!، و أن بطرس هو مَن فى حاجة إلى الإنقاذ، مخلِّص العالم لم يرتكب غلطة اعتبار أن تعبه قد ضاع لأن بطرس لم يسرع لمساعدته، و لم ينظر إلى بطرس على أنه ضال لأنه لم يُسرع لمساعدته 
!!

إنَّ حُب المسيح لبطرس كان غير مشروط، فى حبه لبطرس حقق "حُب الإنسان الذى تراه"! ، فهو لم يَقل : " بطرس ... عليك أن تتغير أولاً و تكون إنسان آخر قبل أن استطيع أن أحبك ثانيةً" ، لا ، فقد قال العكس تماماً : " بطرس .. أنت بطرس، و أنا أحبك على حالك، و الحب هو ما سيساعدك أن تكون إنسان مختلف" !



فالمسيح لم يقطع علاقته ببطرس، و بعد ذلك جَدد العلاقة مرة أخرى، بعد أن أصبح بطرس إنسان مختلف، لا ... بل حافظ على الصداقة و بهذه الطريقة ساعد بطرس كى يتغير !

 هل تعتقد أن بطرس كان ليتوب دون هذا الحُب المُخلِّص؟؟! نحن البشر الأغبياء نظن أنه إذا تغير إنسان إلى الأسوء، أصبحنا معفيين من محبته، يا لهذا التناقض !!!، معفيين من محبته !، و كان محبته كانت بالإكراه !، قيد نريد أن نكسره و نفر!، إذا كانت هذه هى رؤيتك للإنسان، فأنت فى الحقيقة لا تراه، أنت لا ترى إلا عدم الإستحقاق و العيوب، و هذا إعتراف أنك عندما أحببته لم تعرفه !، و لكنك رأيت مميزاته .

المحبة الحقيقية هى أن تحب الإنسان بصرف النظر عن عيوبة و مميزاته، فمن يحب المميزات لا ينظر إلى الإنسان، و إنما ينظر من خلاله، فهو لا يحبه حقاً، لأن محبته تزول بمجرد زوال تلك المميزات، لكن حتى مع حدوث تغيرات سيئة لشخص ما،فهو يظل موجوداً، لا يزول مع ميزاته، و الحب لا يتبخر فى الهواء، بل يبقى و يصمد مُوَجهَّاً لنفس الشخص، حتى مع كل ما حدث له من تغيرات، سواء كانت جيدة أو سيئة، هذا لأنه لايزال يرى نفس الشخص حتى مع كل ما مر عليه من تغيرات!، الحُب الإنسانى يتطاير مع إختفاء مميزات المحبوب، لكن الحب المسيحى، يبقى رغم العيوب و الضعفات، يبقى رغم كل التغيرات، و يستمر فى حثب نفس الشخص الذى يراه !!

يا للأسف! ، فنحن عادةً ما نتكلم عن إيجاد الشخص الكامل كى نحبه، و لكن المسيحية هى أن الإنسان الكامل "هو من يُحِب الإنسان الذى يراه !" ، فنحن البشر دائماً ما نبحث عن الإنسان الكامل، لكن المسيح نظر إلى الأرض و أحب الإنسان الذى يراه !

إذن، إذا كنت تريد أن تكون كاملاً فى محبتك، فَحب الإنسان الذى تراه كما هو، بكل نواقصه و ضعفاته، حبَّه و كأنك تراه بعد أن تغَّير تماماً، أو أنه لم يعد يحبك، أو ربما تحول لحب شخص آخر، .. حِبَّه و أنت تتخيله يخونك أو ينكرك، حِب الإنسان الذى تراه، و ابحث فيه عن صورة من تُحِب !!! ]



+ + +


لماذا قرأت "كيركيغارد" ؟!
حسناً .. لماذا و أنا إنسان حامل الإيمان المسيحى الشرقى الأرثوذكسى ـ عن قناعة و قوة يقين ـ أقرأ لأحد الفلاسفة ذى الخلفية اللاهوتية اللوثرية من أمثال كريكيغارد ؟ 

دعونى أُعدِد الأسباب فى إيجاز شديد، لأن كل منهم يستحق قراءة دراسية منفصلة فى الفكر الكيركيجورى :


أولاً : القيمة الفلسفية و الإيمانية :
ينزل كيركيغارد عند أهل "الوجودية" منزلة الإثيل، ففى عام 1919م، نشر" كارل ياسبيرز" كتابه" سيكولوجية النظرة الكلية للعالم" ، فيه ، قد قدَّم الحركة الوجودية العالمية على أساس كيركغاردى ، بعدها بثمانى سنوات نشر الفيلسوف الوجودى الملحد " هيدغر" كتابه " الوجود و الزمان" الذى أشار فيه إلى أن كيركيغارد هو مؤسس الوجودية

 أهم ما يميزه هو ذلك الإتجاة الإنسانى الطاغى على كل أعماله ، فهو يُقدم المسيحية على أنها "رسالة إلهية" لهذا الكائن المضطرب المدعو "إنساناً" ! ، نجده كـ "بنَّاء حكيم" على للأساس الأنثروبى المسيحى الذى ترسخ قبله بثمانية عشر قرناً من الزمان !

بعد أن يدرك دارس التاريخ الفلسفى ذلك الفقر القاحل الذى أصاب الفلسفة الحديثة ، فإن قراءة كيركغارد تعتبر بمثابة نسمة هواء عليل يهب فى صفوف الفلسفة النظرية، فالقرن السابع عشر كان يسمى "عصر المنطق" من وجهة نظر معرفية، و القرن الثامن عشر كذلك ، ليس بسبب التمييز بين الإتجاهين المنطقى و التجريبى ـ كما كان الحال فى السابع عشر ـ بل بسبب "تعظيم" دور المنطق حتى فوق الإعلان الإلهى !

لذلك جائت كتابات كيركيغارد بمثابة "ثورة" متمردة على النزعة الهيجيلية العقلية المُجرَّدة السائدة فى عصره، فى هذه الأعمال قد طوَّر الكثير من الأفكار الإيمانية التى أسست فيما بعد ما عُرف بتيار الوجودية المؤمنة و ذلك فى مقابل الوجودية الملحدة عند سارتر و هيدغر ـ تلك الحركة الإلحادية التى نقدها المفكر الأرثوذكسى "كوستى بندلى" فى كتابه " إله الإلحاد المُعاصر"
لكن فى حين كان سارتر معاد تماماً للمسيحية، و لجميع أشكال الإيمان بالله، الذى اعتبره بمثابة "مسترق نظر كونى" يُفقد الإنسان حريته، و قرر أن الإنسان هو "عاطفة لا نفع لها"، حتى أنه أصدر أكثر أعماله كآبة و هو كتاب صغير عنوانه يتكون من كلمة واحدة، بها يعبر عن شعوره تجاه الوجود الإنسانى برمته، هذه الكلمة هى "الغـثيان" !
على النقيض تماماً يقف كيركيغارد مُدافعاً عن "المفارقة العظمى" فى الوجود الإنسانى برمَّته، و هى "تجسد الله فى التاريخ"، أن الله قد إتحد بالإنسان فى لحظة مفارقة إيمانية عجيبة [ الإعتقاد بأن ما هو أبدى و إلهى قد دخل الزمان، و عن طريق ذلك الدخول نصبح على ثقة قلبية من الغفران الإلهى، و على ذلك نهب أرواحنا و قلوبنا إلى الأبدى ... ]، لقد أصبح الإلهى إنسانى ، و الإنسانى إلهى [ إن القول بان فرد إنسانى هو الله، هنا تكون المسيحية، و هذا الفرد هو الإنسان الإلهى !] فلحظة التجسد هى لحظة أبدية حاسمة، فيها يتحد الخاطىء مع الله المطلق فينال الغفران
"وجودية" كيركيغارد مشبعة بالمسيحية المؤمنة ، ذات الطابع الشخصى الذى لن يتحقق إلا بإجتياز الفرد المسيحى للحظة المفارقة الإيمانية تلك فى حياتة الخاصة ، و إذا كان "سورين" هو مؤسس التيار الوجودى برمته، إذاً، ففكره "الإيمانى" هذا يعطى لنا الصورة النقية لما يسمى "وجودية" !! ، الأمر الذى دفع ريجيس روليفييه إلى القول : [ إن الوجودية الحقَّة هى المسيحية ، أو بتعبير أدق " صيرورة الإنسان مسيحياً ] !


ثانياً : القيمة الإبستمولوجية (المعرفية) :
الأمر هنا يتعلق بنا نحن كأبناء الكنيسة الأرثوذكسية التقليدية، فلقد تعودنا بحكم تراثنا على الإنحصار فى أنماط الفكر "الهلينية – اللاتينية" ، حتى داخل الدوائر التى من المفترض أنها "منفتحة" على نحو ما، و هى الأوساط المهتمة بالدراسات الآبائية ـ بحكم واقعنا الكنسى الراهن ! و هذا الموقف يحتاج إلى مراجعة  حتمية
 و الحُجَّة بسيطة جداً، فعصرنا الحالى يُصنَّف على أنه :
 ـ "العصر ما بعد الكانطى" Post-Kantian Era
و إيمانويل كانط هذا هو الرجل الذى قدم النقد الأكثر تدميراً للإيمان الكلاسيكى بالله الواحد، و تعتبر جميع الحركات الفلسفية التى قامت فى القرنين الثامن عشر و التاسع عشر تعود جذورها إلى بعض جوانب العمل الذى أسسه هذا الفيلسوف
 أعُنى أن الفكر الإنسانى قد تعرض لتطورات "ثورية" لا يمكن تجاهلها بسهولة عند دراسة الإيمان المسيحى، و أُحدث فيه تغيرات فلسفية لا يمكن إنكار آثارها عند تقديم هذا الإيمان إلى أبناء عصرنا، الأمر الذى يتطلب منَّا المزيد من الإنفتاح، و رحابة الفكر، حتى و لو كانت تلك الرحابة سوف تشمل فكراً حديثاً ( غير تقليدى ) و بروتستانتياً (غير أرثوذكسى) و وجودياً ( لم نعتد عليه) !!!


أليس هذا هو "تَقدُّم التقليد المقدس" كما نتحدث عنه دائماً؟؟!، فظهور أنظمة فكرية "إنسانية" جديد – تلك التى تفرعت من النظام الكانطى الرئيسى _ مثل : الوجودية، المثالية، الجدلية، البرغماتية، الفينومبنولوجية (الظاهراتية) ، يستتبع معه تقدم "الإنسان"، و التقدم الإنسانى يلزم تقدم التقليد الذى أعطاه الرب و وضعه فى الكنيسة، فقط، من أجل الإنسان!!

 إنه إذاً تحدى !! فالقدرة على مخاطبة إنسان هذا العصر، بكل ما استجد عليه من نسق فكرية لم تكن فاعلة فى النظام الفكرى الهلينى ( الذى نتجرعه حتماً بحكم تراثنا ) ، هو الدليل الأسمى على إلهيَّة و أصالة الأرثوذكسية ! 

و يُقدِّم الفكر الكريكيغاردى مناقشات ثريَّة حول اثنتين من أهم مشاكل "الإبستمولوجيا" فى التاريخ المسيحى

+ المفارقة بين المعقول و اللامعقول : أى بين المسيحية و الفلسفة، بين الوجود و الفكر ، و قد كان من
 أنصار أن الإيمان المسيحى يتعارض مع التفكير العقلى، فالمسيحية لا تقبل أى نسق فكرى أو دوجماتى أياً كان، بل أن الجوهر الكلى للحياة المسيحية يستلزم "قفزة الإيمان" [ إن أكبر مفارقة يمكن أن يقوم به إنسان هو أن يصير مسيحياً ، لأن المسيح هو المفارقة الأعظم ] و يأتى رأيه هذا تبعاً لإيمانه - سالف الذكر – بالمفارقة العظمى غير المعقولة التى حدثت بتجسد الله [ إن الأزلى قد تحقق فى أى لحظة من الزمان ( تجسد الله )،و هذا ما لا يمكن فهمه، و هو لأنه لا يمكن فهمه فهو موجود !] [ثمة صراع حتى الموت بين الوجود و الفكر ]، الأمر الذى عبَّر عنه أيما تعبير فى كتابه " إما.../أو.."

+ المفارقة بين الموضوعية و الذاتية : أى بين ما يخرج عن ذات الإنسان، و بين ما يقبع داخلها، فهو يُقرر أن [ الذاتية هى الحقيقة !] ،و يستغرق فى تلك الفكرة بل و يتطرَّف فيها و يجعلها تأخذ منه أكبر مأخذ !، لكن ذلك التشديد على الجانب الذاتى للحقيقة و ضرورة فهم الإيمان بصورة ذاتية بحتة هو أمر يمكننا فهمه على أن الحقيقة لا تصبح حية أو فعَّالة إلا إذا تم إدراكها و الإشتراك فيها بشكل ذاتى و شخصى للفرد الإنسانى ، لأننا لو فهمناها على أن الحقيقة يمكن "إحالتها" إلى التفضيل الشخصى و الذاتى ، فهذا من شأنه نسف الحقيقة الموضوعية لإعلان الله عن ذاته فى التاريخ !



ثالثاً : القيمة الواقعية:
لا تقف أهمية "كيركيغارد" عند الحد النظرى أو البحت فقط، بل تتعداه إلى الجوانب العملية الواقعية، فالصراع الذى أخذ جُلّ حياته، و الذى أسهم فى تشكيل فكره "الوجودى" بشكل أكثر صرامة، هو ذلك الصراع الذى خاضه ضد المجرِّدين و بائعى الكلام، المتدينين الاسميين، و المتاجرين باسم يسوع، كل هؤلاء كانوا كالأشباح التى طاردته فى حياته، لقد هاجم "الحشد" بكل ضراوة و اعتبره أكثر وسائل الإقناع حقارة، لأنه يلغى الشخصية و التفرد الإنسانيين ، بل و يجعل المسيحية تبدو كأنها خداعاً مسرحياً، تحركه العاطفة و التأثر بشعور جمعى قادر على الإطاحة بالإختبار المسيحى العميق !
حارب امتزاج الكنيسة بالسياسة : [ لا يستطيع المسيحى الحقيقى أو السياسى الحقيقى إمتلاك أى رغبة فى الحكم، لأنهما يعرفان ما هى الدولة من جهة، و ما هى المسيحية من جهة أخرى، أن ما هو إنسانى لا يمكن أن يحمى ما هى إلهى فى الدولة المسماه مسيحية ]
و عن الرياء، نجده يقول فى كتابه "حاشية غير علمية" :[ إذا ولج إنسان يعيش فى مسيحية العصور الوسطى بيت الرب الحقيقى، بالتصور الحقيقى عن الرب فى معرفته، و يصلى ، فإنه يصلى فى اللاحقيقة... و الإنسان الذى يعيش فى الأرض الوثنية و لكن يصلى بكل إنفعال باللامتناهى، بالرغم من أن نظرته مثبته على الوثن ، فأين إذاً تكمن الحقيقة القصوى؟ ... إن الإنسانى يُصلى فى الحقيقة للرب ، بالرغم من أنه يعبد الوثن، و الآخر يُصلى فى اللاحقيقة إلى الرب الحقيقى، و لهذا فهو يعبد فى الحقيقة وثناً ! ]
أما عن الكهنة الذين يتلاعبون بالمسيحية، و يتخذون من الكنيسة مصدراً لكسب العيش ، يقول :[ كلما زادت الآلاف التى يتقاضاها مُعلم المسيحية كمرتب، قلَّت خدمة المسيحية ..الكهنة هم أكلة لحوم بشر، و بأكثر شكل وحشى ! ] [ إذاً ما الفرق بين الكنيسة و المسرح ؟ ... المسرح أكثر صدقاً !!! ، الممثل فى المسرح يخبرك أنه مجرد ممثل ، بينما القس فى الكنيسة لا يخبرك بأنه كذلك ! ]
حركة النقد هذه قد استفاد منها "باسكال" فى هجومه على رهبانية "الجزويت – اليسوعيين" الكاثوليكية كما فعل "سورين" مع كنيسته اللوثرية ، يا تُرى، ما مدى علاقة هذه الحركة بواقعنا الكنسى القبطى المُعاصر، بشكل خاص ؟!، و إلى أى مدى يتحتم علينا أن نتأثر بها ؟؟!!!!


ختاماً ...
عندما كان سورين على فراش الموت، تفوَّه بتلك الكلمات لصديقه "بواسن" :
[سلِّم لى على كل إنسان، لقد أحببتهم جميعاً حباً جماً و قل لهم، إنَّ حياتى كانت عذاباً كبيراً لا يطاق بشكل لم يعرفه أحد عداى، لقد كان الأمر يبدو تكبراً عبثاً لكنه لم يكن هكذا على الإطلاق، إننى لست أفضل من الآخرين بالمرة، لقد كانت لى شوكتى التى كانت تؤلم لحمى و لهذا لم أستطع أن أتزوج و لا أن ألج الحياة، لقد حصلت على درجات علمية فى اللاهوت و كانت لى حقوق رسمية و أفضليات خاصة، لقد كان يمكننى أن احصل على ما أشاء، لكن بدلاً من هذا أصبحت "المستثنى" و "الشاذ"، بالنهار كنت أعيش مع الكلمة و التوتر، و فى الليل كنتُ أُنحَّى جانباً و كان هذا هو الاستثناء و الشذوذ !! ]

 :عندما قرأت هذا، كتبت له تلك الرسالة 

صديقى سورين كيركيغارد ...
انت كنت إنسان رقيق جداً ... جداً ..!
أكثر شىء أثَّر فىَّ هو قصة حبك الفاشلة
كلماتك عند إنتقالك، كانت تشبة كثيراً كلمات يسوع المجروحة من كراهية العالم !
لَمَستنى جداً ... و عرفت إنك إنسان بمعنى الكلمة !
عشقت إنسانيتك الصادقة
أحببت نظرتك الذاتية للحقيقة
تألمت كثيراً من أجل أحزانك و اكتئابك و مرارة نفسك ...
صدقنى يا صديقى ... يوجد الكثير المشترك بيننا !!!
إنها نفس الروح الواحدة التى تقود كلانا ... الإنسانية !
إنى لم أكتسب معرفة فكر أحد الفلاسفة و حسب ..
بل ربحت صديقاً جديداً حبيباً بينى و بينه خط وجدانى سرى و عميق !

[[[ إننى أشعر بتلك النَسَمة الخفيفة التى داعبت وجة كيركغارد منذ أكثر من سبعة و سبعين عاماً بعد المئة ، تَعبُر على وجوهنا اليوم، لكى نستمد روحاً من روحه،و نتعلم حتى من مأساته و نقده و تمرده و صدقه! لكى يصل بنا إلى غاية العمق، و قمة الإلهام ! ]]]



مراجع و قراءات مزيدة :
+ كيركيغارد / فريتيوف برينت / ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد .
+ فلسفة الدين عند كيركيغارد / د. حسن يوسف .
+ المذاهب الوجودية من كيركيجور إلى جان بول سارتر/ ريجيس روفلييه / ترجمة فؤاد كامل.
+ دراسات فى الفلسفة الوجودية / د. عبد الرحمن بدوى.
+ فلاسفة وجوديون / د. فؤاد كامل عبد العزيز.

Thursday 21 July 2011

على شاطىء الأبدية





على شـاطىء الأبـدية !


[ ما هى الحياة فينا ؟ .. إنها الإندفاع نحو اللامحدود ... إنها تلهف على اللاموصول إليه !!! ]
الأب موريس زونديل



عندما تستكشف حياتك و تتلاقى مع ذاتك ، عندما تتلامس مع الجوهر العميق الذى يقع فى ذلك الجزء الداخلى من كيانك ... عندما تدرك جذرك ، هدفك ، هويتك ... تعبر ذلك الجسر لتواجه الحقيقة التى كانت غائبة عنك و هى حاضرة دائماً فى داخلك !!
عندما يُعلَن لك ... هنا تكون نهاية الإختبار !!!

أما البدء فهو عنيف ، قادر أن يزلزل أركان النفس الإنسانية بكل جوانبها ! ، فعندما تتعرض للتشوه و التشوش على مدار ثلاث أشهر من حياتك [1]، لم تقرأ فيهم كتاباً واحداً ، لم تتأمل فكرة إلهية رقيقة تهون عليك ضيق الحياة ، عندما يتم حصرك و قهر إرادتك و إدخالك عنوة فى دوائر الأرض .. حيث الموت و و إنعدام الخلاص ! عندئذ ستشعر إنك فقدت هدفك و معنى حياتك .. إنه الجحيم بعينه !

و لكن هنا ... على صفحة النيل ، تغسل كل همومك ، أوجاعك ، شكوكك و مخاوفك ...
النيل بعمقه و إتساعه ، هدوءه و حركته البطيئة الواثقة ، نقاءه و زرقته الأروع من زرقة السماء ، عندما نظرت إليه لم استطع مقاومة فكرة " الأبدية" !
أما الطريق إليه فقد صار بالنسبة لى كطريق العبور كما صُّور فى الميثولوجيا الزردشتية ، أرفع من الشعرة و أحد من السيف ، يفصل بين عالمين ، أو قل بُعدين ، عالم الحقيقة حيث الملىء و التأمل و الصفاء و السعادة حيث كل الأشياء تبدو رائعة ، و عالم خانق مزدحم صاخب ضاغط على النفس ...حيث الهاوية نفسها !
هناك صرخت و دوَّت صرختى فى السماء و الأرض جميعاً ، صرخ مكبوتة مبحوحة ما سمعتها الخلائق و ما شعرت بأناتها ، و ما عرفت مقدرا الألم التى تنبع منه !
من أنا ؟ ما كينونتى ؟ ما هى تلك الحقيقة التى أشعر بوجودها و لا أستطيع إدراكها أو استيعابها ؟ ، ذلك السر الذى من أجله أرفع عينى إلى السماء و أتنهد إلى الله طالباً الإعلان ، أليس هو ينبوع و مصدر إنسانيتى ؟ أفلا يخرج الإله عن صمته ؟
لكن فى تلك اللحظة التى تتساوى فيها حياة الإنسان و موته ، تعاَدُل السعادة و الشقاء ، الصلاح و الفساد ، الفرح و الحزن ، و كأنه كم مهمل أو كلاشىء البتة ، هنا فقط يحدث العبور و يُنال الكشف !
تتوالى الإعلانات...  عمق الإختبار.. قوة الوصول .. امتلاك الملىء ، اكتشاف الهوية ، و كأن الأبدية أصبحت كالكتاب المفتوح على صفحة النيل ، و ها قد أدركت قبساً من الحقيقة !


الحقيقة الأولى و الإستعلان  الأول : الأبدية هى هويتى !

أول خطوة نحو معرفة الحقيقة هى أدراك أنك تستطيع إمتلاكها و إكتسابها ، فإذا كانت الحقيقة عميقة و متسعة فيجب أن تدرك أنك تمتلك هذا العمق و الإتساع ذاته .. إنك تمتلك الأبدية !

تُدرِك الأبدية ـ فى أجلى صورها ـ عندما تتلامس مع ذلك الجزء العميق فى داخلك ، الذى يقع فى خبايا نفسك الجوانية ... تراه من بعيد .. و تنظر إلهي ، تقترب ... لكنك لا تستطيع الدخول ، و كأنه قدس الأقداس !
نعم ... بل و أعظم من قدس الأقداس !!! إنه الجوهر الأبدى الذى وضعه الله داخلك بنعمته ، الحقيقة العميقة التى تعبر عن كينونتك و مصدرك ، و ما الحقيقة إلى الأبدية ، و ما الأبدية إلا الله !

و قبل الخوض فى أصل الموضوع يجب أن نوضح الأسس اللاهوتية التى أنطلق منها و التى تكشف عن الآتى :
أولاً : أن الإنسان مخلوق على صورة القدير "الَّذِي وَحْدَهُ لَهُ عَدَمُ الْمَوْتِ، سَاكِنًا فى نور لا يُدنى منه " ( 1 تى 6 : 16 ) " و لأجل هذه الصورة نجد أن الإنسان يحن و يشتاق دائماً إلى المُطلق و اللامحدود ، و هذا يُعبَّر عن امتداده لأصل الصورة التى خُلق عليها  "صنع الكل حسناً فى وقته و أيضاً جعل الأبدية فى قلبهم التى بلاها لا يدرك الإنسان العمل الذى يعمله الله من البداية إلى النهاية " ( جا 3 : 11 ) فبدء هذا الإشتياق الأبدى ينبع من خلقة الإنسان و كأن هذا الحنين وُضع كجذر متأصل فى طبيعته التى لا يقدر أن يهرب منها أبداً !
فإذا كان اللاهوتيون يتحدثون كثيراً عن "الصورة الإلهية" التى وُضعت فى أصل الإنسان كطبيعة حية دائمة لا تقدر قوى السماء و الأرض على إنتزاعها ، فإن الصورة الإلهية إلا ما هى إلا هذا الإشتياق الأبدى إلى اللامحدود ... إشتهاء الملىء و الإنطلاق و التحرر من قيود المادة الضعيفة، هى إدراك أنه لن يستطيع أن يُشبع الإنسان إلا الله وحده .!

ثانياً : الله خلق الإنسان بإرادته وبقوة كلمته، ولكنه لم يخلقه من طبيعته، لأنه خلقه من العدم ، من لا شيء ، لقد أراد الله أن يوجد الإنسان فصار هكذا ، فوجود الإنسان ليس مستمداً من جوهر الله ، و بمعنى أكثر وضوحاً ، أن الوجود الإنسانى قابل للتغيير بل وبدون الله قابل للزوال، ولا يمنعه من الزوال إلاَّ إرادة - ونعمة - الله التي أوجدته والتي لا تزال مريدة لبقائه ووجوده " لأننا به نَحْيَا وَنَتَحَرَّكُ وَنُوجَد" ( أع 17 : 28 )
فنحن كخليقة نبقى بإرادة الله فقط و ليس بذوتنا ! لأن الله هو الوحيد الكائن بذاته غير المتغيِّر، لأنه غير خاضع للزمن، وبالتالي فهو غير قابل للموت أو الفناء ، في حين أن الإنسان المخلوق متغيِّر، فهو معرَّض للفساد وقابل للموت، و هذا ما يفسر لنا السقوط
أى أن النفس البشرية هي قابلة للموت بطبيعتها، لأنها مخلوقة، وهي إنما تعيش وتحيا بنعمة الله فهى تبقى وجودياً و لا تفنى بالرغم من الموت الروحى التى قد تتعرض له... فالخلود ليس خاصية طبيعية فى الإنسان بل وُجدت بنعمة الله و ليس بالطبيعة[2]
فالإنسان على ما يقرر القديس أثناسيوس [3]مخلوق من غير وجود سابق، وهو بطبيعته صار قابلاً للموت والفساد، ويستحيل عليه أن يفلت من هذا المصير إلاَّ بنعمة الله وشركة اللوغس، لأن الإنسان بذاته لا يقدر أن يعيش إلى الأبد
[ و رغم وجوده فى كل الأشياء إلا أنه لم يستمد منها شيئا بل على العكس فان كل الاشياء تستمد منه الحياة و تعتمد عليه فى بقائها ][4]
تجسد الكلمة 17 : 6
و هذا يكشف أن تلك الهوية الأبدية التى يتمتع بها الإنسان إنما هى نعمة من الله ، و ليست من طبيعته فى حد ذاتها ، فهى مُنحت أو أُعطيت له لكى يتحرك دائماً نحو الله ، و يكون إشتياقه للخالق بقدر إشتياقه للأبدية و الخلود الذى وضعه الله داخله ، لذلك فكل كلامنا عن الخلود و الإستعلانات هى على سبيل النعمة و العطية الإلهية .

حسناً ... الإلهك هو هويتك ، أصلك ، جذرك .. نبض الحياة الذى يسرى فى عروقك .. أين تهرب منه ؟ و أين تهرب من حقيقتك ؟... متى تدرك أن العالم بكل ما فيه لا يساوى لمحة من لمحات الأبدية ؟ متى تدرك أنك مخلوق إلهى ، أصلك من عدم لكنك خُلقت للخلود و الحياة السماوية ؟
إنها الحقيقة التى إن لم تدركها فلن تستطيع أن تعرف معنى الإنسانية ، إنها الوحيدة القادرة أن تجعلك إنساناً!
أما الإنسان .. تلك البذرة الإلهية التى زرعت فى بستان الكون ، أراه الآن يتشوه ، و يُمسخ و يُنسخ و تًعاد خلقته من جديد لكى يكون على صورة العالم و مثاله ، ذلك الذى " وُضِعَ فى الشِّرِّيرِ " (1يو 5 : 19 ) القادر على ذبح إى إتجاه حر نحو المُطلق !
و هنا يجل أن ينتبه القارىء أشد الإنتباه ، فانا لا أتكلم عن الحياة الإنسانية التى أؤمن أوثق الإيمان أنها صالحة و مقدسة [5]، بل و قد تألَّهت بفعل حلول الإله المتجسد عينه  فيها ، بل أتكلم عن العالم الذى تخنقنى أشواكه ، إنه شرير فى مجمله و غير صالح و غير قابل لنقل الإعلانات !

حينما إختبرت هذا ، أيقنت أن روحى أكبر و أكثر إتساعاً من كل الوجود ، الحياة أعظم من أن تُحصر فى قالب واحد أو نمط وحيد ، لا تطيق أن تظل حبيسة مخنوقة من أغلال العالم المُحزن !

لكن أنقول أن الأبدية لعنة ؟؟؟ نعم ... و أى لعنة ؟ عندما لا تشبع و لاتترتوى عندها تصبح تلك العطية لعنة ، بل و موت محقق ، لأن العالم بأسره لا يستطيع إشباع حاجة واحدة من الحاجات الإنسانية المتجددة دائماً كموج البحر ! فما أعسر دخول جمل من ثقب إبرة ، أو حصر البحر فى حفرة ضئيلة !
لأن النسبى لا يُشبع و لا يروى ، إنه كالوجبة السريعة التى نأكلها على عجل و فى استحياء ، لكنه يُنبهنا إلى المُطلق و يصلنا به ، يجعلنا نتذوق جزء صغير منه لنشتاق دوماً للحياة فيه !
كلما حصلت على شىء تطلعت نحو الأفضل و الأكثر و الأكبر و الأعظم .. أين الملىء ؟ ...لقد تلاشى ؟!!
 إذاً إنها اللعنة بذاتها ! هذه هى مشكلة الإنسان الأزلية .. قد زرع فى عالم لا يقدر أن يشبعه أو يحقق مطالبه ، هذا الذى يحصره و يضغط عليه و كأنه لا فكاك !
بنفس المقدار الذى تتقدم به فى الحياة ، بنفس المقدار الذى تدرك معه أن كل متعة أرضية تتحول إلى رماد ، كلما حاولت إشباع الجوع ، ما زادك ذلك إلا جوعاً.. تبتغى الملىء فى كل شىء لكنك لا تستطيع ملاحقته !
و السبب معلوم مسبقاً ، لأنه حتى فى عمق أعماق الخطية ، يستطيع المرء إدراك أنه يبحث عنه هو،  عن الله مالىء السموات و الأرض ، الذى هو جذريتنا الأصيلة ، هويتنا و أصلنا ،  كفاك بحثاً ... إنه شخص حقيقى و ليس سراباً ، واجب الوجود لا يمكنك تجاهله !

أتبحث فى الحياة الأرضية عن الحب و الشركة و الحكمة و الراحة و السعادة و الهناءة ؟ بالحق قال العظيم غريغوريوس النيصى[6]..  [كل شىء سيجمع فى الطبيعة الإلهية ] و إن كان الأمر كذلك ، فقد تحققت السعادة االلامحدودة !
 إذاً كفاك غباءً ، لا يمكنك أن تحصل على كل هذه الأشياء بشكل كامل و مُطلق إلا معه هو ، ستدو و تدور و ستفشل ، و ستعود إلى نفس النقطة التى بدأت منها... كعادتك دائماً !  فلتكف عن بحثك و لتكتفى بالله ، إختبىء فيه فهو وحده كمالك و مُطلقَك ، خلودك ، بل هو أثمن من الخلود ذاته ...  عبورك إلى اللانهائى !
و أنا هنا لا أقر أن الله مسئول بشكل أو بآخر عن هذه اللعنة التى يُعانى منها الإنسان ، فالأبدية و اللامحدود قد صنعه الله كتدبير محبة فقط عندما يتجه الإنسان نحو هذا الإله فيجد فيه شبعه و راحته ، و لكن المشكلة تكمن فى إتجاه الإنسان نحو تحقيق هذا الحلم الأبدى فى العالم ، هنا المحك التى تتبدل فيه النعمة إلى نقمة ، و العطية الإلهية إلى لعنة !

+ + +
أخى القارىء ، أتركك الآن مع كلمات واحداً من أكبر فلاسفة الأرثوذكسية فى العصر الحديث ، كوستى بندلى ، إنها أكبر تعبير عمَّا أختبره لحظياً ، لدرجة أن كل سيخطه قلمى لا يستطيع أن يكون مُعبِّراً عن حياتى ـ و حياتك ـ بمثل الدقة التى كتب بها العظيم "بندلى" :

 [[[ ولكن أثر الله يبدو أيضا فى إعماق القلب البشرى...
إنه يتجلّى مثل، فى عطش الإنسان على المطلق...
 يمكن أن يُعرّف الإنسان بأنه " حيوان قلق"...
هذه ميزة أساسية يختلف بها عن سائر الكائنات الحية...
فللحيوان رغبات غريزية محدودة، سهلة الإرضاء، لذلك ليس فى حياته مشاكل...
أما الإنسان فكلما حاول إشباع رغباته اشتدت وقويت فيه هذه الرغبات، وكأن هناك شيئا فى أعماق كيانه يحرّكه ويعذبه ويوجهه ويدفعه دون هوادة...
فى الإنسان تباين دائم، تفاوت مستمر بين ما يرغبه وما يملكه، بين إرادته ومقدرته، بين ما يريد أن يكون وما هو عليه...
لذلك يندفع دون هوادة لإزالة هذا التباين ولكنه لا يتوصّل أبدًا إلى هذه الغاية...
فكلما حاول أن يقترب من مرغوبه، ابتعد هذا عنه موقظا فى نفسه الخيبة والحسرة...
هذا ما يبدو فى الخبرة اليومية وعلى كل الأصعدة...
نكتفى بذكر البعض منها:
1 - فالإنسان الساعى إلى مال ومجد لا يكتفى بما حصل عليه. إنه كلما بلغ مأربه يطمع بالمزيد. لذ، لا يعرف قلبه راحة وإستقرارًا " عين الإنسان لا تشبع" كما يقول المثل السائر...
2 - ولنأخذ السعى إلى الجمال. أمام منظر طبيعى بديع و قطعة أدبية رائعة و...، يشعر الإنسان، إلى جانب نشوته، بشئ من الحزن، ويزداد هذا الحزن بنسبة ما يكون جمال هذا المنظر وهذا الإنتاج الفنى الأخاذ. كيف يفسّر هذا الحزن؟. ذلك أن الجمال الذى أدركناه أيقظ فينا حنينا لا قدرة لنا على إطفائه ومن هنا نشأ الألم. وما هو صحيح بالنسبة إلى التمتع بالجمال ينطبق أكثر على الفنان الذى ينتجه. فكم من الأدباء والفنانين الخلاقين أفضوا إلينا بالمرارة التى كانوا يشعرون بها عندما كانوا يبدعون تحفة فنية رائعة. عندما تخرج تلك التحفة الرائعة حق، من أيديهم، كان الألم يحز فى نفوسهم لشعورهم بالتفاوت بين ما كانوا يحلمون به وما استطاعوا أن يحققوه...
3 - ولننتقل الآن إلى خبرة الحب. فالحب، كما هو معلوم، ينزع إلى تأليه المحبوب. ألا يسمّى المحبّ الحبيب " معبود"؟ إنه إذًا يطلق علبه قيمة لا متناهية وينتظر منه سعادة مطلقة. ولكنه يمنى بالخيبة، فالمحبوب، مهما سمت صفاته، بشر وليس إله، لذا لا يمكنه أن يقدم المحبّه السعادة الفردوسية التى يحلم بها. لذا دعا الشاعر الفرنسى " كلوديل" المرأة المحبوب " وعدًا لا يمكن أن يُبَرّ به". وحتى إذا لم يؤله المحبوب، فالحب يسعى إلى شركة بين الحبيبين تامة وخالدة، ولكنه يصطدم بالسأم الذى تولده العادة وبالأنانية والموت...

مجمل الكلام أن للإنسان المحدود أمانى لا محدودة...
ولذلك يعيش فى توتّر دائم...
ولكن ما هو سرّ هذا التفاوت الصارخ؟...
من أين للإنسان هذا السعى إلى اللامتناهى والمطلق فيما لا تقدم له خبرته سوى ما هو محدود ونسبى؟...
التفسير الوحيد المرضى لتلك الظاهرة الغريبة هو أن الإنسان المحدود يحمل فى ذاته صورة كائن لا محدود...
ويكون هكذا سعيه إلى المطلق تعبيرًا عن حنين تلك الصورة إلى أصلها...
وتكون خيبته المتكرّرة ناتجة عن كونه يخطئ المرمى فيفتش عن المطلق واللامتناهى بين المخلوقات فيما لا يستطيع سوى الله أن يروى عطش قلبه...
فكما أن المد يفترض وجود القمر الذى يجتذب إليه مياه البحر، ولو كان القمر مختفيًا وراء السحب، كذلك مدّ النفوس فى سعيها المتواصل إلى المطلق يستقطبه الله ولو احتجب الله عن نظرنا وإدراكنا:
{ يا رب لقد خلقتنا متجهين إليك ولذلك لن تجد قلوبنا راحة إلا إذا استقرّت فيك } [ أوغسطين المغبوط ]... ]]]
كوستى بندلى [7]

[ كل أهداف الحياة لا حدود لها ، و لن يمكن الوصول إليها فى ملئها هنا على هذه الأرض ، بل بالحرى يتصاعد هذا الملىء كلما تقدمنا نحوه ، لهذا ، فبهجة حياتنا الأرضية ليست فى التملك النهائى لما نسعى نحوه ، و لا هى فى الرضى المصطنع الذى يوقف السعى ، إنما هى اندفاعه نستشعر بها لانهائية الهدف ! ]
الأب موريس زونديل[8]

الحقيقة الثانية والإستعلان الثانى :الذات الإنسانية معبرنا إلى الله !

الإعلان يتم ـ أول ما يتم ـ فى الذات البشرية نفسها ، ليس فى كتاب أو وعظ كرسائل موجهة خارجاً عن الإنسان ، بل أن الحقيقة تستعلن فى أجلى صورها فى هيكل الإنسانية عينها !
الباطنية .. تلك هى الحقيقة الثانية التى إكتشفتها ، لأن الذات الإنسانية صالحة ، بذرة من خَلق الإله ، تطايرت و زرعت فى أرض الكون فنبتت ثلاثون و ستون و مئة .. رسمت صورة الله .. على شبهه و مثاله !
كل منا يدرك تماماً أن هناك علاقة تامة بينه و بين الله ، مهما تنوعت أشكالها و تباينت مستوياتها إرتفاعاً و هبوطاً .. هذه العلاقة[9] يطلق عليها الوحى " الصورة الإلهية" ، لذلك فإن إدراك الإنسان لذاته هو بداية إدراكه لله ، و لكن علينا ملاحظة أنه عندما تغيب صورة الله تصبح صورة الإنسان عدماً ..، و هنا تتكشف الإعتمادية الكيانية التى تربط الإنسان بالله !
لذلك فصورة الله تتكشف و تتجدد فى الصورة الإنسانية عينها [10]، كأصل تنعكس صورته فى المرآة ، بل كإعلان سرى باطنى فى الكيان البشرى القادر أن يكتشف الله من خلال هذه النافذة الحية ... و هى العلاقة بينه و بين الخالق !
و هذا ما تجلَّى لى عندما رأيت الأبدية ذاتها حين أدركت أن شبعى غير ممكن ، و إرضائى مستحيل !
نعود مرة أخرى إلى البحث ؟ أين تبحث عن الله ؟ فى نص أم فى كلمة مسموعة أم فى تأمل أم فى منظر جميل ؟
بحثت فى كل الوسائل و أهملت أعظمها ، نفس الإنسان ! ... لكن عندما يتحول فيك الإله إلى حياة فى حياة ، و كيان فى كيان ، كروح علوية فى هيكل بشرى عندها ستدرك أنك أنت نفسك أعظم الجسور التى تعبر بك إلى الله !
الحقيقة تقع داخلك .. من فضلك لا تتجاهلها !
[ ما معنى أن الله حياتنا ؟ معناه أنه ذاك الذى هو أعمق ما فى باطنيتنا ، جذريتنا الأصيلة ، أنه أبعد ما فينا من اللاموصوف ، من التسامى " لأننا به نحيا و نتحرك و نوجد " ( أع 17 : 28 )
 هل يمكن أن نعرف الله ؟ إننا نعرفه بمدى ما نزداد معرفة بنفوسنا و باطنيتها ... بهذا المدى نتعرف على الله ]
الأب موريس زونديل
و الأمر هنا لا يتعلق بمجرد تأملات عقلية أخال أن الله يعلنها فى نفوس كل البشر ، بل يتعلق أيضاً بتجسد تلك الأفكار فى الواقع ، فبعد أن أدركت تلك الحقيقة لن أدع شخصاً أو شىء يشغلنى عن ذاتى ، لأنه حينئذ سيشغلنى عن الله !
كلما أبتعدت عن العالم صرت أقرب إلى ذاتى ، و كلما اقتربت إلى ذاتى صرت أقرب إلى الله !
هذا الكشف قادر أن يطيح بقاذورات فكرة العجز التى زرعت داخلى منذ الصغر ، فعندما أكتشف فى نفسى إمكانيات الحياة و الحركة نحو معرفة الحقيقة ـ التى وضعها الإله فىَّ بنعمته الوافرة ـ  كون أكتشف فى نفسى ديناميكية على أى مستوى .. معنى هذا إنى أمتلك قدرات الإمتداد و التقدم بين ضلوعى ، و قوة التغيير بين يدى !
فالأمس سكون ، و اليوم حركة و ديناميكية ، و الغد انطلاق ، و بعد غد هو التغير لا محالة !
سأقرأ و أدرس ، أكتب و أتأمل ، لا كنوع من العبثية كما كان الحال من قبل ، و لا هو من باب الإنتفاخ و الإفتخار بالعلم الباطل ، بل سأكون كالسهم فى جعبة القدير أنطلق نحو هدف أبدى لا يغيب عنى قط و هو معرفة حقيقة ذاتى التى ستوصلنى حتماً و يقيناً إلى معرفة الله ... الحقيقة فى مُطلقها ، هذا هو غاية الحياة و مقصد الوجود الإنسانى منذ البدء !
[ هكذا يتضح أن أعظم الدروس كلها هى معرفة الإنسان لذاته ، لأنه إن عرف الإنسان ذاته  سيعرف الله ! ]

 [ و من ذلك يتضح أن أعظم الدروس جميعاً هى أن يعرف الإنسان ذاته ، لأنه إن عرفها فقد عرف الله ]
القديس كليمندس الأسكندرى
يا إلهى ... أرى نفسى الآن مفرطاً فى الغنوسية ... ما أحلى هذا !


الحقيقة الثالثة و الإستعلان  الثالث : الكون ...كمال الحقيقة !

الحقيقة لا تكون كاملة إن لم تكن ثالوثية ، و ثالوث الحقيقة هنا لا يستعلن إلا بالتعرف على تلك الحياة التى وضعنا فيها الله ، و ماهية هذا الإعلان قديم قدم فلسفة الإغريق ، فكل شىء فى هذه الأرض معبرنا إلى حقيقة أعمق تأتى من العالم السمائى ذاته.. فالخليفة كلها تحمل أثر الله كما أن التمثال يحمل أثر النحات الذى صنعه...كالكتاب الذى نقرأ بين سطوره عظمة الله وحكمته وجماله
"إِذْ مَعْرِفَةُ اَلْلَّهِ ظَاهِرَةٌ فِيهِمْ لأَنَّ اَلْلَّهَ أَظْهَرَهَا لَهُمْ . لأَنَّ مُنْذُ خَلْقِ اَلْعَالَمِ تُرَى أُمُورُهُ غَيْرُ اَلْمَنْظُورَةِ وَقُدْرَتُهُ اَلسَّرْمَدِيَّةُ وَلاَهُوتُهُ مُدْرَكَةً بِالْمَصْنُوعَاتِ حَتَّى إِنَّهُمْ بِلاَ عُذْر " (رو 1: 19، 20)
"اَلسَّمَاوَاتُ تُحَدِّثُ بِمَجْدِ اَللهِ وَاَلْفَلَكُ يُخْبِرُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ " ( مزمور 19: 1)...

إنه تجلى آخر لله فى ليس فى الإنسان فقط بل فى الخليقة التى أُخضعت له ، لكى ندرك أن تلك الحقيقة تجتاز كخط سرى بين الله و إنسانه و خليقته ، هم وحدة واحدة ، ليس بالجوهر بل بالمحبة و الشركة ، فإذا كنت تريد إدراك الأبدية فليس عليك أن تستغرق فى تأملات ذاتيه عقلية فقط ، لأنها حينئذ ستكون عقيمة ، بل يجب أن تُشرك الكون فى هذا الإعلان تتجه نحو خليقة الله الرقيقة الصالحة لتذوق شىء لم تتعرف عليه من قبل ، إنك لم تخلق وحيداً متروكاً بل شريكاً أصيلاً متناغماً مع الطبيعة المنبعثة كل لحظة من محبة الله !!!
 عندئذ ستصبح كما كان أبونا آدم فى فردوسه الأول !
هذا النيل ... إنه إتساع الله و عمقه ... و غناه !
و هذه الزهرة الجميلة الوحيدة التى أراها تبتسم لى فى ذلك المكان الذى أكتب منه .. إنها جمال الله !
و الزرع ... الخصب و النماء !
و النخيل ؟؟ .. إنه تسامى الله و علوه .. القداسه بحد ذاتها !
و أُختى التى جمعنى بها الرب ؟ .. إنها رقه الله و برائته .. نقاوته .. عطفه و محبته !
و أنا ؟؟ .. أنا السلطان و السيادة و الألوهة لا شك ! .. أنا صورة القدير !
إنه يوزع طاقاته على كل شىء ، فيصبح الكون مُعبِّراً عنه ، و مَعبراً إليه !
أنا ، و الإله ، و الكون .. إننا ثالوث الحقيقة ، و هنا فقط يكمل ثالوث الإستعلان
!
[ لا أحد رأى جوهر الله أبداً ... و لكننا نؤمن بالجوهر لأننا نختبر القوىَ ]
القديس باسيليوس الكبير
+ + +
الإنسان صرخة نحو الله .. قلب يخفق نحو المحبوب الأبدى ، يتحرك نحوه ، لكى يشترك فى سره !
إنه مثل "سبارو "... العصفور الإيطالى الصغير .. يهاجر دوماً ، بحثاً عن وطن ، عن سكن ... عن أب و حب ، تلك كلها التى تنبع من الأبدية ذاتها ، و الأبدية هى الله .. و هو من الله !

حسناً ، قد دخل المساء و بدئوا فى إشعال الأنوار الصاخبة المملة ، إنه العالم الخانق من جديد ، فلأكف إذاً عن ترهاتى !


 1 ـ عفوأ اخى القارىء .. هذا الإختبار حقيقى و قد عشته بكل دقائقه ، إذن فهو ليس على سبيل الإبداع الأدبى ، لأنى لست أديباً و لا مبدعاً ، و لا هو من لغو الكلام ، بل واقعاً فعلياً تم بجميع حذافيره .
 2 ـ الحياة بعد الموت للمطران إيروثيوس فلاخوس ـ الباب الرابع / خلود النفس
 3 ـ القديس آثناسيوس الرسولى ـ للأب متى المسكين / القسم اللاهوتى ـ الفصل السابع : معرفة الله فى ذاته و معرفة الله فى الخليقة
4 ـ تجسد الكلمة للبابا آثناسيوس الرسولى / ترجمة المركز الأرثوذكسى للدراسات الآبائية بالقاهرة
 5 ـ نقطة خل ـ هل نلغى الإنسان ؟ / مقال قادم فى الفلسفة الإلهية
6 ـ العدالة الإلهية ، حياة لا موت ، مغفرة لا عقوبة ، د / هانى مينا ميخائيل ـ صـ 63
7 ـ مدخل إلى العقيدة المسيحية / الفصل الثانى : الإيمان بالله الخالق ـ عطش الإنسان المُطلق
8 ـ  الإلتقاء بالسيد المسيح / للأب موريس زونديل ـ ترجمة إيريس حبيب المصرى ، و سوف نوالى نشر الكتاب حرفاً حرفاً فى تلك المدونة ، بنعمة الرب
9 ـ قدّم لنا د / وهيب قزمان مفهوم "الصورة الإلهية" فى أبسط تعريفاتها على أنها علاقة بين الإله و الإنسان ، يتفرد بها الكائن البشرى من بين جميع المخلوقات ، و ذلك فى إحدى إجتماعات الشباب فى المركز الأرثوذكسى للدراسات الآبائية بالقاهرة
 10 ـ حوار عن الثالوث ـ د/ جورج حبيب بباوى