Thursday 21 July 2011

على شاطىء الأبدية





على شـاطىء الأبـدية !


[ ما هى الحياة فينا ؟ .. إنها الإندفاع نحو اللامحدود ... إنها تلهف على اللاموصول إليه !!! ]
الأب موريس زونديل



عندما تستكشف حياتك و تتلاقى مع ذاتك ، عندما تتلامس مع الجوهر العميق الذى يقع فى ذلك الجزء الداخلى من كيانك ... عندما تدرك جذرك ، هدفك ، هويتك ... تعبر ذلك الجسر لتواجه الحقيقة التى كانت غائبة عنك و هى حاضرة دائماً فى داخلك !!
عندما يُعلَن لك ... هنا تكون نهاية الإختبار !!!

أما البدء فهو عنيف ، قادر أن يزلزل أركان النفس الإنسانية بكل جوانبها ! ، فعندما تتعرض للتشوه و التشوش على مدار ثلاث أشهر من حياتك [1]، لم تقرأ فيهم كتاباً واحداً ، لم تتأمل فكرة إلهية رقيقة تهون عليك ضيق الحياة ، عندما يتم حصرك و قهر إرادتك و إدخالك عنوة فى دوائر الأرض .. حيث الموت و و إنعدام الخلاص ! عندئذ ستشعر إنك فقدت هدفك و معنى حياتك .. إنه الجحيم بعينه !

و لكن هنا ... على صفحة النيل ، تغسل كل همومك ، أوجاعك ، شكوكك و مخاوفك ...
النيل بعمقه و إتساعه ، هدوءه و حركته البطيئة الواثقة ، نقاءه و زرقته الأروع من زرقة السماء ، عندما نظرت إليه لم استطع مقاومة فكرة " الأبدية" !
أما الطريق إليه فقد صار بالنسبة لى كطريق العبور كما صُّور فى الميثولوجيا الزردشتية ، أرفع من الشعرة و أحد من السيف ، يفصل بين عالمين ، أو قل بُعدين ، عالم الحقيقة حيث الملىء و التأمل و الصفاء و السعادة حيث كل الأشياء تبدو رائعة ، و عالم خانق مزدحم صاخب ضاغط على النفس ...حيث الهاوية نفسها !
هناك صرخت و دوَّت صرختى فى السماء و الأرض جميعاً ، صرخ مكبوتة مبحوحة ما سمعتها الخلائق و ما شعرت بأناتها ، و ما عرفت مقدرا الألم التى تنبع منه !
من أنا ؟ ما كينونتى ؟ ما هى تلك الحقيقة التى أشعر بوجودها و لا أستطيع إدراكها أو استيعابها ؟ ، ذلك السر الذى من أجله أرفع عينى إلى السماء و أتنهد إلى الله طالباً الإعلان ، أليس هو ينبوع و مصدر إنسانيتى ؟ أفلا يخرج الإله عن صمته ؟
لكن فى تلك اللحظة التى تتساوى فيها حياة الإنسان و موته ، تعاَدُل السعادة و الشقاء ، الصلاح و الفساد ، الفرح و الحزن ، و كأنه كم مهمل أو كلاشىء البتة ، هنا فقط يحدث العبور و يُنال الكشف !
تتوالى الإعلانات...  عمق الإختبار.. قوة الوصول .. امتلاك الملىء ، اكتشاف الهوية ، و كأن الأبدية أصبحت كالكتاب المفتوح على صفحة النيل ، و ها قد أدركت قبساً من الحقيقة !


الحقيقة الأولى و الإستعلان  الأول : الأبدية هى هويتى !

أول خطوة نحو معرفة الحقيقة هى أدراك أنك تستطيع إمتلاكها و إكتسابها ، فإذا كانت الحقيقة عميقة و متسعة فيجب أن تدرك أنك تمتلك هذا العمق و الإتساع ذاته .. إنك تمتلك الأبدية !

تُدرِك الأبدية ـ فى أجلى صورها ـ عندما تتلامس مع ذلك الجزء العميق فى داخلك ، الذى يقع فى خبايا نفسك الجوانية ... تراه من بعيد .. و تنظر إلهي ، تقترب ... لكنك لا تستطيع الدخول ، و كأنه قدس الأقداس !
نعم ... بل و أعظم من قدس الأقداس !!! إنه الجوهر الأبدى الذى وضعه الله داخلك بنعمته ، الحقيقة العميقة التى تعبر عن كينونتك و مصدرك ، و ما الحقيقة إلى الأبدية ، و ما الأبدية إلا الله !

و قبل الخوض فى أصل الموضوع يجب أن نوضح الأسس اللاهوتية التى أنطلق منها و التى تكشف عن الآتى :
أولاً : أن الإنسان مخلوق على صورة القدير "الَّذِي وَحْدَهُ لَهُ عَدَمُ الْمَوْتِ، سَاكِنًا فى نور لا يُدنى منه " ( 1 تى 6 : 16 ) " و لأجل هذه الصورة نجد أن الإنسان يحن و يشتاق دائماً إلى المُطلق و اللامحدود ، و هذا يُعبَّر عن امتداده لأصل الصورة التى خُلق عليها  "صنع الكل حسناً فى وقته و أيضاً جعل الأبدية فى قلبهم التى بلاها لا يدرك الإنسان العمل الذى يعمله الله من البداية إلى النهاية " ( جا 3 : 11 ) فبدء هذا الإشتياق الأبدى ينبع من خلقة الإنسان و كأن هذا الحنين وُضع كجذر متأصل فى طبيعته التى لا يقدر أن يهرب منها أبداً !
فإذا كان اللاهوتيون يتحدثون كثيراً عن "الصورة الإلهية" التى وُضعت فى أصل الإنسان كطبيعة حية دائمة لا تقدر قوى السماء و الأرض على إنتزاعها ، فإن الصورة الإلهية إلا ما هى إلا هذا الإشتياق الأبدى إلى اللامحدود ... إشتهاء الملىء و الإنطلاق و التحرر من قيود المادة الضعيفة، هى إدراك أنه لن يستطيع أن يُشبع الإنسان إلا الله وحده .!

ثانياً : الله خلق الإنسان بإرادته وبقوة كلمته، ولكنه لم يخلقه من طبيعته، لأنه خلقه من العدم ، من لا شيء ، لقد أراد الله أن يوجد الإنسان فصار هكذا ، فوجود الإنسان ليس مستمداً من جوهر الله ، و بمعنى أكثر وضوحاً ، أن الوجود الإنسانى قابل للتغيير بل وبدون الله قابل للزوال، ولا يمنعه من الزوال إلاَّ إرادة - ونعمة - الله التي أوجدته والتي لا تزال مريدة لبقائه ووجوده " لأننا به نَحْيَا وَنَتَحَرَّكُ وَنُوجَد" ( أع 17 : 28 )
فنحن كخليقة نبقى بإرادة الله فقط و ليس بذوتنا ! لأن الله هو الوحيد الكائن بذاته غير المتغيِّر، لأنه غير خاضع للزمن، وبالتالي فهو غير قابل للموت أو الفناء ، في حين أن الإنسان المخلوق متغيِّر، فهو معرَّض للفساد وقابل للموت، و هذا ما يفسر لنا السقوط
أى أن النفس البشرية هي قابلة للموت بطبيعتها، لأنها مخلوقة، وهي إنما تعيش وتحيا بنعمة الله فهى تبقى وجودياً و لا تفنى بالرغم من الموت الروحى التى قد تتعرض له... فالخلود ليس خاصية طبيعية فى الإنسان بل وُجدت بنعمة الله و ليس بالطبيعة[2]
فالإنسان على ما يقرر القديس أثناسيوس [3]مخلوق من غير وجود سابق، وهو بطبيعته صار قابلاً للموت والفساد، ويستحيل عليه أن يفلت من هذا المصير إلاَّ بنعمة الله وشركة اللوغس، لأن الإنسان بذاته لا يقدر أن يعيش إلى الأبد
[ و رغم وجوده فى كل الأشياء إلا أنه لم يستمد منها شيئا بل على العكس فان كل الاشياء تستمد منه الحياة و تعتمد عليه فى بقائها ][4]
تجسد الكلمة 17 : 6
و هذا يكشف أن تلك الهوية الأبدية التى يتمتع بها الإنسان إنما هى نعمة من الله ، و ليست من طبيعته فى حد ذاتها ، فهى مُنحت أو أُعطيت له لكى يتحرك دائماً نحو الله ، و يكون إشتياقه للخالق بقدر إشتياقه للأبدية و الخلود الذى وضعه الله داخله ، لذلك فكل كلامنا عن الخلود و الإستعلانات هى على سبيل النعمة و العطية الإلهية .

حسناً ... الإلهك هو هويتك ، أصلك ، جذرك .. نبض الحياة الذى يسرى فى عروقك .. أين تهرب منه ؟ و أين تهرب من حقيقتك ؟... متى تدرك أن العالم بكل ما فيه لا يساوى لمحة من لمحات الأبدية ؟ متى تدرك أنك مخلوق إلهى ، أصلك من عدم لكنك خُلقت للخلود و الحياة السماوية ؟
إنها الحقيقة التى إن لم تدركها فلن تستطيع أن تعرف معنى الإنسانية ، إنها الوحيدة القادرة أن تجعلك إنساناً!
أما الإنسان .. تلك البذرة الإلهية التى زرعت فى بستان الكون ، أراه الآن يتشوه ، و يُمسخ و يُنسخ و تًعاد خلقته من جديد لكى يكون على صورة العالم و مثاله ، ذلك الذى " وُضِعَ فى الشِّرِّيرِ " (1يو 5 : 19 ) القادر على ذبح إى إتجاه حر نحو المُطلق !
و هنا يجل أن ينتبه القارىء أشد الإنتباه ، فانا لا أتكلم عن الحياة الإنسانية التى أؤمن أوثق الإيمان أنها صالحة و مقدسة [5]، بل و قد تألَّهت بفعل حلول الإله المتجسد عينه  فيها ، بل أتكلم عن العالم الذى تخنقنى أشواكه ، إنه شرير فى مجمله و غير صالح و غير قابل لنقل الإعلانات !

حينما إختبرت هذا ، أيقنت أن روحى أكبر و أكثر إتساعاً من كل الوجود ، الحياة أعظم من أن تُحصر فى قالب واحد أو نمط وحيد ، لا تطيق أن تظل حبيسة مخنوقة من أغلال العالم المُحزن !

لكن أنقول أن الأبدية لعنة ؟؟؟ نعم ... و أى لعنة ؟ عندما لا تشبع و لاتترتوى عندها تصبح تلك العطية لعنة ، بل و موت محقق ، لأن العالم بأسره لا يستطيع إشباع حاجة واحدة من الحاجات الإنسانية المتجددة دائماً كموج البحر ! فما أعسر دخول جمل من ثقب إبرة ، أو حصر البحر فى حفرة ضئيلة !
لأن النسبى لا يُشبع و لا يروى ، إنه كالوجبة السريعة التى نأكلها على عجل و فى استحياء ، لكنه يُنبهنا إلى المُطلق و يصلنا به ، يجعلنا نتذوق جزء صغير منه لنشتاق دوماً للحياة فيه !
كلما حصلت على شىء تطلعت نحو الأفضل و الأكثر و الأكبر و الأعظم .. أين الملىء ؟ ...لقد تلاشى ؟!!
 إذاً إنها اللعنة بذاتها ! هذه هى مشكلة الإنسان الأزلية .. قد زرع فى عالم لا يقدر أن يشبعه أو يحقق مطالبه ، هذا الذى يحصره و يضغط عليه و كأنه لا فكاك !
بنفس المقدار الذى تتقدم به فى الحياة ، بنفس المقدار الذى تدرك معه أن كل متعة أرضية تتحول إلى رماد ، كلما حاولت إشباع الجوع ، ما زادك ذلك إلا جوعاً.. تبتغى الملىء فى كل شىء لكنك لا تستطيع ملاحقته !
و السبب معلوم مسبقاً ، لأنه حتى فى عمق أعماق الخطية ، يستطيع المرء إدراك أنه يبحث عنه هو،  عن الله مالىء السموات و الأرض ، الذى هو جذريتنا الأصيلة ، هويتنا و أصلنا ،  كفاك بحثاً ... إنه شخص حقيقى و ليس سراباً ، واجب الوجود لا يمكنك تجاهله !

أتبحث فى الحياة الأرضية عن الحب و الشركة و الحكمة و الراحة و السعادة و الهناءة ؟ بالحق قال العظيم غريغوريوس النيصى[6]..  [كل شىء سيجمع فى الطبيعة الإلهية ] و إن كان الأمر كذلك ، فقد تحققت السعادة االلامحدودة !
 إذاً كفاك غباءً ، لا يمكنك أن تحصل على كل هذه الأشياء بشكل كامل و مُطلق إلا معه هو ، ستدو و تدور و ستفشل ، و ستعود إلى نفس النقطة التى بدأت منها... كعادتك دائماً !  فلتكف عن بحثك و لتكتفى بالله ، إختبىء فيه فهو وحده كمالك و مُطلقَك ، خلودك ، بل هو أثمن من الخلود ذاته ...  عبورك إلى اللانهائى !
و أنا هنا لا أقر أن الله مسئول بشكل أو بآخر عن هذه اللعنة التى يُعانى منها الإنسان ، فالأبدية و اللامحدود قد صنعه الله كتدبير محبة فقط عندما يتجه الإنسان نحو هذا الإله فيجد فيه شبعه و راحته ، و لكن المشكلة تكمن فى إتجاه الإنسان نحو تحقيق هذا الحلم الأبدى فى العالم ، هنا المحك التى تتبدل فيه النعمة إلى نقمة ، و العطية الإلهية إلى لعنة !

+ + +
أخى القارىء ، أتركك الآن مع كلمات واحداً من أكبر فلاسفة الأرثوذكسية فى العصر الحديث ، كوستى بندلى ، إنها أكبر تعبير عمَّا أختبره لحظياً ، لدرجة أن كل سيخطه قلمى لا يستطيع أن يكون مُعبِّراً عن حياتى ـ و حياتك ـ بمثل الدقة التى كتب بها العظيم "بندلى" :

 [[[ ولكن أثر الله يبدو أيضا فى إعماق القلب البشرى...
إنه يتجلّى مثل، فى عطش الإنسان على المطلق...
 يمكن أن يُعرّف الإنسان بأنه " حيوان قلق"...
هذه ميزة أساسية يختلف بها عن سائر الكائنات الحية...
فللحيوان رغبات غريزية محدودة، سهلة الإرضاء، لذلك ليس فى حياته مشاكل...
أما الإنسان فكلما حاول إشباع رغباته اشتدت وقويت فيه هذه الرغبات، وكأن هناك شيئا فى أعماق كيانه يحرّكه ويعذبه ويوجهه ويدفعه دون هوادة...
فى الإنسان تباين دائم، تفاوت مستمر بين ما يرغبه وما يملكه، بين إرادته ومقدرته، بين ما يريد أن يكون وما هو عليه...
لذلك يندفع دون هوادة لإزالة هذا التباين ولكنه لا يتوصّل أبدًا إلى هذه الغاية...
فكلما حاول أن يقترب من مرغوبه، ابتعد هذا عنه موقظا فى نفسه الخيبة والحسرة...
هذا ما يبدو فى الخبرة اليومية وعلى كل الأصعدة...
نكتفى بذكر البعض منها:
1 - فالإنسان الساعى إلى مال ومجد لا يكتفى بما حصل عليه. إنه كلما بلغ مأربه يطمع بالمزيد. لذ، لا يعرف قلبه راحة وإستقرارًا " عين الإنسان لا تشبع" كما يقول المثل السائر...
2 - ولنأخذ السعى إلى الجمال. أمام منظر طبيعى بديع و قطعة أدبية رائعة و...، يشعر الإنسان، إلى جانب نشوته، بشئ من الحزن، ويزداد هذا الحزن بنسبة ما يكون جمال هذا المنظر وهذا الإنتاج الفنى الأخاذ. كيف يفسّر هذا الحزن؟. ذلك أن الجمال الذى أدركناه أيقظ فينا حنينا لا قدرة لنا على إطفائه ومن هنا نشأ الألم. وما هو صحيح بالنسبة إلى التمتع بالجمال ينطبق أكثر على الفنان الذى ينتجه. فكم من الأدباء والفنانين الخلاقين أفضوا إلينا بالمرارة التى كانوا يشعرون بها عندما كانوا يبدعون تحفة فنية رائعة. عندما تخرج تلك التحفة الرائعة حق، من أيديهم، كان الألم يحز فى نفوسهم لشعورهم بالتفاوت بين ما كانوا يحلمون به وما استطاعوا أن يحققوه...
3 - ولننتقل الآن إلى خبرة الحب. فالحب، كما هو معلوم، ينزع إلى تأليه المحبوب. ألا يسمّى المحبّ الحبيب " معبود"؟ إنه إذًا يطلق علبه قيمة لا متناهية وينتظر منه سعادة مطلقة. ولكنه يمنى بالخيبة، فالمحبوب، مهما سمت صفاته، بشر وليس إله، لذا لا يمكنه أن يقدم المحبّه السعادة الفردوسية التى يحلم بها. لذا دعا الشاعر الفرنسى " كلوديل" المرأة المحبوب " وعدًا لا يمكن أن يُبَرّ به". وحتى إذا لم يؤله المحبوب، فالحب يسعى إلى شركة بين الحبيبين تامة وخالدة، ولكنه يصطدم بالسأم الذى تولده العادة وبالأنانية والموت...

مجمل الكلام أن للإنسان المحدود أمانى لا محدودة...
ولذلك يعيش فى توتّر دائم...
ولكن ما هو سرّ هذا التفاوت الصارخ؟...
من أين للإنسان هذا السعى إلى اللامتناهى والمطلق فيما لا تقدم له خبرته سوى ما هو محدود ونسبى؟...
التفسير الوحيد المرضى لتلك الظاهرة الغريبة هو أن الإنسان المحدود يحمل فى ذاته صورة كائن لا محدود...
ويكون هكذا سعيه إلى المطلق تعبيرًا عن حنين تلك الصورة إلى أصلها...
وتكون خيبته المتكرّرة ناتجة عن كونه يخطئ المرمى فيفتش عن المطلق واللامتناهى بين المخلوقات فيما لا يستطيع سوى الله أن يروى عطش قلبه...
فكما أن المد يفترض وجود القمر الذى يجتذب إليه مياه البحر، ولو كان القمر مختفيًا وراء السحب، كذلك مدّ النفوس فى سعيها المتواصل إلى المطلق يستقطبه الله ولو احتجب الله عن نظرنا وإدراكنا:
{ يا رب لقد خلقتنا متجهين إليك ولذلك لن تجد قلوبنا راحة إلا إذا استقرّت فيك } [ أوغسطين المغبوط ]... ]]]
كوستى بندلى [7]

[ كل أهداف الحياة لا حدود لها ، و لن يمكن الوصول إليها فى ملئها هنا على هذه الأرض ، بل بالحرى يتصاعد هذا الملىء كلما تقدمنا نحوه ، لهذا ، فبهجة حياتنا الأرضية ليست فى التملك النهائى لما نسعى نحوه ، و لا هى فى الرضى المصطنع الذى يوقف السعى ، إنما هى اندفاعه نستشعر بها لانهائية الهدف ! ]
الأب موريس زونديل[8]

الحقيقة الثانية والإستعلان الثانى :الذات الإنسانية معبرنا إلى الله !

الإعلان يتم ـ أول ما يتم ـ فى الذات البشرية نفسها ، ليس فى كتاب أو وعظ كرسائل موجهة خارجاً عن الإنسان ، بل أن الحقيقة تستعلن فى أجلى صورها فى هيكل الإنسانية عينها !
الباطنية .. تلك هى الحقيقة الثانية التى إكتشفتها ، لأن الذات الإنسانية صالحة ، بذرة من خَلق الإله ، تطايرت و زرعت فى أرض الكون فنبتت ثلاثون و ستون و مئة .. رسمت صورة الله .. على شبهه و مثاله !
كل منا يدرك تماماً أن هناك علاقة تامة بينه و بين الله ، مهما تنوعت أشكالها و تباينت مستوياتها إرتفاعاً و هبوطاً .. هذه العلاقة[9] يطلق عليها الوحى " الصورة الإلهية" ، لذلك فإن إدراك الإنسان لذاته هو بداية إدراكه لله ، و لكن علينا ملاحظة أنه عندما تغيب صورة الله تصبح صورة الإنسان عدماً ..، و هنا تتكشف الإعتمادية الكيانية التى تربط الإنسان بالله !
لذلك فصورة الله تتكشف و تتجدد فى الصورة الإنسانية عينها [10]، كأصل تنعكس صورته فى المرآة ، بل كإعلان سرى باطنى فى الكيان البشرى القادر أن يكتشف الله من خلال هذه النافذة الحية ... و هى العلاقة بينه و بين الخالق !
و هذا ما تجلَّى لى عندما رأيت الأبدية ذاتها حين أدركت أن شبعى غير ممكن ، و إرضائى مستحيل !
نعود مرة أخرى إلى البحث ؟ أين تبحث عن الله ؟ فى نص أم فى كلمة مسموعة أم فى تأمل أم فى منظر جميل ؟
بحثت فى كل الوسائل و أهملت أعظمها ، نفس الإنسان ! ... لكن عندما يتحول فيك الإله إلى حياة فى حياة ، و كيان فى كيان ، كروح علوية فى هيكل بشرى عندها ستدرك أنك أنت نفسك أعظم الجسور التى تعبر بك إلى الله !
الحقيقة تقع داخلك .. من فضلك لا تتجاهلها !
[ ما معنى أن الله حياتنا ؟ معناه أنه ذاك الذى هو أعمق ما فى باطنيتنا ، جذريتنا الأصيلة ، أنه أبعد ما فينا من اللاموصوف ، من التسامى " لأننا به نحيا و نتحرك و نوجد " ( أع 17 : 28 )
 هل يمكن أن نعرف الله ؟ إننا نعرفه بمدى ما نزداد معرفة بنفوسنا و باطنيتها ... بهذا المدى نتعرف على الله ]
الأب موريس زونديل
و الأمر هنا لا يتعلق بمجرد تأملات عقلية أخال أن الله يعلنها فى نفوس كل البشر ، بل يتعلق أيضاً بتجسد تلك الأفكار فى الواقع ، فبعد أن أدركت تلك الحقيقة لن أدع شخصاً أو شىء يشغلنى عن ذاتى ، لأنه حينئذ سيشغلنى عن الله !
كلما أبتعدت عن العالم صرت أقرب إلى ذاتى ، و كلما اقتربت إلى ذاتى صرت أقرب إلى الله !
هذا الكشف قادر أن يطيح بقاذورات فكرة العجز التى زرعت داخلى منذ الصغر ، فعندما أكتشف فى نفسى إمكانيات الحياة و الحركة نحو معرفة الحقيقة ـ التى وضعها الإله فىَّ بنعمته الوافرة ـ  كون أكتشف فى نفسى ديناميكية على أى مستوى .. معنى هذا إنى أمتلك قدرات الإمتداد و التقدم بين ضلوعى ، و قوة التغيير بين يدى !
فالأمس سكون ، و اليوم حركة و ديناميكية ، و الغد انطلاق ، و بعد غد هو التغير لا محالة !
سأقرأ و أدرس ، أكتب و أتأمل ، لا كنوع من العبثية كما كان الحال من قبل ، و لا هو من باب الإنتفاخ و الإفتخار بالعلم الباطل ، بل سأكون كالسهم فى جعبة القدير أنطلق نحو هدف أبدى لا يغيب عنى قط و هو معرفة حقيقة ذاتى التى ستوصلنى حتماً و يقيناً إلى معرفة الله ... الحقيقة فى مُطلقها ، هذا هو غاية الحياة و مقصد الوجود الإنسانى منذ البدء !
[ هكذا يتضح أن أعظم الدروس كلها هى معرفة الإنسان لذاته ، لأنه إن عرف الإنسان ذاته  سيعرف الله ! ]

 [ و من ذلك يتضح أن أعظم الدروس جميعاً هى أن يعرف الإنسان ذاته ، لأنه إن عرفها فقد عرف الله ]
القديس كليمندس الأسكندرى
يا إلهى ... أرى نفسى الآن مفرطاً فى الغنوسية ... ما أحلى هذا !


الحقيقة الثالثة و الإستعلان  الثالث : الكون ...كمال الحقيقة !

الحقيقة لا تكون كاملة إن لم تكن ثالوثية ، و ثالوث الحقيقة هنا لا يستعلن إلا بالتعرف على تلك الحياة التى وضعنا فيها الله ، و ماهية هذا الإعلان قديم قدم فلسفة الإغريق ، فكل شىء فى هذه الأرض معبرنا إلى حقيقة أعمق تأتى من العالم السمائى ذاته.. فالخليفة كلها تحمل أثر الله كما أن التمثال يحمل أثر النحات الذى صنعه...كالكتاب الذى نقرأ بين سطوره عظمة الله وحكمته وجماله
"إِذْ مَعْرِفَةُ اَلْلَّهِ ظَاهِرَةٌ فِيهِمْ لأَنَّ اَلْلَّهَ أَظْهَرَهَا لَهُمْ . لأَنَّ مُنْذُ خَلْقِ اَلْعَالَمِ تُرَى أُمُورُهُ غَيْرُ اَلْمَنْظُورَةِ وَقُدْرَتُهُ اَلسَّرْمَدِيَّةُ وَلاَهُوتُهُ مُدْرَكَةً بِالْمَصْنُوعَاتِ حَتَّى إِنَّهُمْ بِلاَ عُذْر " (رو 1: 19، 20)
"اَلسَّمَاوَاتُ تُحَدِّثُ بِمَجْدِ اَللهِ وَاَلْفَلَكُ يُخْبِرُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ " ( مزمور 19: 1)...

إنه تجلى آخر لله فى ليس فى الإنسان فقط بل فى الخليقة التى أُخضعت له ، لكى ندرك أن تلك الحقيقة تجتاز كخط سرى بين الله و إنسانه و خليقته ، هم وحدة واحدة ، ليس بالجوهر بل بالمحبة و الشركة ، فإذا كنت تريد إدراك الأبدية فليس عليك أن تستغرق فى تأملات ذاتيه عقلية فقط ، لأنها حينئذ ستكون عقيمة ، بل يجب أن تُشرك الكون فى هذا الإعلان تتجه نحو خليقة الله الرقيقة الصالحة لتذوق شىء لم تتعرف عليه من قبل ، إنك لم تخلق وحيداً متروكاً بل شريكاً أصيلاً متناغماً مع الطبيعة المنبعثة كل لحظة من محبة الله !!!
 عندئذ ستصبح كما كان أبونا آدم فى فردوسه الأول !
هذا النيل ... إنه إتساع الله و عمقه ... و غناه !
و هذه الزهرة الجميلة الوحيدة التى أراها تبتسم لى فى ذلك المكان الذى أكتب منه .. إنها جمال الله !
و الزرع ... الخصب و النماء !
و النخيل ؟؟ .. إنه تسامى الله و علوه .. القداسه بحد ذاتها !
و أُختى التى جمعنى بها الرب ؟ .. إنها رقه الله و برائته .. نقاوته .. عطفه و محبته !
و أنا ؟؟ .. أنا السلطان و السيادة و الألوهة لا شك ! .. أنا صورة القدير !
إنه يوزع طاقاته على كل شىء ، فيصبح الكون مُعبِّراً عنه ، و مَعبراً إليه !
أنا ، و الإله ، و الكون .. إننا ثالوث الحقيقة ، و هنا فقط يكمل ثالوث الإستعلان
!
[ لا أحد رأى جوهر الله أبداً ... و لكننا نؤمن بالجوهر لأننا نختبر القوىَ ]
القديس باسيليوس الكبير
+ + +
الإنسان صرخة نحو الله .. قلب يخفق نحو المحبوب الأبدى ، يتحرك نحوه ، لكى يشترك فى سره !
إنه مثل "سبارو "... العصفور الإيطالى الصغير .. يهاجر دوماً ، بحثاً عن وطن ، عن سكن ... عن أب و حب ، تلك كلها التى تنبع من الأبدية ذاتها ، و الأبدية هى الله .. و هو من الله !

حسناً ، قد دخل المساء و بدئوا فى إشعال الأنوار الصاخبة المملة ، إنه العالم الخانق من جديد ، فلأكف إذاً عن ترهاتى !


 1 ـ عفوأ اخى القارىء .. هذا الإختبار حقيقى و قد عشته بكل دقائقه ، إذن فهو ليس على سبيل الإبداع الأدبى ، لأنى لست أديباً و لا مبدعاً ، و لا هو من لغو الكلام ، بل واقعاً فعلياً تم بجميع حذافيره .
 2 ـ الحياة بعد الموت للمطران إيروثيوس فلاخوس ـ الباب الرابع / خلود النفس
 3 ـ القديس آثناسيوس الرسولى ـ للأب متى المسكين / القسم اللاهوتى ـ الفصل السابع : معرفة الله فى ذاته و معرفة الله فى الخليقة
4 ـ تجسد الكلمة للبابا آثناسيوس الرسولى / ترجمة المركز الأرثوذكسى للدراسات الآبائية بالقاهرة
 5 ـ نقطة خل ـ هل نلغى الإنسان ؟ / مقال قادم فى الفلسفة الإلهية
6 ـ العدالة الإلهية ، حياة لا موت ، مغفرة لا عقوبة ، د / هانى مينا ميخائيل ـ صـ 63
7 ـ مدخل إلى العقيدة المسيحية / الفصل الثانى : الإيمان بالله الخالق ـ عطش الإنسان المُطلق
8 ـ  الإلتقاء بالسيد المسيح / للأب موريس زونديل ـ ترجمة إيريس حبيب المصرى ، و سوف نوالى نشر الكتاب حرفاً حرفاً فى تلك المدونة ، بنعمة الرب
9 ـ قدّم لنا د / وهيب قزمان مفهوم "الصورة الإلهية" فى أبسط تعريفاتها على أنها علاقة بين الإله و الإنسان ، يتفرد بها الكائن البشرى من بين جميع المخلوقات ، و ذلك فى إحدى إجتماعات الشباب فى المركز الأرثوذكسى للدراسات الآبائية بالقاهرة
 10 ـ حوار عن الثالوث ـ د/ جورج حبيب بباوى