Friday, 11 February 2011

لماذا يا أتروبياس؟




أتروبياس ... لماذا يا أتروبياس ؟؟!
للقديس يوحنا ذهبى الفم

اليوم الحادى عشر من فبراير لسنة 2011 م الموافق الرابع من الشهر المُقدس أمشير عام 1727 للشهداء ، و فى تمام الساعة السادسة مساءاً ، أُعلن عن تنحى الرئيس مبارك عن حكم بلدنا عزيز مصر ، و بذلك سقط نظام الفساد البائد الذى طالما أذل البلاد و قهر شعبها و حط من قدرها... و بعد الصدمة ، التى كانت متوقعة ، و بعد الفرحة المنتظرة ، و التأمل فيما آلت له حال الأرض المقدسة التى باركها إلهى ، بدأ يرن فى ذهنى اسم "أتروبياس.. أتروبياس"
 ..آها ، لقد قرأت عن أرتوبياس هذا ليلة سقوط النظام. ...

فـمـن هـو أتـروبــيـاس؟؟؟
وُلد أتروبياس كعبد فى حكم الميزوبتيميا (دولة العراق القديمة) ، إشتراه أرينيثوس الذى كان يقوم بعمل عسكرى هام ، و قدمه هديه لإبنته عند زواجها ، التى أطلقت سراحه ، ذهب العبد إلى القسطنطينية حيث صار فى عوز شديد ، فرثى لحاله أحد الموظفين فى البلاط و هيّأ له عملاً بسيطاً بين حجاب الإمبراطور .. و من هنا بدأ نجمه يتألق و مركزه يرتفع إذ بإجتهاده فى إعماله البسيطة و لباقة حديثه و سرعة خاطرة جذب أنظار الإمبراطور ثيؤدوسيوس الكبير (378 – 395 ) فوثق به و أوكل إليه القيام بمهام خطيرة و حساسة ، و بعد موت ثيؤدوسيوس ، كان أتروبياس له القدرة على أن يقوم بمهام رئيس الحجاب و المشير الخاص و المساعد الدائم للإمبراطور أركاديوس ، حيث استطاع أن يقضى على روفينوس ، منافسه فى البلاط الإمبراطورى ، إستغل أتروبياس مركزه إستغلالاً سيئاً إذ ألغى حق الكنيسة فى اللجوء إليها و ذلك حتى يقطع آخر رجاء لضحاياه فى الهروب ، و قد كانت رسامة القديس يوحنا ذهبى الفم عام 397 م بناءاً على نصيحته لأركاديوس ... و قد تظاهر بمساعدته لأعمال الكنيسة التبشيرية و لكن هذا لم يثن ذهبى الفم عن أن يتكلم بوضوح و طلاقة عن شرور الغنى و رذائل الكثير من الأغنياء الجشعين موبخاً الذى ينطبق عليه هذا الكلام ، و أن رذائله بدأت تنكشف مما وتر العاقة بينه و بين ذهبى الفم .

و بعد ثوره الضابط "تريبيجيلد" و بعدما تخلى مناصرى أتروبياس عن تأييده ، أخيراً أُستبعد و صودرت ممتلكاته و طلب الجند إعدامه ، و لم يكن لهذا التعيس البائس مكان ليلتجىء إليه سوى الكنيسة التى حرمها من حق الإلتجاء إليها فى مثل هذه الحالات ، فلجأ إلى الكاتدرائية التى بالقرب من القصر و ذهب إلى المذبح و تعلق بالعامود ، و لما رآه ذهبى الفم ، إحتضنه و خبأه فى غرفة الأشياء المقدسة و ملابس الكهنوت و إتصل الإمبراطور ليقعنه هو و الجنود بالعفو عنه .

و فى اليوم التالى ـ يوم الأحد ـ كانت الكاتدرائية قد اكتظت بالجماهير لتسمع ذهبى الفم متحدثاُ عن حب الكنيسة للناس حتى لأتروبياس الذى عادى الكنيسة و سن قانون يمنعها من حماية أى إنسان ..و هذا ما قاله ذو الفم الذهب فى عظته[1] ، و نحن نترك لقارئنا العزيز ذو العقل الفَطِن ، استقراء ما ينطبق على حالتنا فى الوقت الحاضر:


لمـاذا يا أتـروبـياس؟؟
["بَاطِلُ الأَبَاطِيلِ، الْكُلُّ بَاطِلٌ" ( جا 1 : 2)
يليق بنا دوماً أن ننطق بهذه العبارة و بالأخص فيما يخص الحياة الزمنية.
أين هى الأمور الباهرة التى كانت تحيط بك كوالٍ؟!
أين ذهبت المشاعل المتألقة؟!
أين هى الرقصات و أصوات أقدام الراقصين و الموائد و الولائم ؟!
أين أكاليل الزهور و ستائر المسارح ؟!
أين كلمات المديح التى كانت تقدم لك فى المدينة ، و الهتافات التى تُسمع فى ملاعب الخيل و تملق الممثلين لك؟
هذا كله قد ذهب ... الكل قد ذهب ، لقد هبت الرياح على الشجرة فسقطت أوراقها ، و إهتزت من جذرها ذاته ، إذ هكذا كانت قوة العواصف حتى صدم كل صغير و كبير فيها ، و هدد بإقتلاعها من جذورها!!
أين ذهب الآن أصدقاؤك المراؤون؟!
أين موائد الشرب و ولائم العشاء التى كنت تقيمها ؟!
أين حشود المتطفلين و الخمور التى تقدمها طول اليوم و الأطعمة المتنوعة ؟!
أين ذهب أولئك الذين كانوا يخضعون لسطوتك الذين ما كانوا يصنعون شيئاً أو ينطقون إلا لينالوا رضال ؟
لقد صار جميعهم أشبه بخيالات الليل ، و أحلام تبددت ببزوغ النهار ، لقد كانوا أزهار ربيعية ذبلت بإنتهاء الربيع ، كانوا ظلاً و قد عبر ، كانوا دخاناً و تبدد ، كانوا فقاعات و إنفجرت ، كانوا نسيج عنكبوت و تهرَّأ إرباً !!

فلنـُغن دوماً بتلك الأغنية الروحية "بَاطِلُ الأَبَاطِيلِ، الْكُلُّ بَاطِلٌ" و لنكتبها على حوائطنا و على ثيابنا ، فى السوق و البيت و الشوارع ، على الأبواب و المداخل ، و فوق هذا كله فليكتبها كل منا على ضميره ، و لتكون موضع تأمل دائم.

هذه الأشياء بقدر ما هى خادعة و غاشة ، إلا أنها تبدو بالنسبة لكثيرين أنها حقائق ، لذلك يلزم لكل إنسان يوماً ، فى العشاء و فى الإفطار و فى كل الظروف يقول كل لصاحبه و يستمع من قريبه هذا القول المتكرر "بَاطِلُ الأَبَاطِيلِ، الْكُلُّ بَاطِلٌ"

أما كنت أُخبرك دوماً أن الثروة[2] ليست إلا عابر طريق؟ لكنك لم تكن تريد الإستماع إلىَّ ، أما كنت أقول لك أن الثروة هى عبد ناكر للجميل ؟ لكنك لم ترد أن تصغى إلىَّ ، تأمل كيف تؤكد الخبرة اليومية أن الثورة ليست إلا عابر طريق و عبد حاجد بل و مجرم ، إذ تجعلك فى حالة خوف و رعب .

+ + +
عندما كنت تنتهرنى لكى لا أقول الحق  أما كنت أقول لك " إنى احبك أكثر من هؤلاء الذين يتملقونك ؟ إننى فى إنتهارى لك أهتم بك أكثر من كل الذين يقدمون لك الإحترام ، ألم أكن أقول لك أيضاً "أَمِينَةٌ هِيَ جُرُوحُ الْمُحِبِّ، وَغَاشَّةٌ هِيَ قُبْلاَتُ الْعَدُوِّ" ( أم 27 :6) لو أنك أذعنت لجراحاتى ما كان يمكن لقبلاتهم أن تؤدى بك إلى هذا الهلاك ، لأن جراحاتى تعمل على شفائك ، أما قبلاتهم فتدفع بك إلى مرض يستعصى شفائه .!!!

أين ذهب حاملوا الكؤوس لك ؟ أين هم الذين كانوا يهيئون الطريق قدامك فى السوق و يصوتون بالهتافات غير المحصية فى آذان الكل ؟! .. لقد هربوا ، نبذوا صداقتك و وجدوا سلامهم فى حلول الكارثة بك .
أما أنا فما أصنع ما صنعوه ، بلى ، أننى لن أتركك فى كارثتك ، لن أتركك الآن ، و أنت ساقط أحميك و أتحنن عليك .
و إننى لا أنطق بهذا لكى أقلق نفسك و أنت مطروح على الأرض ، إنما أرغب فى أن أولئك الذين لازالوا قائمين أن يكونوا أكثر أماناً ، لا عن طريق حروج إنسان مجروح ، ، إنما بالحرى لكى أحفظ الذين لم يجرحوا فى صحة كاملة ، لا بإغراق إنسان تصدمه الأمواج بل بتعلم أولئك الذين يبحرون فى جو هادىء حتى لا يهلكوا .
و كيف يتم هذا ؟ بتأملهم فى التغيير الذى يصيب الشئون البشرية ، لأنه ذاك (أتروبياس) الذى وقف مرتعباً من التغيير الذى حدث له ، لم يكن له خبرة قبل ذلك و لم يفلح لا عن طريق ضميره كما لم يأخذ بمشورات الآخرين ، و أنتم يا من تفتخرون بغناكم أما تستفيدون بما حدث (لأتروبياس) إذ لا شىء أوهن من الشئون البشرية ؟!
إننى أعجز على أن أُعبِّر بدقة عن مدى تفاهة الشئون البشرية ، فإن دعوناها دخاناً أو عشباً أو حلماً أو أزهاراً ربيعية ، أو أى لقب آخر ، فإنه هكذا هى أمور هالكة بل و أقل من العدم .
بل و بالإضافة إلى كونها عدم فإن لها عنصر خطير جداً و تؤكده ، لأنه أى إنسان كان أكثر عظمة من هذا الرجل[3] ، ألم يفوق العالم كله فى الغنى ؟!! ألم يتسلق إلى برج الرفعة ذاته ؟! ألم يكن الكل يخافه و يرتعب منه ؟!
آه ، و لكنه مع ذلك ألم يصر أكثر بؤساً من السجين ؟! و يرثى له أكثر من العبد الدنىء ؟! و أكثر إعساراً من الفقير المتضور جوعاً [4]؟! .. و هو مع هذا إن كان قد سبق و فرح و لو مرة واحدة فى الماضى ، بل و لا يشعر حتى بأشعة الشمس إنما فى وسط النهار يكون نظره معتماً كما لو أن ظلاماً دامساً قد إكتنفه ، و إننى حاولت قدر المستطاع – رغم عكس اللغة البشرية – بأن أُعبَّر عن الآلام التى يخضع لها طبيعياً إذ يتوقع الموت كل ساعة !!
إننى أنطق بهذه الأمور ، لا لتوبيخه أو لكى نشمت بمصيبته ، إنما لأجل تلطيف أذهانكم من جهته !!! ]
+ + +

و ماذا بعد ؟؟!
هذه مجرد مقتطفات من العظة الأولى للقديس يوحنا ذهبى الفم على الغنى ، صاحب السلطة الفاسد أتروبياس ، و قد رأيت فيها الكلام الذى يجب أن يلتزم به أى إنسان مسيحى تجاه الذى حدث فى بلادنا من سقوط نظام غنى فاسد آخر ، استوحش و استفحل فى الظلم و التبجح .
 قد رأيت فى شخصية أتروبياس ، رمز لكل أحد استخدم سطوته و مركزه و غناه فى إضرار هذا البلد ، لكل من كان يظن نفسه خالداً فى الحكم ، مؤبداً ، قابعاً على رأس المجتمع المظلوم المغلوب على أمره ، و لا يخطر على باله معنى"العدل"!!! ...

رأيت فى سقوط أتروبياس من قمة النظام الرومانى ليصير أسوأ حالاً من المساجين المساكين ، نفس السيناريو الذى يتكرر مع كل مستبد على مر التايخ من الثقة فى مغريات العالم و الإعتداد بالنفس و عدم الإصغاء لصوت الحكمة.
رأيت أنها منهج يجب أن يسير عليه كل حاكم مرتقب لبلادنا ، مدركاً بصورة مستمرة أن الكل .. باطل!!

أخى القارىء .. قد تختلف معى فى صحة إختيارى لهذه العظة لأنشرها فى مثل هذا الظرف الذى نمر به ، لكنك حتماً لا تختلف معى عندما أقول لك .. "عاشت بلادنا مصر .. إلى الأبـــد" !


Marc
11/2/2011
يوم أن ترك الفساد سدة الحكم فى بلدى، و هرب .
يوم انتصار ثورة اللوتس المصرية . يوم تنحى من كان يوصف بالمبارك .


1 ـ عن كتاب "الكنيسة تحبك " للقديس يوحنا ذهبى الفم ، إصدار كنيسة الشهيد العظيم مارجرجس باسبورتنج  
2 ـ و السلطة أيضاً  
3 ـ أتروبياس أو مبارك ، أيهما سواء
4 ـ طبعاً هذا الكلام لا ينطبق على مبارك ، الذى سيقضى بقية حياته مستمتعاً بثروته الضخمة.