Saturday 26 February 2011

فلسفة الرمزية عند كيرلس الأسكندرى



فــلـــســـفة الرمــــــزيـــة
عند القديس كيرلس الأسكندرى



نظراً لشغفى الدائم بمنهج التفسير الرمزى الذى تبنته مدرسة الأسكندرية اللاهوتية ، فقد حاولت تتبع منابع هذا المنهج ، أى ما هو أصله ، أو ما الدافع أو السبب الذى حفَّز مدرسة الأسكندرية على تبنى هذا المنهج عمَّا عداه من مناهج التفسير ، خصوصاً المنهج التاريخى الحرفى التى تبنته مدرسة أنطاكية اللاهوتية ، و ما هو سبب الإختلاف بين المدرستين ، الأمر الذى وجدته يرجع أساساً إلى خلاف فلسفى قديم بين أفلاطون و أرسطو .
لذلك فسأقدم فى هذا المقال مفهوم القديس كيرلس الكبير للكتاب المقدس و نظرته لكل من المنهجين ، يعقبه مقالاً عن سبب الخلاف بين مدرستى أنطاكية و الأسكندرية من جهتهما ، و ماذا كان موقف القديس كيرلس من هذا الخلاف ، و لماذا اخترته ليكون نقطة الإنطلاق فى هذا البحث .
 
بدايةً ،  يلزمنا  أن  نتعرف  على  مفهوم  كل  من  المنهجين  فى  التفسير [1]:

+ التفسير الحرفى :  و هى طريقة تكرار النص الكتابى باستعمال كلمات مبسطة ، و هذا التفسير ضرورى بسبب غموض النص و لكن يلاحظ أن التكرار لا يكون دائماً أوضح من النص !! فأحياناً يقوم المفسر ، بتلخيص النص و أحياناً يطيل إيضاحه ، و غالباً ما يأتى الشرح الحرفى مباشرةً بعد النص الذى سيقوم بالتعليق عليه ، و قد يأتى الشرح الحرفى أحياناً بعد أن يكون قد بدأ فى تفسير النص الكتابى ثم يتوقف ليقدم الشرح الحرفى عندما يبدو له أن تفسيره للنص لا يمكن إيضاحه إلا عندما يقدم الشرح الحرفى و قد اتبعته بالأخص مدرسة أنطاكية .
+ التفسير الروحى (الرمزى) : فى التقليد الأسكندرى هو التفسير الحقيقى للكتاب المقدس ، و هذا الأسلوب فى التفسير يرتكز على تخطى الحرف للوصول إلى سر المسيح و هو سر مختبىء فى كتب العقد القديم أما فى العهد الجديد فأسلوب التفسير الروحى يقوم على تخطى المادة فى النصوص الكتابية إلى معناها غير المادى.
+ + + + + + + + + + + +
لقد كان القديس كيرلس الأسكندرى ـ بصفته أحد آباء كنيسة الأسكندرية العظماء ـ متحمساً للتفسير الروحى الرمزى فى الكتاب المقدس ، غير أن نجاحه الفائق فى تطبيقه لمبدأ التفسير الروحى للكتاب ، كان يعتمد فى الأساس على التعاليم الخريستولوجية التى آمنت بها و علمت كنيسة الأسكندرية ، أى أن التعليم اللاهوتى الأرثوذكسى هو الأساس لتفسير الكتاب المقدس تفسيراً صحيحاً و متزناً عند القديس كيرلس .


أثر  التعاليم  الخريستولوجية  على  مفهوم  القديس  كيرلس  الأسكندرى  للكتاب  المقدس :

الكتاب المقدس مـثل شخص يسوع المسيح بلاهوته و ناسوته ، فالصياغة المكتوبة للكتاب المقدس و التى تسرد الأحداث و الوقائع التاريخية التى حدثت فعلاً تتوافق مع ناسوته ، فى حين أن المفهوم الروحى للكلمة الإلهية تتوافق مع لاهوته ، فالتفسير الروحى يشير إلى الطبيعة الإلهية ، بينما الحرف و التاريخ إلى الطبيعة البشرية لله الكلمة المتجسد و كل منها يعملان بغير اختلاط و لا إنفصال و كليهما يشير إلى الأخرى
 و كما أن ناسوت المسيح يؤكد ألوهيته و يرفعنا إليه هكذا أيضاً الكتاب ، فالصياغة المكتوبة تؤكد على الذهن الروحى و ترفعنا إليه ، و بالتالى فإن الكتاب ينبغى أن يُفسر و فق هذين الوجهين التاريخى الحرفى ، و الروحى ، و هنا نلاحظ أن القديس كيرلس لم ينادى بمفهوم ثنائي للكتاب ، بل نادى بعلاقة جوهرية بين المفهومين بحيث لا يوجد مفهوم بدون آخر ، كما هو فى حالة الإتحاد الأقنومى بين الطبيعتين فى شخص المسيح الواحد ، هكذا فإن المفهومان لا ينبغى ان يصير مزج بينهما و لا إنفصال ، و هكذا بالتقليد الخريستولوجى ، حددت طبيعة و عمل الكلمة الكتابية تحديداً صارماً.[2]

و هذه الفكرة تجد منبعها من إيمان ق.كيرلس الكبير بوحدة شخص الرب يسوع المسيح و " بالطبيعة الواحدة غير المنقسمة لله الكلمة المتجسد ، فمثلاً نجده يقول  فى الفقرة (15) من رسالته رقم (40) إلى "أكاكيوس" أسقف ميليتين
[ عندما تفحص طريقة التجسد بدقة يرى العقل البشرى بلا شك الاثنتين  (أى الطبيعتين) مجتمعتين معاً بطريقة تفوق الوصف وبلا اختلاط فى اتحاد. إلا إن العقل لا يقسمهما على الإطلاق بعد أن اتحدتا بل يؤمن ويعترف بقوة أن الواحد من الاثنتين هو إله وابن ومسيح ورب .][3]

ويقول أيضا فى الفقرة (14) من نفس الرسالة: [ ولذلك نقول أن الطبيعتين اتحدتا، ومنهما نتج ابن ورب واحد يسوع المسيح، كما نقبل فى أفكارنا، لكن بعد الاتحاد، إذ قد زال الآن التفريق إلى اثنتين، نؤمن أن هناك طبيعة واحدة للابن كواحد، واحد تأنس وتجسد].

و طبقاً لذلك ، فلم يكن تفسير القديس كيرلس للكلام الإلهى تفسيراً رمزياً خالصاً ، فهو يقدم توازناً حكيما ً بين كل من التفسيرين الروحى و الحرفى ، ذلك لأن قناعاته الأساسية هى أن الكلمة المكتوبة لها طبيعتان أو وجهان و بالتالى فلها مفهومان : تاريخى و روحى ، و لابد أن نعمل على أن نصل إلى هذين المفهومين معاً ، و بهذا ، فقد استطاع القديس كيرلس أن يتجنب الأفكار غير الأرثوذكسية و التطرفات الكثيرة التى صدرت من البعض نتيجة للإفراط فى استخدام منهج التفسير الروحى الرمزى من أمثال العلامة أوريجانوس ، فالقديس كيرلس لا ينحاز إلى أى من التفسيرين فلكل منها قيمته و يجب استخدامه بحذر ، أى أن القديس كيرلس كان واعياً جداً لأبعاد هذا الأمر ، و يبدو ملامح مفهوم ق.كيرلس للكتاب المقدس فى الآتى


أولاً : الله  يخــــاطب  الإنــــسان   بـــطريقة  بـــشرية :

 الشئ الذى يميز الكلام الكتابى ، هو أنه يتكلم عن الله و كلمته الأزلى بطريقة بشرية ، و بطريقة تتفق مع المقاييس البشرية ، لأنه لا يمكن أن يتكلم الله أو يعلن عن نفسه إلا بطريقة بشرية قريبة و مفهومة لدى الإنسان ، الأمر الذى يتضح جداً فى العهد الجديد ، فمن البديهى أن العهد الجديد هو نتيجة أساسية لتجسد الكلمة و اللوغوس قبل تجسده كان غير منظور و غير مكتوب ، و بالتجسد صار بحسب طبيعته البشرية مدركاً و منظوراً و مكتوباً.

 لكن هذه الأقوال التاريخية لابد و أن تفهم على أنها أقوال تليق بالله ، لأنه إذا كان الكتاب المقدس يتكلم عنه بطريقة بشرية فإن هذه الطريقة لا تقلل فقط من المجد الإلهى ، لكن على العكس ، فإن العقل البشرى و قصور اللغة البشرية هى السبب الذى جعل الكتاب يتكلم بهذه الطريقة عن الله .
و يمكننا أن نجد الأصل الخريستولوجى لهذا المفهوم عند ق. كيرلس ، فهو قد رفض إداعاء نسطور بأن أقوال و أفعال المسيح (التجسد عينه) تنقص من شأن المجد الإلهى ، لأنه يرى أنه بسبب هذه الأفعال و الأقوال تنسب إلى شخص الإله المتجسد ، فنحن نستطيع بواسطتها التعرف على عظمة و رفعة الجوهر الإلهى ، مثلما أيضاً نعرف رفعة الألوهة من خلال تواضع الإله

 [ إن الحكيم يوحنا الإنجيلى يعلمنا " الكلمة صار جسداً "  فهل كف على أن يكون الكلمة؟ و هل سقط من جلاله؟ و هل جرى له تحول لم يكن عليه سابقاً ؟ إننا نقول ليس الأمر هكذا حاشا ذلك لأنه بالطبيعة غير قابل للتغيير لذلك فبقوله " الكلمة صار جسداً فإن الإنجيلى يعنى انه صار انساناً مثلنا لاننا نحن أنفسنا كثيراً ما نُدعى جسداً لانه مكتوب " و يبصر كل جسد خلاص الرب " (إش 40 : 5 س)  كل إنسان سيبصر خلاص الله لذلك فبينما هو يحتفظ بما كان عليه بدون تغيير إلا انه إذ صار فى حالتنا فانه أخذ شبهنا و لذلك يقال أنه قد صار جسداً ] 
  تفسير إنجيل لوقا ( ص 67)
أى أنه كما أن التجسد لا يُنقص من قدر الله ، كذلك فإن تعبير الله عن نفسه بواسطة الكلام البشرى لا يُنفص من مجده الإلهى .


ثانياً : أهـــمية  التــاريخ  و  الحـــرف  فى  فـــــهم  قصد  الكـــــلام  الإلهــى :

تبعاً لذلك فلكى نعرف سمو المجد الإلهى علينا أن نفهم و بطريقة خاصة ، الشواهد التاريخية و الإنسانية أى ما تليق بالطبيعة البشرية المدونة فى الكتاب المقدس عن الله ، و خاصة أن الإنسان له جسم كثيف و محكوم بقوانين بيولوجية ، أى أن القديس كيرلس لا يتعدى التفسير الحرفى التاريخى ، و لا ينكر تاريخية الأحداث و الأقوال التى يشرحها و كونها حدثت بالفعل ، لكنه يوضح فقط مدى قصور هذا المنهج الحرفى إذا ما تم استخدامه بمفرده
لهذا فإن تشديد القديس كيرلس على أهمية التفسير التاريخى مهم للأسباب التالية :
+ يعتبر هو الظل الذى يقود إلى عمق الروحيات .
+ يشهد بصدق الكلام الإلهى ، لأن ما هو تاريخى هو نموذج و ظلال لما هو روحى.
+ له هدف تربوى و تعليمى أخلاقى ، إذ أن حياة مختارى الله سواء فى العهد القديم أو فى العهد الجديد هم نماذج و قدوة للحياة المسيحية الحقيقية.
و هذه الفكرة تجد نبعها فى فكر القديس كيرلس فى تأكيده الدائم على تجسد الابن الوحيد و وجوده الحقيقى و الحرفى فى التاريخ ، و أنه أخذ نفس جسد بشريتنا بدون استحالة إلى اللاهوت أو ذوبان فيه .
+ فعندما اتهموه بأنه أذاب الطبيعة الناسوتية فى الطبيعة اللاهوتية[4] بقوله طبيعة واحدة متجسدة لله الكلمة
"ميا فيزيس تو ثيؤلوغو سيساركومينى " ، جاوبهم القديس كيرلس بأن كلمة "متجسدة" تثبت استمرار الناسوت أى الطبيعة الإنسانية، بمعنى إن الناسوت لم يذب فى الطبيعة الإلهية، كما أن عبارة "الله الكلمة" تؤكّد استمرار اللاهوت أى الطبيعة الإلهية. لذلك تكلم القديس كيرلس عن الاستمرارية continuity  وقال:"أن الطبيعتين قائمتين و موجودتين بعد الإتحاد "
The two natures persist (to exist) after the union

+ و نقرأ أيضاً من رسالة القديس كيرلس الكبير إلى فاليريان أسقف أيقونية ـ الفقرة الثالة [5]
 [إننا نقول أن كلمة الله الوحيد الجنس، إذ هو روح كإله، بحسب الأسفار المقدسة (يو4 :24) تجسد وتأنس من أجل خلاص البشر، ليس بأن حول (صنع) لنفسه جسداً من طبيعته الخاصة به (أى لاهوته)، ولا بأن فقد ما كان عليه "ألوهيته" ولا بأن حدث لها أى تغيير أو تحول، بل أخذ جسداً طاهراً من العذراء القديسة، جسداً مُحيياً بنفس عاقلة ، وهكذا أعلن أن الجسد هو جسده من إتحاد لا يُدرك وبلا إختلاط ولا يوصف على الإطلاق، ليس كجسد شخص آخر، بل جسده هو الخاص جداً به ، وهكذا أتى الوحيد الجنس إلى العالم كـ" البكر" (رو 8 : 29) وصار ذاك الذى لا يُحصى مع الخليقة - إذ هو الله- "بين إخوة كثيرين".
 وبالتالى، عندما يقال أنه وُلِد"من إمرأة" (غلا 4: 4) يستنتج بالضرورة أنه وُلِد بحسب الجسد، لكى لا يظن أنه يأخذ بداية لوجوده من العذراء القديسة.
        ورغم إنه كائن وموجود قبل كل الدهور، وإنه الله الكلمة الشريك فى الأزلية مع أبيه والكائن فى وحدة معه، إلا أنه عندما أراد أن "يأحذ صورة عبد" (فى2: 7) بحسب مسرة أبيه الصالحة، عندئذ قيل أنه خضع لميلاد من إمرأة بحسب الجسد مثلنا، لذلك بلاشك المولود من الجسد جسد هو، ولكن المولود من الله إله هو، أما المسيح فهو الأمران، إذ هو إبن ورب وله جسده الخاص به، ورغم ذلك ليس "الجسد" غير مُحيياً- كما قلت- بل مُحيياً بنفس عاقلة ]
     أى أنه كما أن كما ينبغى التأكيد على بشرية المسيح ، هكذا تبدو أهمية التأكيد على العنصر التاريخى و الحرفى فى كلمة الله و الإنطلاق منه إلى آفاق التفسير الروحى . لذلك فالقديس كيرلس يفرق بين الكلام الكتابى و كلام الفلسفة اليونانية بقوله إن كلام الفلسفة هو بغير جسد أما الكلام الكتابى فهو متجسد.


ثالثاً : لا ينبغى أن نكون  محصورين فى التفسير الحرفى ، بل  يجب  أن  نـــســـمو  إلى آفاق التفسير الروحى :

يجب أن لا يتم التعامل مع التعبيرات و المعانى اللاهوتية بطرق تاريخية أو لغوية نحوية أو أن يفهمها الإنسان حسب رغبته البشرية ، بل حسبما يليق بالطبيعة الإلهية الفائقة  ، لذلك سيظل الكلام البشرى قاصر و غير كاف لوصف الإلهيات ، و بواسطة الكلام البشرى نستطيع أن نفهم جانباً ما مما هو خاص بالطبيعة الإلهية الفائقة ، فالكلمة الكتابية لا تدل على ما هو الله بالضبط ، بل هى ببساطة تشير إليه .
إذاً ، فالتفسير الكتابى ليس هو شأن لغوى ينحصر فى الفهم الحرفى ـ التاريخى للكلمة ، و لكن هدف التفسير هو المعرفة الإلهية ، بمعنى أنه بينما يستخدم الفكر البشرى و الإماكنيات اللغوية فى التفسير ، إلا أنه لا يجب أن تبقى العملية التفسيرية منحصرة فى الحدود الحرفية للكلمات بل أن تشير دائماً إلى ما هو إلهى ، و ما يرمى إليه التفسير الكتابى هو المعرفة الخلاصية لعمل التدبير الإلهى و هو بهذا يكشف حدود المعرفة الإلهية الحقيقية .

و الذى يحدد معنى كل كلمة فى الكتاب ليس هو التحليل اللغوى لها أو المعنى التاريخى الذى تحمله ، بل أنه ذلك الشىء المخفى فيها فى العمق و سرائرياً و حسب التدبير ، الذى نصل إليه بواسطة التفسير الروحى الرمزى.
فإن التفسير الروحى عند القديس كيرلس يفهم من خلال التجسد الإلهى ، فكما أن لاهوت السيد المسيح يقودنا إلى ألوهيته ، و يعطى مصداقية تاريخية لحقيقة التجسد ، هكذا أيضاً أن الحرف أو الأحداث التاريخية التى وردت فى النصوص تشير إلى ذلك الشئ الروحى الذى يُعلن بواستطها ، فالحرف يخدم سر التدبير الإلهى و المحسوسات البشرية تتجلى بفضل التجسد نحو الحالة الإلهية فى المسيح يسوع.
و بالتالى فإن طريقة التفسير الروحى تتخذ من الحرف و التاريخ أساساً لها ، إذ هى تتعرف من خلال التاريخ على سر المسيح " سر التدبير الإلهى " بمعنى أن التجسد يُعلن هدف التدبير الإلهى و نحن نكتشفه فقط عندما نعيش وفق مات يتفق و سر التدبير الإلهى هذا.

و حيث أن الحرف فقط لا يجدى شيئاً  .. لذلك فلطالما أكد القديس كيرلس على أنه لا يوجد نفع من مجرد الإيمان بناسوت المسيح و جوده التاريخى فقط ، لذلك فهو يشدد كثيراً فى خريستولوجيته على أن المسيح هو الإله الحقيقى و ليس مجرد إنسان حل فيه الإله .
[ من يتجاسر و يقول إن المسيح هو إنسان ملهم من الله و ليس بالحرى هو الله الحقيقى ، لأنه الابن الواحد بالطبيعة ، لأن الكلمة صار جسدا ( يو 1 : 14 ) و اشترك مثلنا فى اللحم و الدم (عب 2 : 14) فليكن محروماً .
 [ من ينسب الأقوال التى فى البشائر و الكتابات الرسولية أو التى قالها القديسون عن المسيح أو التى قالها هو عن نفسه إالى شخصين أو أقنومين ، ناسباً بعضها للإنسان على حدة منفصلا عن كلمة الله و ناسباً الأقوال الأخرى لكونها ملائمة لله فقط إلى كلمة الآب وحده ، فليكن محروماً ] [6]

و كما أن المسيح لا ينفع أولئك الذين يؤمنون أنه مجرد إنسان ،بل يجب الإيمان به كإله حقيقى متجسد .. كذلك لا ينفعنا التفسير الحرفى ما لم نمتد إلى المعنى الروحى الكامن وراء الكلمات الإلهية .
كذلك فإن المسيح الواحد الإله المتجسد هو وحده الذى يمكن أن يكون مخلصاً حقيقياً ، و ليس أى إنسان مختار من الله (ناسوت فقط)  ذلك لأن الخلاص يكمن مبدئياً فى منح الحياة للمخلوقات و أن تستعلن بناء على ذلك الحياة الذاتية و عن طريق إتحاد اللاهوت بالطبيعة البشرية فى المسيح ، يتحقق خلاص الإنسان
[الطبيعة التى خضعت للفساد لا يمكن ان ترتفع إلى عدم الفساد ، إلا بنزول الطبيعة التى تعلو على كل أنواع الفساد ، و التغيِّر و باتحادها بها ، و بالاتحاد ترتفع تلك الساقطة إلى صلاحها الدائم أى إلى عدم الفساد ]
(تفسير إنجيل يوحنا / ك 11 ف 12)
[ أن يكون فى استطاعته أن يمنح للناس سكنى الروح القدس و يجعل هؤلاء الذين يقتربون منه شركاء الطبيعة الإلهية و هذه الخاصية موجودة فى المسيح لا كشىء اكتسبه أو انتقل اليه من آخر بل كخاصية التى يملكها و هى التى تخص جوهره ]
( تفسير إنجيل لوقا / ص 64)
أى أنه عن طريق تجسد المسيح (الناسوت) قد وصلنا إلى الله و صرنا متألهين و شركاء طبيعته المباركة (اللاهوت )،  و بنفس المنطق نستطيع أن نمتد من الكلام الحرفى للكتاب المقدس إلى إدراك المعانى الإلهية الروحية المخفية سرياً فى الألفاظ و الكلمات .


أخيراً
إن التفسير الروحى _ حسب منهج القديس كيرلس _ يستلزم أولاً التمييز الواضح ، و ثانياً إدراك الوحدة غير الممتزجة بين عالمين ، المحسوس و المادى ، الروحى و الذهنى ، مثلما صار الإتحاد الأقنومى بين الطبيعتين الإلهية و البشرية فى شخص المسيح الواحد بغير إختلاط و لا إمتزاج و لا تغيير و لا إنفصال ، و بناءاً عليه ، فعند استخدام التفسير الروحى يكون الهدف هو تجلى العنصر التاريخى الإنسانى الحرفى إلى العنصر الإلهى الروحى و الذى هو متحد معه بغير إمتزاج و لا إنفصال.
يـُتبـَع


[1] محاضرة عن القديس ديديموس الضرير ، للدكتور ميشيل بديع ـ الكورسات المتخصصة للمركز الأرثوذكسى للدراسات الآبائية
[2] انظر الدراسة المتميزة للدكتور جوزيف موريس فلتس عن " أمثلة من تفسير الآباء للكتاب المقدس " المنشورة فى كتاب أرثوذكس حقاً و أيضاً أنجيليون / محاضرات مؤتمر العقيدة الأرثوذكسية فى الفيوم ـ سبتمبر 2004، و التى تعتبر أساس هذا لمقال
[3] لاهوت عقائدى ـ لاهوت مقارن ـ حوارات مسكونية ـ أقوال آباء / مزكرة لنيافة الأنبا بيشوى مطران دمياط ، شرح الأساس اللاهوتى لتعليم الآباء عن طبيعة المسيح
[4] الصراعات الكريستولوجية فى القرنين الرابع و الخامس ـ نيافة الأنبا بيشوى مطران دمياط
[5] لاهوت عقائدى ـ لاهوت مقارن ـ حوارات مسكونية ـ أقوال آباء / مزكرة لنيافة الأنبا بيشوى مطران دمياط (مرجع سابق) 
[6] رسائل القديس كيرلس لنسطور و يوحنا الأنطاكى (الرسالة 17 ) ترجمة المركز الأرثوذكسى للدراسات الآبائية

Friday 11 February 2011

لماذا يا أتروبياس؟




أتروبياس ... لماذا يا أتروبياس ؟؟!
للقديس يوحنا ذهبى الفم

اليوم الحادى عشر من فبراير لسنة 2011 م الموافق الرابع من الشهر المُقدس أمشير عام 1727 للشهداء ، و فى تمام الساعة السادسة مساءاً ، أُعلن عن تنحى الرئيس مبارك عن حكم بلدنا عزيز مصر ، و بذلك سقط نظام الفساد البائد الذى طالما أذل البلاد و قهر شعبها و حط من قدرها... و بعد الصدمة ، التى كانت متوقعة ، و بعد الفرحة المنتظرة ، و التأمل فيما آلت له حال الأرض المقدسة التى باركها إلهى ، بدأ يرن فى ذهنى اسم "أتروبياس.. أتروبياس"
 ..آها ، لقد قرأت عن أرتوبياس هذا ليلة سقوط النظام. ...

فـمـن هـو أتـروبــيـاس؟؟؟
وُلد أتروبياس كعبد فى حكم الميزوبتيميا (دولة العراق القديمة) ، إشتراه أرينيثوس الذى كان يقوم بعمل عسكرى هام ، و قدمه هديه لإبنته عند زواجها ، التى أطلقت سراحه ، ذهب العبد إلى القسطنطينية حيث صار فى عوز شديد ، فرثى لحاله أحد الموظفين فى البلاط و هيّأ له عملاً بسيطاً بين حجاب الإمبراطور .. و من هنا بدأ نجمه يتألق و مركزه يرتفع إذ بإجتهاده فى إعماله البسيطة و لباقة حديثه و سرعة خاطرة جذب أنظار الإمبراطور ثيؤدوسيوس الكبير (378 – 395 ) فوثق به و أوكل إليه القيام بمهام خطيرة و حساسة ، و بعد موت ثيؤدوسيوس ، كان أتروبياس له القدرة على أن يقوم بمهام رئيس الحجاب و المشير الخاص و المساعد الدائم للإمبراطور أركاديوس ، حيث استطاع أن يقضى على روفينوس ، منافسه فى البلاط الإمبراطورى ، إستغل أتروبياس مركزه إستغلالاً سيئاً إذ ألغى حق الكنيسة فى اللجوء إليها و ذلك حتى يقطع آخر رجاء لضحاياه فى الهروب ، و قد كانت رسامة القديس يوحنا ذهبى الفم عام 397 م بناءاً على نصيحته لأركاديوس ... و قد تظاهر بمساعدته لأعمال الكنيسة التبشيرية و لكن هذا لم يثن ذهبى الفم عن أن يتكلم بوضوح و طلاقة عن شرور الغنى و رذائل الكثير من الأغنياء الجشعين موبخاً الذى ينطبق عليه هذا الكلام ، و أن رذائله بدأت تنكشف مما وتر العاقة بينه و بين ذهبى الفم .

و بعد ثوره الضابط "تريبيجيلد" و بعدما تخلى مناصرى أتروبياس عن تأييده ، أخيراً أُستبعد و صودرت ممتلكاته و طلب الجند إعدامه ، و لم يكن لهذا التعيس البائس مكان ليلتجىء إليه سوى الكنيسة التى حرمها من حق الإلتجاء إليها فى مثل هذه الحالات ، فلجأ إلى الكاتدرائية التى بالقرب من القصر و ذهب إلى المذبح و تعلق بالعامود ، و لما رآه ذهبى الفم ، إحتضنه و خبأه فى غرفة الأشياء المقدسة و ملابس الكهنوت و إتصل الإمبراطور ليقعنه هو و الجنود بالعفو عنه .

و فى اليوم التالى ـ يوم الأحد ـ كانت الكاتدرائية قد اكتظت بالجماهير لتسمع ذهبى الفم متحدثاُ عن حب الكنيسة للناس حتى لأتروبياس الذى عادى الكنيسة و سن قانون يمنعها من حماية أى إنسان ..و هذا ما قاله ذو الفم الذهب فى عظته[1] ، و نحن نترك لقارئنا العزيز ذو العقل الفَطِن ، استقراء ما ينطبق على حالتنا فى الوقت الحاضر:


لمـاذا يا أتـروبـياس؟؟
["بَاطِلُ الأَبَاطِيلِ، الْكُلُّ بَاطِلٌ" ( جا 1 : 2)
يليق بنا دوماً أن ننطق بهذه العبارة و بالأخص فيما يخص الحياة الزمنية.
أين هى الأمور الباهرة التى كانت تحيط بك كوالٍ؟!
أين ذهبت المشاعل المتألقة؟!
أين هى الرقصات و أصوات أقدام الراقصين و الموائد و الولائم ؟!
أين أكاليل الزهور و ستائر المسارح ؟!
أين كلمات المديح التى كانت تقدم لك فى المدينة ، و الهتافات التى تُسمع فى ملاعب الخيل و تملق الممثلين لك؟
هذا كله قد ذهب ... الكل قد ذهب ، لقد هبت الرياح على الشجرة فسقطت أوراقها ، و إهتزت من جذرها ذاته ، إذ هكذا كانت قوة العواصف حتى صدم كل صغير و كبير فيها ، و هدد بإقتلاعها من جذورها!!
أين ذهب الآن أصدقاؤك المراؤون؟!
أين موائد الشرب و ولائم العشاء التى كنت تقيمها ؟!
أين حشود المتطفلين و الخمور التى تقدمها طول اليوم و الأطعمة المتنوعة ؟!
أين ذهب أولئك الذين كانوا يخضعون لسطوتك الذين ما كانوا يصنعون شيئاً أو ينطقون إلا لينالوا رضال ؟
لقد صار جميعهم أشبه بخيالات الليل ، و أحلام تبددت ببزوغ النهار ، لقد كانوا أزهار ربيعية ذبلت بإنتهاء الربيع ، كانوا ظلاً و قد عبر ، كانوا دخاناً و تبدد ، كانوا فقاعات و إنفجرت ، كانوا نسيج عنكبوت و تهرَّأ إرباً !!

فلنـُغن دوماً بتلك الأغنية الروحية "بَاطِلُ الأَبَاطِيلِ، الْكُلُّ بَاطِلٌ" و لنكتبها على حوائطنا و على ثيابنا ، فى السوق و البيت و الشوارع ، على الأبواب و المداخل ، و فوق هذا كله فليكتبها كل منا على ضميره ، و لتكون موضع تأمل دائم.

هذه الأشياء بقدر ما هى خادعة و غاشة ، إلا أنها تبدو بالنسبة لكثيرين أنها حقائق ، لذلك يلزم لكل إنسان يوماً ، فى العشاء و فى الإفطار و فى كل الظروف يقول كل لصاحبه و يستمع من قريبه هذا القول المتكرر "بَاطِلُ الأَبَاطِيلِ، الْكُلُّ بَاطِلٌ"

أما كنت أُخبرك دوماً أن الثروة[2] ليست إلا عابر طريق؟ لكنك لم تكن تريد الإستماع إلىَّ ، أما كنت أقول لك أن الثروة هى عبد ناكر للجميل ؟ لكنك لم ترد أن تصغى إلىَّ ، تأمل كيف تؤكد الخبرة اليومية أن الثورة ليست إلا عابر طريق و عبد حاجد بل و مجرم ، إذ تجعلك فى حالة خوف و رعب .

+ + +
عندما كنت تنتهرنى لكى لا أقول الحق  أما كنت أقول لك " إنى احبك أكثر من هؤلاء الذين يتملقونك ؟ إننى فى إنتهارى لك أهتم بك أكثر من كل الذين يقدمون لك الإحترام ، ألم أكن أقول لك أيضاً "أَمِينَةٌ هِيَ جُرُوحُ الْمُحِبِّ، وَغَاشَّةٌ هِيَ قُبْلاَتُ الْعَدُوِّ" ( أم 27 :6) لو أنك أذعنت لجراحاتى ما كان يمكن لقبلاتهم أن تؤدى بك إلى هذا الهلاك ، لأن جراحاتى تعمل على شفائك ، أما قبلاتهم فتدفع بك إلى مرض يستعصى شفائه .!!!

أين ذهب حاملوا الكؤوس لك ؟ أين هم الذين كانوا يهيئون الطريق قدامك فى السوق و يصوتون بالهتافات غير المحصية فى آذان الكل ؟! .. لقد هربوا ، نبذوا صداقتك و وجدوا سلامهم فى حلول الكارثة بك .
أما أنا فما أصنع ما صنعوه ، بلى ، أننى لن أتركك فى كارثتك ، لن أتركك الآن ، و أنت ساقط أحميك و أتحنن عليك .
و إننى لا أنطق بهذا لكى أقلق نفسك و أنت مطروح على الأرض ، إنما أرغب فى أن أولئك الذين لازالوا قائمين أن يكونوا أكثر أماناً ، لا عن طريق حروج إنسان مجروح ، ، إنما بالحرى لكى أحفظ الذين لم يجرحوا فى صحة كاملة ، لا بإغراق إنسان تصدمه الأمواج بل بتعلم أولئك الذين يبحرون فى جو هادىء حتى لا يهلكوا .
و كيف يتم هذا ؟ بتأملهم فى التغيير الذى يصيب الشئون البشرية ، لأنه ذاك (أتروبياس) الذى وقف مرتعباً من التغيير الذى حدث له ، لم يكن له خبرة قبل ذلك و لم يفلح لا عن طريق ضميره كما لم يأخذ بمشورات الآخرين ، و أنتم يا من تفتخرون بغناكم أما تستفيدون بما حدث (لأتروبياس) إذ لا شىء أوهن من الشئون البشرية ؟!
إننى أعجز على أن أُعبِّر بدقة عن مدى تفاهة الشئون البشرية ، فإن دعوناها دخاناً أو عشباً أو حلماً أو أزهاراً ربيعية ، أو أى لقب آخر ، فإنه هكذا هى أمور هالكة بل و أقل من العدم .
بل و بالإضافة إلى كونها عدم فإن لها عنصر خطير جداً و تؤكده ، لأنه أى إنسان كان أكثر عظمة من هذا الرجل[3] ، ألم يفوق العالم كله فى الغنى ؟!! ألم يتسلق إلى برج الرفعة ذاته ؟! ألم يكن الكل يخافه و يرتعب منه ؟!
آه ، و لكنه مع ذلك ألم يصر أكثر بؤساً من السجين ؟! و يرثى له أكثر من العبد الدنىء ؟! و أكثر إعساراً من الفقير المتضور جوعاً [4]؟! .. و هو مع هذا إن كان قد سبق و فرح و لو مرة واحدة فى الماضى ، بل و لا يشعر حتى بأشعة الشمس إنما فى وسط النهار يكون نظره معتماً كما لو أن ظلاماً دامساً قد إكتنفه ، و إننى حاولت قدر المستطاع – رغم عكس اللغة البشرية – بأن أُعبَّر عن الآلام التى يخضع لها طبيعياً إذ يتوقع الموت كل ساعة !!
إننى أنطق بهذه الأمور ، لا لتوبيخه أو لكى نشمت بمصيبته ، إنما لأجل تلطيف أذهانكم من جهته !!! ]
+ + +

و ماذا بعد ؟؟!
هذه مجرد مقتطفات من العظة الأولى للقديس يوحنا ذهبى الفم على الغنى ، صاحب السلطة الفاسد أتروبياس ، و قد رأيت فيها الكلام الذى يجب أن يلتزم به أى إنسان مسيحى تجاه الذى حدث فى بلادنا من سقوط نظام غنى فاسد آخر ، استوحش و استفحل فى الظلم و التبجح .
 قد رأيت فى شخصية أتروبياس ، رمز لكل أحد استخدم سطوته و مركزه و غناه فى إضرار هذا البلد ، لكل من كان يظن نفسه خالداً فى الحكم ، مؤبداً ، قابعاً على رأس المجتمع المظلوم المغلوب على أمره ، و لا يخطر على باله معنى"العدل"!!! ...

رأيت فى سقوط أتروبياس من قمة النظام الرومانى ليصير أسوأ حالاً من المساجين المساكين ، نفس السيناريو الذى يتكرر مع كل مستبد على مر التايخ من الثقة فى مغريات العالم و الإعتداد بالنفس و عدم الإصغاء لصوت الحكمة.
رأيت أنها منهج يجب أن يسير عليه كل حاكم مرتقب لبلادنا ، مدركاً بصورة مستمرة أن الكل .. باطل!!

أخى القارىء .. قد تختلف معى فى صحة إختيارى لهذه العظة لأنشرها فى مثل هذا الظرف الذى نمر به ، لكنك حتماً لا تختلف معى عندما أقول لك .. "عاشت بلادنا مصر .. إلى الأبـــد" !


Marc
11/2/2011
يوم أن ترك الفساد سدة الحكم فى بلدى، و هرب .
يوم انتصار ثورة اللوتس المصرية . يوم تنحى من كان يوصف بالمبارك .


1 ـ عن كتاب "الكنيسة تحبك " للقديس يوحنا ذهبى الفم ، إصدار كنيسة الشهيد العظيم مارجرجس باسبورتنج  
2 ـ و السلطة أيضاً  
3 ـ أتروبياس أو مبارك ، أيهما سواء
4 ـ طبعاً هذا الكلام لا ينطبق على مبارك ، الذى سيقضى بقية حياته مستمتعاً بثروته الضخمة.

Wednesday 9 February 2011

رسالة عن الشهداء



رســالة عن الـشـهداء
للعلامة أوريجانوس

فى ذكرى الأربعين لشهداء الرب الأربعة و العشرين فى كنيسة القديسيِّن ماربطرس و مامرقس بالأسكندرية ، يضع الروح أمامنا هذه الكلمات التى أرسلها العلامة أوريجانوس [1]لصديقه و كافله امبروسيوس سنة 235 على إثر طرحه فى السجن هو و عدد كبير من المؤمنين أثناء الاضطهاد الذى أثاره الامبراطور مكسيمين تراكس :

[[[ صديقى أمبروسيوس .. فى المستقبل القريب سوف يصعد إلى هذه الأمجاد واحد من الشهداء البارزين ، أحد الذين إلتهبت قلوبهم بالحماس و الرغبة فى معرفة الملك المسيح ، و من يدرى؟ فقد يسبق غيره من الشهداء .. على أى حال يمكن أن تحكم فى هذا الأمر بنفسك خصوصاً إذا تأملت أحد نصوص الإنجيل الذى لم يحظ ببركاته أحد من الأحياء أو ربما استطاعت قلة من القديسين أن تنال ذلك التطويب فى ملىء بهائه و مجده .. ثق أنك أيضاً سوف تنضم إلى هذه الزمرة المباركة إذا خضت التجربة فى ثبات دون ضعف أو خور ، يقول النص أن القديس ببطرس قال للرب فى أحد المناسبات :«هَا نَحْنُ قَدْ تَرَكْنَا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعْنَاكَ. فَمَاذَا يَكُونُ لَنَا؟» فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: ـ و من الواضح أنه كان يوجه حديثه للرسل جميعاً ـ «الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الَّذِينَ تَبِعْتُمُونِي، فِي التَّجْدِيدِ، مَتَى جَلَسَ ابْنُ الإِنْسَانِ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ، تَجْلِسُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ كُرْسِيًّا تَدِينُونَ أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ الاثْنَيْ عَشَرَ. وَكُلُّ مَنْ تَرَكَ بُيُوتًا أَوْ إِخْوَةً أَوْ أَخَوَاتٍ أَوْ أَبًا أَوْ أُمًّا أَوِ امْرَأَةً أَوْ أَوْلاَدًا أَوْ حُقُولاً مِنْ أَجْلِ اسْمِي، يَأْخُذُ مِئَةَ ضِعْفٍ وَيَرِثُ الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ. وَلكِنْ كَثِيرُونَ أَوَّلُونَ يَكُونُونَ آخِرِينَ، وَآخِرُونَ أَوَّلِينَ" (مت 19 : 27 ، 30)

عندما أتأمل هذا النص أتمنى أن أمتلك من أمور هذا العالم و متاعه ما تملكه أنت أو أكثر و بعد ذلك أتقدم لأكون شهيد الله فى المسيح لأن هذا يعنى إنى أنال أضعاف مضاعفة ، أو كما يقول مارمرقس "وَيَأْخُذُ مِئَةَ ضِعْفٍ الآنَ فِي هذَا الزَّمَانِ، بُيُوتًا وَإِخْوَةً وَأَخَوَاتٍ وَأُمَّهَاتٍ وَأَوْلاَدًا وَحُقُولاً، مَعَ اضْطِهَادَاتٍ، وَفِي الدَّهْرِ الآتِي الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ." (مر10 : 30 ) ، فما نأخذه فى الواقع يفوق ما نعطيه بأكثر مما نتصور فإذا كان ما نقدمه فى الشهادة شىء عظيم فكم تكون العطية إذا ما ضوعفت مائة مرة؟؟!!
و من أجل هذه المكافأة أتمنى ـ لو كنت أنا شهيداً ـ أن أترك ورائى أطفالاً و حقولاً و بيوتاً ، حتى يمكننى أن أكون أباً لأضعاف مضاعفة للأطفال القديسين ، أو إذا شئت مزيداً من الدقة ، أباً لمائة ضعف من هؤلاء الأطفال ، و أتمتع بهذه الأبوة فى حضرة الله الآب أبى ربنا يسوع المسيح الذى منه تسمى كل أبوة (أف 3 : 15)  ، و قد يصير الشهيد نوعاً من الآباء الذين قيل عنهم لإبراهيم "وَأَمَّا أَنْتَ فَتَمْضِي إِلَى آبَائِكَ بِسَلاَمٍ وَتُدْفَنُ بِشَيْبَةٍ صَالِحَةٍ" (تك 15 :15) ، فقد يكون هناك من يقول أن هؤلاء الآباء يقصد بهم القديسون الذين حملوا الشهادة يوماً ، و تركوا وراءهم أطفالاً و فى مقابل شهادتهم صاروا آباء للآباء ، مثل إبراهيم أبى الآباء و غيرهم من الآباء البطاركة .. هكذا ترتفع كرامة الشهداء الذين يتركون أطفالاً يصبحون آباء لا للاطفال ، بل للآباء عظام. !!

كثيرون يتطلعون بإشتياق نحو العطايا الأفضل (1كو:12 :31 ) فيغبطون الشهداء الأبراياء و الشهداء الذين نالوا مائة ضعف من البنين أو الحقول أو البيوت
و مع ذلك يعجز العقل عن تقدير العدالة فى أن يمتلك هؤلاء الشعراء فى العالم الروحى ثروات تفوق كثيراً ما يناله الشهداء الذين يفتقرون إلى أمور هذا العالم ؟ و لابد أن نطمئن أصحاب هذا القلق فنقول أن هؤلاء الشهداء قد احتملوا ألواناً من العذاب و ضروباً من الآلام و بذلك قدموا الدليل الساطع على فضيلتهم و قوة شهادتهم و هذا ما لعجز عن تقديمه غيرهم ممن لم يعانوا هذه المحاكمات و التجارب .. و فى بطولة الشهداء لم يكتفوا بقطع و تمزيق قيود الحب الذين تربطهم بالحياة و الجسد فحسب بل مزقوا و حطموا كل القيود و الأغلال التى تشهد إلى العالم و أظهروا حبهم العظيم الرائع لله و بالتالى أثبتوا بما لا يدع مجالاً للشك كيف تذوقوا بالحقيقة "كَلِمَةَ اللهِ حَيَّةٌ وَفَعَّالَةٌ وَأَمْضَى مِنْ كُلِّ سَيْفٍ ذِي حَدَّيْنِ" (عب 4 :12)

و إذا فَصَموا أواصر هذه الأغلال الرهيبة صنعوا لأنفسهم أجنحة كالنسور يستطيعون بها أن يطيروا إلى سيدهم .
و كما أن الذين لم يجوزوا تجارب الإستشهاد يعطون الكرامة و المجد للشهداء الذين أثبتوا و لاءهم و ثباتهم عندما كانت تتمزق أجسادهم على المقطرة و يعانون ضروباً متباينة من العذاب و النار .
هكذا نحن ايضاً الفقراء لو حصلنا على المجد الشهادة فالعقل يدعونا أن نقدم الجائزة الأولى لكم انتم الذين من أجل محبة الله التى فى المسيح (رو 8 : 39) دستم تحت أقدامكم بريق الشهرة الخادعة التى يسعى إليها الناس و وطأتم فى إصرار لا على ثرواتكم و ممكتلكاتكم فقط بل وطأتم كذلك على حنانكم الأبوى لأطفالكم[2] .
و أعتقد أنه لا يفوتك هنا أن تلاحظ هذه السمة الرائعة من حيث الدقة التى يتميز بها الكتاب المقدس ، فعند الوعد بالمجازاة سواء بالأضعاف المضاعفة أو المائة ضعف من الإخوة و الأطفال و الآباء و الحقول و البيوت ، نلاحظ أنه لم يشر إلى الزوجة ، فلم يقل[3] أنه يأخذ أضعافاً مضاعفة من الزوجات و السبب فى ذلك أنه فى قيامة الأموات(مت 22 :30) (مر12 :25)

.. و إذا كما نتبرر بالدم الثمين الذى ليسوع (رؤ5 :9) الذى أخذ اسماً فوق كل اسم و بهذه الدالة يصبح لنا نصيب فى المجد و الكرامة فكم يكون هذا المجد و هذه الكرامة إذا لم يقتصر موقفنا على مجرد التبرير بل أضفنا إلى ذلك دم الشهادة الغالى .. إن دم الإستشهاد الذى يتيح للشعيد كرامة أعلى و مجد أعظم سوف يكون سبباً فى خلاص كثيرين و لهذا وصف هذا الموت بأنه الإرتفاع و العلو "وَأَنَا إِنِ ارْتَفَعْتُ عَنِ الأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ الْجَمِيعَ" (يو12: 32) و نحن بدورنا فى شهادتنا نمجد الله و نعلى اسمه و يؤيد الكتاب المقدس هذه الفكرة و ليس أدل على ذلك مما جاء فى إنجيل معلمنا يوحنا عن استشهاد القديس بطرس "قَالَ هذَا مُشِيرًا إِلَى أَيَّةِ مِيتَةٍ كَانَ مُزْمِعًا أَنْ يُمَجِّدَ الله بِهَا" (يو21: 19) ]]]
+ ++
حـــِداد ؟؟
تعجبت جداً من كل أحد أعلن " الحداد" على شهداء المسيح فى كنيسة القديسين بالأسكندرية ، أتعجب من كل من تعالت أصواتهم لكى تتشح كنيستنا بالسواد ، أتعجب لمن لم يشكر الله على نعمة الشهادة لإسم الثالوث القدوس ، و ازداد عجبى عندما أدركت أن هذه الدعاوى صدرت من أُناس يؤمنون بقيامة الأموات !!
صحيح أن هذا الحادث قد أحزن الكثيرون ، و فطر قلب الكنيسة على أولادها ، بل طعن المسيح فى صميم محبته التى يقدمها هو و أولاده لكل شخص مهما اضطهدهم و أظهر لهم العداء ..
نعم لقد جازت الكنيسة كلها آلام الصليب الحزينة ، التى على ما يبدو إنها لم تشفى من حراجاته حتى اليوم ، بل  و ذاقت العلقم و الأفسنتين ، ، لكن ..

 أليس بعد الصليب قيامة؟؟
ألم يصلى المسيح فى جثيمانى ، صلاة حزينة كئيبة ضاغطة على النفس ، و هيـِّأ قلبه لكى يتلقى من الآب كأس  الموت و الحزن  ، و شربه إلى الثمالة؟  ألم يقف مفضوحاً أمام جميع الشعب كمجدف و ملعون و هو الذى لم يعمل خطية و لا وجد فى فمه غش ،ألم  يُجرّ إلى الصليب كنعجة تحت يد الذي يجزّها ليتحمَّل الضربات القاسية كمَنْ يستحقها، لا يقول كفى ولا يستعفي من آلامها!! ويُسحب إلى الصليب ويُصلب، وهو لا يفتح فاه إلاَّ بقوله قد أُكمل!!

لكن ـ و بعد كل هذا ـ ماذا كانت النهاية ، أليست هى القيامة ؟
ألم يَقُم المسيح مخلصاُ الإنسان من عار و تخريب فعل الموت و خاضعاً هذا العدو تحت قدميه ،  هذا الموت الذى يقهرنا الآن و يخدعنا قائلاً لنا " أنه لا يوجد رجاء"؟؟!!!
فماذا يكون معنى الحِداد إذاً ؟؟.. أنحسب الرب غير قادر على أن يقيم شهدائنا من بين الأموات ؟!!

" و هكذا تختفى أفراح و نصرة  القيامة داخل أحزان و آلام الصليب"[4]

يقول الأب متى المسكين عن مكانة الشهداء فى الكنيسة :
".. دُعى بذلك شهيداً كل من قبل الموت من أجل اسم المسيح بإعتبار أنه قد دخل حتماً فى رؤيا فعليه لوجه الحبيب ، و دخلت بذلك الشهادة للمسيح بالموت فى درجة التكريم الفائقة جنباً إلى جنب مع درجة الرسولية ، فالشهيد يذكر فى الطقس الكنسى بعد الرسل مباشرة و قبل أعاظم القديسين حتى و إن كانت حياته قبل شهادته فى درجة الموعوظين ،لأن المعمودية أُعتبر كصبغة شركة فى موت المسيح"[5]
+++
بل و الأكثر من هذا ، نجد فى رسالة إلى كنيسة الله التى فى سيميرنا و كنيسة فيلوميليوم عن استشهاد القديس برليكاربوس أسقف سميرنا حرقاً بالنار عام 156م ـ هذه الرسالة المعتبرة من أهم "أعمال الشهداء" ـ نجد تلميحاً على التأكيد بأن الإستشهاد لإقتداءاً بالمسيح و هذا الإقتداء يكمن فى مشابهة آلامه و موته ، و تعلن لنا بصورة واضحة عن تكريم الكنيسة الأولى لشهدائها:

[ثم بعد ذلك أخذنا رفاته الأثمن من الحجارة الكريمة و الأكثر قيمة من الذهب و دفناها فىمكان لائق ، هناك سوف يسمح لنا الرب على قدر ما يمكننا ـ أن نجتمع معاً فى فرح و تهليل و نحتفل باستشهاده الذى هو يوم ميلاده]

نعم فرح و إحتفال و تكريم و سرور ، كلها تنبع من قيامة الرب ذاتها !!
[ إننا نعبده "أى المسيح" باعتباره ابن الله ، و الشهداء نحبهم باعتبارهم تلاميذ و مقتدين بالرب حقاً بسبب حبهم غير الموصوف لملكهم و معلمهم]

بل أن صلاة القديس بوليكاربوس تكشف لنا عن مدى الفرح الذى يكون فيه الإنسان المزمع أن يقدم جسده ذبيحة للرب ، فيقول هذا الأب القديس:
"إيها الرب الإله القادر على كل شىء ، أبو يسوع المسيح ابنك الحبيب المبارك..
الذى بواستطه قد نلنا المعرفة الكاملة عنك  ، يا إله الملائكة و القوات و كل خليقة
أُباركك...
لأنك رأيت أنه من اللائق أن تسكب علىَّ فى هذا اليوم و هذه الساعة
أن أشاركك مع هذا العدد من الشهداء فى كأس مسيحك ،
و أن أنهض غلى الحياة الأبدية بالنفس و الجسد كليهما،
بمقتضى أزلية الروح القدس.
يا ليتنى أكون اليوم مقبولاً بينهم على مرأى منك ،
كذبيحه ذكية مرضية ،
تماماً كما أنك أيها الإله الحقيقة ، الذى لا يمكن أن تنطق بالباطل ، قد سبق و أعددت و أعلنت مسبقاً و أوفيت.
لذلك فإنى أسبحك على كل شىء ، أباركك ، أُمجدك ،
بواسطة رئيس الكهنة السماوى الأبدى ، يسوع المسيح ابنك الحبيب
الذى بواطته نقدم لك المجد معه و مع الروح القدس
الآن و كل الأجيال الآتية ... آمـــين]

[ ما أمجد أن يكون المرء شمساً تغرب فى العالم لتشرق عند الله ..أنا حنطة الله ولا بد أن أطحن بأسنان الحيوانات المفترسة حتى أصير خبزاً طاهراً للمسيح]
 القديس أغناطيوس الأنطاكى.

هذه رسالة إلى كل من يظل حزيناً ، حابساً نفسه فى دائرة الحدِاد و الكآبة .. لكل من لم يرى فى المسيح غير الصليب ، و لكل من لم يتطلع بعد إلى نصرة القيامة..
يا إلـهى .. هل وضع الروح القدس هذه الكلمات أمامنا للتعزية فقط .. أم للفرح أيضاً ؟!!



 1 ـ تًعد هذه الرسلة وثيقة من أصدق الوثائق و أكثرها إثارة للمشاعر خصوصاً أن اوريجانوس لم يكن لديه الزقت أو الإستعداد الذى يمكنه القيام بعمل ما ، إلا أن يؤلف على عجل الخواطر الرسالة التى تعين صديقه فى وقت المحنة و الإضطهاد .
ترجم هذه الرسالة القس / موسى وهبة مينا ، ملاك كنيسة الشهيد العظيم مارجرجس بخمارويه و صدرت الطبعة الأولى منه فى أغسطس 1971 م أى قبيل الإحتفال بعيد النيروز عام1687 للشهداء
2 - امبروسيوس هنا لا يمثل الإنسان الذى ترك بيته و أولاده لكى يشهد للمسيح فقط ، بل أيضاً هو أب لأولئك الشهداء من أولاده الروحيين الذين اشتركوا معه فى الإضطهاد و الذين قدمهم بنفسه لكى يعلنوا حبهم للرب بسفك الدم ، يا ليت كل أب استشهد ابنه أو ابنته يسمع هذه الكلمات المُعزيّة !
3 ـ يقصد أوريجانوس هنا ما جاء فى (مر 10 : 29 ،30)
4 ـ للعملاق الأب متى المسكين ، فى كتابه عن "الصليب المقدس"
5 ـ النيروز رأس السنة القبطية ـ للأب متى المسكين