رســالة عن الـشـهداء
للعلامة
أوريجانوس
فى ذكرى الأربعين
لشهداء الرب الأربعة و العشرين فى كنيسة القديسيِّن ماربطرس و مامرقس بالأسكندرية
، يضع الروح أمامنا هذه الكلمات التى أرسلها العلامة أوريجانوس [1]لصديقه و
كافله امبروسيوس سنة 235 على إثر طرحه فى السجن هو و عدد كبير من المؤمنين أثناء
الاضطهاد الذى أثاره الامبراطور مكسيمين تراكس :
[[[ صديقى أمبروسيوس
.. فى المستقبل القريب سوف يصعد إلى هذه الأمجاد واحد من الشهداء البارزين ، أحد
الذين إلتهبت قلوبهم بالحماس و الرغبة فى معرفة الملك المسيح ، و من يدرى؟ فقد
يسبق غيره من الشهداء .. على أى حال يمكن أن تحكم فى هذا الأمر بنفسك خصوصاً إذا
تأملت أحد نصوص الإنجيل الذى لم يحظ ببركاته أحد من الأحياء أو ربما استطاعت قلة
من القديسين أن تنال ذلك التطويب فى ملىء بهائه و مجده .. ثق أنك أيضاً سوف تنضم
إلى هذه الزمرة المباركة إذا خضت التجربة فى ثبات دون ضعف أو خور ، يقول النص أن
القديس ببطرس قال للرب فى أحد المناسبات :«هَا نَحْنُ قَدْ تَرَكْنَا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعْنَاكَ.
فَمَاذَا يَكُونُ لَنَا؟» فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: ـ و من الواضح أنه كان يوجه
حديثه للرسل جميعاً ـ «الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الَّذِينَ
تَبِعْتُمُونِي، فِي التَّجْدِيدِ، مَتَى جَلَسَ ابْنُ الإِنْسَانِ عَلَى
كُرْسِيِّ مَجْدِهِ، تَجْلِسُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ
كُرْسِيًّا تَدِينُونَ أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ الاثْنَيْ عَشَرَ. وَكُلُّ مَنْ تَرَكَ
بُيُوتًا أَوْ إِخْوَةً أَوْ أَخَوَاتٍ أَوْ أَبًا أَوْ أُمًّا أَوِ امْرَأَةً
أَوْ أَوْلاَدًا أَوْ حُقُولاً مِنْ أَجْلِ اسْمِي، يَأْخُذُ مِئَةَ ضِعْفٍ
وَيَرِثُ الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ. وَلكِنْ كَثِيرُونَ أَوَّلُونَ يَكُونُونَ
آخِرِينَ، وَآخِرُونَ أَوَّلِينَ" (مت 19 : 27 ، 30)
عندما أتأمل هذا
النص أتمنى أن أمتلك من أمور هذا العالم و متاعه ما تملكه أنت أو أكثر و بعد ذلك
أتقدم لأكون شهيد الله فى المسيح لأن هذا يعنى إنى أنال أضعاف مضاعفة ، أو كما
يقول مارمرقس "وَيَأْخُذُ
مِئَةَ ضِعْفٍ الآنَ فِي هذَا الزَّمَانِ، بُيُوتًا وَإِخْوَةً وَأَخَوَاتٍ
وَأُمَّهَاتٍ وَأَوْلاَدًا وَحُقُولاً، مَعَ اضْطِهَادَاتٍ، وَفِي الدَّهْرِ
الآتِي الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ." (مر10 : 30 ) ، فما نأخذه فى الواقع يفوق ما
نعطيه بأكثر مما نتصور فإذا كان ما نقدمه فى الشهادة شىء عظيم فكم تكون العطية إذا
ما ضوعفت مائة مرة؟؟!!
و من أجل هذه
المكافأة أتمنى ـ لو كنت أنا شهيداً ـ أن أترك ورائى أطفالاً و حقولاً و بيوتاً ،
حتى يمكننى أن أكون أباً لأضعاف مضاعفة للأطفال القديسين ، أو إذا شئت مزيداً من
الدقة ، أباً لمائة ضعف من هؤلاء الأطفال ، و أتمتع بهذه الأبوة فى حضرة الله الآب
أبى ربنا يسوع المسيح الذى منه تسمى كل أبوة (أف 3 : 15) ، و قد يصير الشهيد نوعاً من الآباء الذين قيل
عنهم لإبراهيم "وَأَمَّا
أَنْتَ فَتَمْضِي إِلَى آبَائِكَ بِسَلاَمٍ وَتُدْفَنُ بِشَيْبَةٍ صَالِحَةٍ"
(تك 15 :15) ،
فقد يكون هناك من يقول أن هؤلاء الآباء يقصد بهم القديسون الذين حملوا الشهادة
يوماً ، و تركوا وراءهم أطفالاً و فى مقابل شهادتهم صاروا آباء للآباء ، مثل
إبراهيم أبى الآباء و غيرهم من الآباء البطاركة .. هكذا ترتفع كرامة الشهداء الذين
يتركون أطفالاً يصبحون آباء لا للاطفال ، بل للآباء عظام. !!
كثيرون يتطلعون
بإشتياق نحو العطايا الأفضل (1كو:12 :31 ) فيغبطون الشهداء الأبراياء و الشهداء
الذين نالوا مائة ضعف من البنين أو الحقول أو البيوت
و مع ذلك يعجز
العقل عن تقدير العدالة فى أن يمتلك هؤلاء الشعراء فى العالم الروحى ثروات تفوق
كثيراً ما يناله الشهداء الذين يفتقرون إلى أمور هذا العالم ؟ و لابد أن نطمئن
أصحاب هذا القلق فنقول أن هؤلاء الشهداء قد احتملوا ألواناً من العذاب و ضروباً من
الآلام و بذلك قدموا الدليل الساطع على فضيلتهم و قوة شهادتهم و هذا ما لعجز عن
تقديمه غيرهم ممن لم يعانوا هذه المحاكمات و التجارب .. و فى بطولة الشهداء لم
يكتفوا بقطع و تمزيق قيود الحب الذين تربطهم بالحياة و الجسد فحسب بل مزقوا و
حطموا كل القيود و الأغلال التى تشهد إلى العالم و أظهروا حبهم العظيم الرائع لله
و بالتالى أثبتوا بما لا يدع مجالاً للشك كيف تذوقوا بالحقيقة "كَلِمَةَ اللهِ حَيَّةٌ وَفَعَّالَةٌ وَأَمْضَى مِنْ كُلِّ
سَيْفٍ ذِي حَدَّيْنِ" (عب 4 :12)
و إذا فَصَموا أواصر
هذه الأغلال الرهيبة صنعوا لأنفسهم أجنحة كالنسور يستطيعون بها أن يطيروا إلى
سيدهم .
و كما أن الذين
لم يجوزوا تجارب الإستشهاد يعطون الكرامة و المجد للشهداء الذين أثبتوا و لاءهم و
ثباتهم عندما كانت تتمزق أجسادهم على المقطرة و يعانون ضروباً متباينة من العذاب و
النار .
هكذا نحن ايضاً
الفقراء لو حصلنا على المجد الشهادة فالعقل يدعونا أن نقدم الجائزة الأولى لكم
انتم الذين من أجل محبة الله التى فى المسيح (رو 8 : 39) دستم تحت أقدامكم بريق
الشهرة الخادعة التى يسعى إليها الناس و وطأتم فى إصرار لا على ثرواتكم و
ممكتلكاتكم فقط بل وطأتم كذلك على حنانكم الأبوى لأطفالكم[2] .
و أعتقد أنه لا
يفوتك هنا أن تلاحظ هذه السمة الرائعة من حيث الدقة التى يتميز بها الكتاب المقدس
، فعند الوعد بالمجازاة سواء بالأضعاف المضاعفة أو المائة ضعف من الإخوة و الأطفال
و الآباء و الحقول و البيوت ، نلاحظ أنه لم يشر إلى الزوجة ، فلم يقل[3] أنه يأخذ
أضعافاً مضاعفة من الزوجات و السبب فى ذلك أنه فى قيامة الأموات(مت 22 :30) (مر12
:25)
.. و إذا كما
نتبرر بالدم الثمين الذى ليسوع (رؤ5 :9) الذى أخذ اسماً فوق كل اسم و بهذه الدالة
يصبح لنا نصيب فى المجد و الكرامة فكم يكون هذا المجد و هذه الكرامة إذا لم يقتصر
موقفنا على مجرد التبرير بل أضفنا إلى ذلك دم الشهادة الغالى .. إن دم الإستشهاد
الذى يتيح للشعيد كرامة أعلى و مجد أعظم سوف يكون سبباً فى خلاص كثيرين و لهذا وصف
هذا الموت بأنه الإرتفاع و العلو "وَأَنَا إِنِ ارْتَفَعْتُ عَنِ الأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ
الْجَمِيعَ" (يو12: 32) و نحن بدورنا فى شهادتنا نمجد الله و نعلى اسمه و يؤيد الكتاب
المقدس هذه الفكرة و ليس أدل على ذلك مما جاء فى إنجيل معلمنا يوحنا عن استشهاد
القديس بطرس "قَالَ
هذَا مُشِيرًا إِلَى أَيَّةِ مِيتَةٍ كَانَ مُزْمِعًا أَنْ يُمَجِّدَ الله بِهَا"
(يو21: 19) ]]]
+ ++
حـــِداد ؟؟
تعجبت جداً من كل
أحد أعلن " الحداد" على شهداء المسيح فى كنيسة القديسين بالأسكندرية ،
أتعجب من كل من تعالت أصواتهم لكى تتشح كنيستنا بالسواد ، أتعجب لمن لم يشكر الله
على نعمة الشهادة لإسم الثالوث القدوس ، و ازداد عجبى عندما أدركت أن هذه الدعاوى صدرت
من أُناس يؤمنون بقيامة الأموات !!
صحيح أن هذا
الحادث قد أحزن الكثيرون ، و فطر قلب الكنيسة على أولادها ، بل طعن المسيح فى صميم
محبته التى يقدمها هو و أولاده لكل شخص مهما اضطهدهم و أظهر لهم العداء ..
نعم لقد جازت
الكنيسة كلها آلام الصليب الحزينة ، التى على ما يبدو إنها لم تشفى من حراجاته حتى
اليوم ، بل و ذاقت العلقم و الأفسنتين ، ،
لكن ..
أليس بعد الصليب قيامة؟؟
ألم يصلى المسيح
فى جثيمانى ، صلاة حزينة كئيبة ضاغطة على النفس ، و هيـِّأ قلبه لكى يتلقى من الآب
كأس الموت و الحزن ، و شربه إلى الثمالة؟ ألم يقف مفضوحاً أمام جميع الشعب كمجدف و ملعون
و هو الذى لم يعمل خطية و لا وجد فى فمه غش ،ألم يُجرّ إلى الصليب كنعجة تحت يد الذي يجزّها
ليتحمَّل الضربات القاسية كمَنْ يستحقها، لا يقول كفى ولا يستعفي من آلامها!!
ويُسحب إلى الصليب ويُصلب، وهو لا يفتح فاه إلاَّ بقوله قد أُكمل!!
لكن ـ و بعد كل
هذا ـ ماذا كانت النهاية ، أليست هى القيامة ؟
ألم يَقُم المسيح مخلصاُ الإنسان من عار و تخريب فعل الموت و خاضعاً هذا
العدو تحت قدميه ، هذا الموت الذى يقهرنا
الآن و يخدعنا قائلاً لنا " أنه لا يوجد رجاء"؟؟!!!
فماذا يكون معنى
الحِداد إذاً ؟؟.. أنحسب الرب غير قادر على أن يقيم شهدائنا من بين الأموات ؟!!
" و هكذا
تختفى أفراح و نصرة القيامة داخل أحزان و
آلام الصليب"[4]
يقول الأب متى
المسكين عن مكانة الشهداء فى الكنيسة :
".. دُعى
بذلك شهيداً كل من قبل الموت من أجل اسم المسيح بإعتبار أنه قد دخل حتماً فى رؤيا
فعليه لوجه الحبيب ، و دخلت بذلك الشهادة للمسيح بالموت فى درجة التكريم الفائقة
جنباً إلى جنب مع درجة الرسولية ، فالشهيد يذكر فى الطقس الكنسى بعد الرسل مباشرة
و قبل أعاظم القديسين حتى و إن كانت حياته قبل شهادته فى درجة الموعوظين ،لأن
المعمودية أُعتبر كصبغة شركة فى موت المسيح"[5]
+++
بل و الأكثر من
هذا ، نجد فى رسالة إلى كنيسة الله التى فى سيميرنا و كنيسة فيلوميليوم عن استشهاد
القديس برليكاربوس أسقف سميرنا حرقاً بالنار عام 156م ـ هذه الرسالة المعتبرة من
أهم "أعمال الشهداء" ـ نجد تلميحاً على التأكيد بأن الإستشهاد لإقتداءاً
بالمسيح و هذا الإقتداء يكمن فى مشابهة آلامه و موته ، و تعلن لنا بصورة واضحة عن
تكريم الكنيسة الأولى لشهدائها:
[ثم بعد ذلك
أخذنا رفاته الأثمن من الحجارة الكريمة و الأكثر قيمة من الذهب و دفناها فىمكان
لائق ، هناك سوف يسمح لنا الرب على قدر ما يمكننا ـ أن نجتمع معاً فى فرح و تهليل
و نحتفل باستشهاده الذى هو يوم ميلاده]
نعم فرح و إحتفال
و تكريم و سرور ، كلها تنبع من قيامة الرب ذاتها !!
[ إننا نعبده
"أى المسيح" باعتباره ابن الله ، و الشهداء نحبهم باعتبارهم تلاميذ و مقتدين
بالرب حقاً بسبب حبهم غير الموصوف لملكهم و معلمهم]
بل أن صلاة
القديس بوليكاربوس تكشف لنا عن مدى الفرح الذى يكون فيه الإنسان المزمع أن يقدم
جسده ذبيحة للرب ، فيقول هذا الأب القديس:
"إيها الرب
الإله القادر على كل شىء ، أبو يسوع المسيح ابنك الحبيب المبارك..
الذى بواستطه قد
نلنا المعرفة الكاملة عنك ، يا إله
الملائكة و القوات و كل خليقة
أُباركك...
لأنك رأيت أنه من
اللائق أن تسكب علىَّ فى هذا اليوم و هذه الساعة
أن أشاركك مع هذا
العدد من الشهداء فى كأس مسيحك ،
و أن أنهض غلى
الحياة الأبدية بالنفس و الجسد كليهما،
بمقتضى أزلية
الروح القدس.
يا ليتنى أكون
اليوم مقبولاً بينهم على مرأى منك ،
كذبيحه ذكية
مرضية ،
تماماً كما أنك
أيها الإله الحقيقة ، الذى لا يمكن أن تنطق بالباطل ، قد سبق و أعددت و أعلنت
مسبقاً و أوفيت.
لذلك فإنى أسبحك
على كل شىء ، أباركك ، أُمجدك ،
بواسطة رئيس الكهنة
السماوى الأبدى ، يسوع المسيح ابنك الحبيب
الذى بواطته نقدم
لك المجد معه و مع الروح القدس
الآن و كل
الأجيال الآتية ... آمـــين]
[ ما أمجد أن
يكون المرء شمساً تغرب فى العالم لتشرق عند الله ..أنا حنطة الله ولا بد أن أطحن
بأسنان الحيوانات المفترسة حتى أصير خبزاً طاهراً للمسيح]
القديس
أغناطيوس الأنطاكى.
هذه رسالة إلى كل
من يظل حزيناً ، حابساً نفسه فى دائرة الحدِاد و الكآبة .. لكل من لم يرى فى
المسيح غير الصليب ، و لكل من لم يتطلع بعد إلى نصرة القيامة..
يا إلـهى .. هل
وضع الروح القدس هذه الكلمات أمامنا للتعزية فقط .. أم للفرح أيضاً ؟!!
1 ـ تًعد هذه الرسلة وثيقة من أصدق الوثائق و
أكثرها إثارة للمشاعر خصوصاً أن اوريجانوس لم يكن لديه الزقت أو الإستعداد الذى
يمكنه القيام بعمل ما ، إلا أن يؤلف على عجل الخواطر الرسالة التى تعين صديقه فى
وقت المحنة و الإضطهاد .
ترجم
هذه الرسالة القس / موسى وهبة مينا ، ملاك كنيسة الشهيد العظيم مارجرجس بخمارويه و
صدرت الطبعة الأولى منه فى أغسطس 1971 م أى قبيل الإحتفال بعيد النيروز عام1687
للشهداء