أتروبياس ... لماذا يا أتروبياس ؟؟!
للقديس يوحنا ذهبى الفم
اليوم الحادى عشر من فبراير لسنة 2011 م
الموافق الرابع من الشهر المُقدس أمشير عام 1727 للشهداء ، و فى تمام الساعة
السادسة مساءاً ، أُعلن عن تنحى الرئيس مبارك عن حكم بلدنا عزيز مصر ، و بذلك سقط نظام
الفساد البائد الذى طالما أذل البلاد و قهر شعبها و حط من قدرها... و بعد الصدمة ،
التى كانت متوقعة ، و بعد الفرحة المنتظرة ، و التأمل فيما آلت له حال الأرض
المقدسة التى باركها إلهى ، بدأ يرن فى ذهنى اسم "أتروبياس.. أتروبياس"
..آها ، لقد قرأت عن أرتوبياس هذا ليلة سقوط
النظام. ...
فـمـن هـو أتـروبــيـاس؟؟؟
وُلد أتروبياس كعبد فى حكم الميزوبتيميا
(دولة العراق القديمة) ، إشتراه أرينيثوس الذى كان يقوم بعمل عسكرى هام ، و قدمه
هديه لإبنته عند زواجها ، التى أطلقت سراحه ، ذهب العبد إلى القسطنطينية حيث صار
فى عوز شديد ، فرثى لحاله أحد الموظفين فى البلاط و هيّأ له عملاً بسيطاً بين حجاب
الإمبراطور .. و من هنا بدأ نجمه يتألق و مركزه يرتفع إذ بإجتهاده فى إعماله
البسيطة و لباقة حديثه و سرعة خاطرة جذب أنظار الإمبراطور ثيؤدوسيوس الكبير (378 –
395 ) فوثق به و أوكل إليه القيام بمهام خطيرة و حساسة ، و بعد موت ثيؤدوسيوس ،
كان أتروبياس له القدرة على أن يقوم بمهام رئيس الحجاب و المشير الخاص و المساعد
الدائم للإمبراطور أركاديوس ، حيث استطاع أن يقضى على روفينوس ، منافسه فى البلاط
الإمبراطورى ، إستغل أتروبياس مركزه إستغلالاً سيئاً إذ ألغى حق الكنيسة فى اللجوء
إليها و ذلك حتى يقطع آخر رجاء لضحاياه فى الهروب ، و قد كانت رسامة القديس يوحنا
ذهبى الفم عام 397 م بناءاً على نصيحته لأركاديوس ... و قد تظاهر بمساعدته لأعمال
الكنيسة التبشيرية و لكن هذا لم يثن ذهبى الفم عن أن يتكلم بوضوح و طلاقة عن شرور
الغنى و رذائل الكثير من الأغنياء الجشعين موبخاً الذى ينطبق عليه هذا الكلام ، و
أن رذائله بدأت تنكشف مما وتر العاقة بينه و بين ذهبى الفم .
و بعد ثوره الضابط "تريبيجيلد" و
بعدما تخلى مناصرى أتروبياس عن تأييده ، أخيراً أُستبعد و صودرت ممتلكاته و طلب
الجند إعدامه ، و لم يكن لهذا التعيس البائس مكان ليلتجىء إليه سوى الكنيسة التى
حرمها من حق الإلتجاء إليها فى مثل هذه الحالات ، فلجأ إلى الكاتدرائية التى
بالقرب من القصر و ذهب إلى المذبح و تعلق بالعامود ، و لما رآه ذهبى الفم ، إحتضنه
و خبأه فى غرفة الأشياء المقدسة و ملابس الكهنوت و إتصل الإمبراطور ليقعنه هو و
الجنود بالعفو عنه .
و فى اليوم التالى ـ يوم الأحد ـ كانت
الكاتدرائية قد اكتظت بالجماهير لتسمع ذهبى الفم متحدثاُ عن حب الكنيسة للناس حتى
لأتروبياس الذى عادى الكنيسة و سن قانون يمنعها من حماية أى إنسان ..و هذا ما قاله
ذو الفم الذهب فى عظته[1] ، و
نحن نترك لقارئنا العزيز ذو العقل الفَطِن ، استقراء ما ينطبق على حالتنا فى الوقت
الحاضر:
لمـاذا يا أتـروبـياس؟؟
["بَاطِلُ الأَبَاطِيلِ، الْكُلُّ
بَاطِلٌ" ( جا 1 : 2)
يليق
بنا دوماً أن ننطق بهذه العبارة و بالأخص فيما يخص الحياة الزمنية.
أين
هى الأمور الباهرة التى كانت تحيط بك كوالٍ؟!
أين
ذهبت المشاعل المتألقة؟!
أين
هى الرقصات و أصوات أقدام الراقصين و الموائد و الولائم ؟!
أين
أكاليل الزهور و ستائر المسارح ؟!
أين
كلمات المديح التى كانت تقدم لك فى المدينة ، و الهتافات التى تُسمع فى ملاعب
الخيل و تملق الممثلين لك؟
هذا
كله قد ذهب ... الكل قد ذهب ، لقد هبت الرياح على الشجرة فسقطت أوراقها ، و إهتزت
من جذرها ذاته ، إذ هكذا كانت قوة العواصف حتى صدم كل صغير و كبير فيها ، و هدد
بإقتلاعها من جذورها!!
أين
ذهب الآن أصدقاؤك المراؤون؟!
أين
موائد الشرب و ولائم العشاء التى كنت تقيمها ؟!
أين
حشود المتطفلين و الخمور التى تقدمها طول اليوم و الأطعمة المتنوعة ؟!
أين
ذهب أولئك الذين كانوا يخضعون لسطوتك الذين ما كانوا يصنعون شيئاً أو ينطقون إلا
لينالوا رضال ؟
لقد
صار جميعهم أشبه بخيالات الليل ، و أحلام تبددت ببزوغ النهار ، لقد كانوا أزهار
ربيعية ذبلت بإنتهاء الربيع ، كانوا ظلاً و قد عبر ، كانوا دخاناً و تبدد ، كانوا
فقاعات و إنفجرت ، كانوا نسيج عنكبوت و تهرَّأ إرباً !!
فلنـُغن
دوماً بتلك الأغنية الروحية "بَاطِلُ
الأَبَاطِيلِ، الْكُلُّ بَاطِلٌ" و لنكتبها على حوائطنا و على ثيابنا ، فى السوق و البيت
و الشوارع ، على الأبواب و المداخل ، و فوق هذا كله فليكتبها كل منا على ضميره ، و
لتكون موضع تأمل دائم.
هذه
الأشياء بقدر ما هى خادعة و غاشة ، إلا أنها تبدو بالنسبة لكثيرين أنها حقائق ،
لذلك يلزم لكل إنسان يوماً ، فى العشاء و فى الإفطار و فى كل الظروف يقول كل
لصاحبه و يستمع من قريبه هذا القول المتكرر "بَاطِلُ
الأَبَاطِيلِ، الْكُلُّ بَاطِلٌ"
أما
كنت أُخبرك دوماً أن الثروة[2]
ليست إلا عابر طريق؟ لكنك لم تكن تريد الإستماع إلىَّ ، أما كنت أقول لك أن الثروة
هى عبد ناكر للجميل ؟ لكنك لم ترد أن تصغى إلىَّ ، تأمل كيف تؤكد الخبرة اليومية
أن الثورة ليست إلا عابر طريق و عبد حاجد بل و مجرم ، إذ تجعلك فى حالة خوف و رعب
.
+ + +
عندما
كنت تنتهرنى لكى لا أقول الحق أما كنت
أقول لك " إنى احبك أكثر من هؤلاء الذين يتملقونك ؟ إننى فى إنتهارى لك أهتم
بك أكثر من كل الذين يقدمون لك الإحترام ، ألم أكن أقول لك أيضاً "أَمِينَةٌ
هِيَ جُرُوحُ الْمُحِبِّ، وَغَاشَّةٌ هِيَ قُبْلاَتُ الْعَدُوِّ" ( أم 27 :6) لو أنك أذعنت لجراحاتى ما كان يمكن
لقبلاتهم أن تؤدى بك إلى هذا الهلاك ، لأن جراحاتى تعمل على شفائك ، أما قبلاتهم
فتدفع بك إلى مرض يستعصى شفائه .!!!
أين
ذهب حاملوا الكؤوس لك ؟ أين هم الذين كانوا يهيئون الطريق قدامك فى السوق و يصوتون
بالهتافات غير المحصية فى آذان الكل ؟! .. لقد هربوا ، نبذوا صداقتك و وجدوا
سلامهم فى حلول الكارثة بك .
أما
أنا فما أصنع ما صنعوه ، بلى ، أننى لن أتركك فى كارثتك ، لن أتركك الآن ، و أنت
ساقط أحميك و أتحنن عليك .
و
إننى لا أنطق بهذا لكى أقلق نفسك و أنت مطروح على الأرض ، إنما أرغب فى أن أولئك
الذين لازالوا قائمين أن يكونوا أكثر أماناً ، لا عن طريق حروج إنسان مجروح ، ،
إنما بالحرى لكى أحفظ الذين لم يجرحوا فى صحة كاملة ، لا بإغراق إنسان تصدمه
الأمواج بل بتعلم أولئك الذين يبحرون فى جو هادىء حتى لا يهلكوا .
و
كيف يتم هذا ؟ بتأملهم فى التغيير الذى يصيب الشئون البشرية ، لأنه ذاك (أتروبياس)
الذى وقف مرتعباً من التغيير الذى حدث له ، لم يكن له خبرة قبل ذلك و لم يفلح لا
عن طريق ضميره كما لم يأخذ بمشورات الآخرين ، و أنتم يا من تفتخرون بغناكم أما
تستفيدون بما حدث (لأتروبياس) إذ لا شىء أوهن من الشئون البشرية ؟!
إننى
أعجز على أن أُعبِّر بدقة عن مدى تفاهة الشئون البشرية ، فإن دعوناها دخاناً أو
عشباً أو حلماً أو أزهاراً ربيعية ، أو أى لقب آخر ، فإنه هكذا هى أمور هالكة بل و
أقل من العدم .
بل و
بالإضافة إلى كونها عدم فإن لها عنصر خطير جداً و تؤكده ، لأنه أى إنسان كان أكثر
عظمة من هذا الرجل[3]
، ألم يفوق العالم كله فى الغنى ؟!! ألم يتسلق إلى برج الرفعة ذاته ؟! ألم يكن
الكل يخافه و يرتعب منه ؟!
آه ،
و لكنه مع ذلك ألم يصر أكثر بؤساً من السجين ؟! و يرثى له أكثر من العبد الدنىء ؟!
و أكثر إعساراً من الفقير المتضور جوعاً [4]؟!
.. و هو مع هذا إن كان قد سبق و فرح و لو مرة واحدة فى الماضى ، بل و لا يشعر حتى
بأشعة الشمس إنما فى وسط النهار يكون نظره معتماً كما لو أن ظلاماً دامساً قد
إكتنفه ، و إننى حاولت قدر المستطاع – رغم عكس اللغة البشرية – بأن أُعبَّر عن
الآلام التى يخضع لها طبيعياً إذ يتوقع الموت كل ساعة !!
إننى
أنطق بهذه الأمور ، لا لتوبيخه أو لكى نشمت بمصيبته ، إنما لأجل تلطيف أذهانكم من
جهته !!! ]
+ +
+
و
ماذا بعد ؟؟!
هذه
مجرد مقتطفات من العظة الأولى للقديس يوحنا ذهبى الفم على الغنى ، صاحب السلطة
الفاسد أتروبياس ، و قد رأيت فيها الكلام الذى يجب أن يلتزم به أى إنسان مسيحى
تجاه الذى حدث فى بلادنا من سقوط نظام غنى فاسد آخر ، استوحش و استفحل فى الظلم و
التبجح .
قد رأيت فى شخصية أتروبياس ، رمز لكل أحد استخدم
سطوته و مركزه و غناه فى إضرار هذا البلد ، لكل من كان يظن نفسه خالداً فى الحكم ،
مؤبداً ، قابعاً على رأس المجتمع المظلوم المغلوب على أمره ، و لا يخطر على باله معنى"العدل"!!!
...
رأيت
فى سقوط أتروبياس من قمة النظام الرومانى ليصير أسوأ حالاً من المساجين المساكين ،
نفس السيناريو الذى يتكرر مع كل مستبد على مر التايخ من الثقة فى مغريات العالم و
الإعتداد بالنفس و عدم الإصغاء لصوت الحكمة.
رأيت
أنها منهج يجب أن يسير عليه كل حاكم مرتقب لبلادنا ، مدركاً بصورة مستمرة أن الكل
.. باطل!!
أخى
القارىء .. قد تختلف معى فى صحة إختيارى لهذه العظة لأنشرها فى مثل هذا الظرف الذى
نمر به ، لكنك حتماً لا تختلف معى عندما أقول لك .. "عاشت بلادنا مصر .. إلى
الأبـــد" !
Marc
11/2/2011
يوم
أن ترك الفساد سدة الحكم فى بلدى، و هرب .
يوم انتصار ثورة اللوتس المصرية . يوم تنحى من كان يوصف بالمبارك .
يوم انتصار ثورة اللوتس المصرية . يوم تنحى من كان يوصف بالمبارك .