النباح المقدس (1)
قراءات فى مشهدٍ متأزِّم
!
أرسطو
ملحوظات غير مبدئية :
أولاً : ما ستقرأه هنا
هو تجربة شخصية بقدر كبير ، لكنها ليست عميقة بالقدر نفسه ، لأنها لو كانت كذلك،
لانتهى بى الحال إلى أحد أمرين ، إما التخلى عن إنسانيتى و التحول إلى أحد الكائنات
النابحة التى سنتحدث عن إحدى أنواعها قريباً ، و إما على سرير مستشفى مصاب بأحد
الجلطات القلبية على إثر ما يتعرض له الفرد العادى من ضغوط غير عادية ... و غير
آدمية
لذلك ... فإن جاز لك عزيزى
أن تقبل كلامى على أنه ملاحظات شخصية متفرقة، نابعة من مجموعة مشاهدات فى المجتمع
الكنسى الذى نعيش فيه ، اقبلها أيضاً من باب النقد الذاتى "الغير قادر"
واقعياً على إخراجنا من أزمة ثقيلة ورثتها الكنيسة المقدسة ... و إن لم يَجُز ...
فماتقبلهاش .. مش هتفرق !
ثانياً : قررت أن أكتب
تلك الملاحظات من أجل الكنيسة .. و الكنيسة فقط .. و من أجل "الذكاء
الخارق" الذى يتمتع به البعض، فُرِضَ علىّ أن أؤكد حقيقة كونى إنسان قبطى
أرثوذكسى ، و أنَّ إيمانى لا يقبل المزايدات ، لأنه هو الحقيقة العميقة فى حياتى ،
و الحقيقة لا تتأثر بمدى إدراكك لها أو إعترافك بها ، فهى توجد حيثما تقرر هى لا
حيثما تقرر أنت .. هذا فقط لأصحاب عقلية المؤامرة و المتشبهون "بالعوكش"
و اللى ممكن يقولوا علىَّ إنى تبع الصهيونية البروتستانتية المتَّاوية الأمريكية
العالمية !!!
كل غرض الكتابة هو أن
أثيرك "أنت" للتفكير فى تلك المناطق المظلمة من الثقافة التى نحياها ، و
جُلَّها يتعلق "بالمجتمع البشرى" أو الثقافة التى انتجناها نحن تحت قبة
الكنيسة ، و ليس لها علاقة بمفهوم الأخيرة كجسد المسيح ، و لا يتعلق بأى حال
بنظامها الدوجماتى أو الكهنوتى أو السرائرى بأى وجهٍ من الوجوه !
ثالثاً: عذراً إذا
وجدت فى كلامى نبرة لا تُعجبك ، فليس المطلوب منى أن أسطر لك ما هو "على
مزاجك" أو "ما يشبع رغبتك العميقة فى أن تكون صحيحاً على طول الخط"
فليس مهمتنا أن نرضى االناس بل الحق وحده كما قال أحد خُدام هذا الحق ... سقراط
أحد الفلاسفة الذين ـ و العياذ بالله ـ كانوا يَدعون البشر إلى ممارسة التفكير !!!
رابعاً : أؤمن أنه من
واجب أى مثقف فى أى مجتمع أن يُعكنن على مزاج السلطة ( أى سُلطة بما فى ذلك سُلطة
المجتمع نفسه ) ، و أؤمن أيضاً أنه يجب أن يكون حر الفكر ، لا يُستقطب لهذا
الإتجاه أو ذاك ، لا يُصفق و لا يُدجل و لا يلحس أحذيه سادته ، و من جُملة ما أؤمن
به ، أن ذاك الذى يُسمى نفسه مثقفاً مهمته تنصب على أن يُمسك بأداة النقد لبناء
مجتمعه ، أن يمارس الانتقاد و ليس النباح و لا أن يُظهر ما فى أخلاقه من قباحة و
إنحطاط !
+ أزمة هويـَّة :
يحتاج وصف الحال الذى
آلت إليه الثقافة الكنسية فى عصرنا ، التنقل بين عدد كبير من المشاهدات التاريخية
و الحالية ، و حيث أن البدايات غالباً ما تكون صعبة و متعسرة ، فالمشهد الذى يجب
أن ننطلق منه لتحليل نمط تلك الثقافة هو "الإرتباك" الذى أصابها فى
الهوية ذاتها !!! ... نحن نعيش أزمة حادة فى الهوية ، يُعللها العالم السويدى صمويل
روبنسون[1] بوجود
"صراع" بين تقليدين حالِّين فى الكنيسة القبطية ، هم منبع الجدل
اللاهوتى الدائر اليوم فيها ، فهناك فى علم اللاهوتى القبطى الأرثوذكسى المعاصر
تباين واضح و متنامى بين تقليد متوارث من الكتابات العربية فى العصور الوسطى ، و
بين حركة الإحياء الرهبانى ، و هذا التباين الذى هو ضرورى ـ للأسف ـ مع كل تطور
لاهوتى ، قد تأثر سلباً بتاريخ المجادلات مع الإسلام و مع النشاط التبشيرى الغربى
، يقول د. صمويل :
[ و لكن بينما يتغذى التجديد الحاصل فى الأديرة على
الأدب الآبائى و على الأخص آباء الرهبنة ، المحفوظ فى المخطوطات إلا أن المعاهد
اللاهوتية تعتمد على مراجع كُتبت نتيجة للاتصال باللاهوت الأكاديمى الغربى ( فى
أوائل القرن العشرين ) ، و لكن محتواها يعتمد على تقليد لاهوتى مغروس عميقاً فى
الكتابات اللاهوتية العربية فى العصور الوسطى ، و بالرغم من أن هناك تاريخاً طويلاً
للتعايش بين هذين النوعين من التقاليد و الكتابات اللاهوتية ، إلا أنه تظهر اليوم
علامات لفلاوق و اختلافات متزايدة ، ترجع بالأكثر إلى تزايد الإتصال باللاهوت
الآبائى المسكونى ]
لكن عزيزى القارىء ،
ليست هى تلك البداية الكُفرية للقصيدة، بل أن هناك بداية أشد كُفراً ، ترجع إلى ما
بعد إنقسام خلقيدونية ، حيث تغرّبت ثقافتنا القبطية عن اللغة اليونانية تماماً مع
حركة "التأقبُط" التى مُنيت بها على يد القديس شنودة الإتريبى (رئيس
المتوحدين) ، ثم جاء الغزو العربى ليُحدث تَغرُّب لا يقل كارثيةً عن سابقه ، حينما
لم يتبقى لدينا من الكتابات اليونانية و القبطية معاً سوى شذرات لترجمات عربية
لنصوص الآباء كانت أقل اهتماماً باللاهوت العقيدى و أكثر وفرة بالاختبارات و
المشورات الروحية ، و متأثرة بالجدالات مع الإسلام و الفكر الخلقيدونى ، حتى أن
الكثير من الكتابات اللاهوتية المسيحية باللغة العربية فى القرون الوسطى يمكن أن
يُطلق عليها تعبير مستعار من الغرب : "سكولاستيكى ـ مدرسى "
ثم تأتى حركة
الإرساليات الغربية لتزيد الطين بلِّة : [كان هؤلاء المبشرون البريطانيون من
الإرسالية الإنجليزية قاصدين التأثير فى
الكنيسة القبطية لإتجاه إحداث حركة للإصلاح بلاهوتهم الغربى ، و بدلاً من أن
يؤسسوا كنيسة أنجليكانية فى مصر ، حاولوا أن يعملوا وسط الأقباط الأرثوكس ، و
كثيرون مِن مَن صاروا فيما بعد من وجهاء الأقباط فى الكنيسة كانوا قد تعلموا فى
مدارسهم ، و مع إعتلاء البابا كيرلس الرابع أبى الإصلاح الكرسى المرقسى كان
تأثيرهم قد بلغ الذروة ، و فى وقت قصير إستطاعوا أن يديروا أول مدرسة لاهوتية
قبطية أرثوذكسية ( مثل الراهب أندراوس الذى صار فيما بعد مطراناً لأثيوبيا باسم
أبونا سلامة ) ]
و بعد ظهور حركة مدارس
الأحد على يد "حبيب جرجس" كانت لا تزال تعتمد على التقليد المدرسى
القديم ، و الذى أضيفت إليه أساليب غربية فى التعليم الدينى ، و على الأخص فى
قراءة الكتاب المقدس و الشرح المنهجى لليتوروجية و الأسرار [2]
و هكذا نشأ الإحتياج لترجمات عربية حديثة لآباء الكنيسة
الذين كتبوا باليونانية و لتعليم لاهوتى بأسلوب اكثر آبائية و أقل مدرسية (
سكولاستيكية )
فى وسط أجواء
"إرتباك الهوية" تلك ، جائت كتابات الأب متى المسكين ( و ما تُبِعه بعد
ذلك من تأسيس مركز دراسات الآباء فى بيت
التكريس لخدمة الكرازة فى القاهرة عام 1982م ) بمثابة الإرهاصات الأولى للبحث عن الذات فى القديم ، و نبش أوراق الماضى و
تقليب صفحات التراث حيث كان "التقليد هو دائماً جوهر عملية الإحياء" !
غنى عن البيان أن
المسكين شيّد أطروحاته على الإقتباس من كتابات آباء القرون الأولى الروحيين ،
الذين لم يكن من السهل أن تتوافق دائماً تعاليمهم مع تعاليم الكنيسة الرسمية المعاصرة
، كذلك الإنفتاح على كتابات العلماء الاهوتيين الأرثوذكس المعاصرين فى أوروبا و
الولايات المتحدة مثل لوسكى ، زيزيولاس ، مايندورف ، و الإعتماد بشكل خاص على
المبادىء التفسيرية الرمزية لمدرسة الأسكندرية القديمة ، و التى فيها يتخذ المعنى
الباطنى للآية كمنطلق هرمنيوطيقى لرؤيته للنص.
[على عكس الكتابات اللاهوتية القبطية التى صدرت
مبكراً جداً عن ذلك الوقت ، أتت كتابات الأب متى المسكين مؤسسة على دراسات راسخة
للكتابات الآبائية ، و أظهرت معرفة متنامية للأبحاث و الدراسات التدقيقية العلمية
فى الغرب لهذه المجادلات التى دارت حولها هذه الكتب المُشار إليها...
و الرجوع المستمر
لآباء الكنيسة فى كتابات الأب متى المسكين هو نتيجة فهمه للتقليد باعتباره جزءاً
من تراث الكنيسة الجامعة التى تحتوى الكنيسة القبطية أيضاً ، فهذا التراث الآبائى
بلا شك هو الأرضية المشتركة التى على أساساها يسعى الأب متى المسكين إلى توحيد
المسيحيين من كافة الإنتماءات المذهبية .
إن التجديد فى الكنيسة هو إلى حد كبير نتيجة
لحركة إعادة إحياء الرهبنة فى البرية "]
....
حسناً ... أرجو ألا
أخرج بتحليل أكثر إرباكاً و إثارة للحيرة و البلبلة من العرض التاريخى المُتقدم ،
فمن الواضح أن التساؤل الأساسى الذى فُرض على العقل الجمعى لتلك الثقافة هو
"من أنا ؟؟" أو " كيف ينبغى لى أن أكون "أنا" و أظل تلك
الأنا فى وسط مُعقد من الجدالات الدينية و المذهبية التى تفرض نفسها علىّ ؟؟!!"
و الإجابة العملية على
ذلك التساؤل تدل على الفشل الذريع عند الإنفتاح على الآخر أو الإحتكاك معه ، لأننا
استقينا ما يُخالف هويتنا بلا تنقيح لما استقيناه ، و بدون فرض تساؤلات قسرية على
ما ننقله من ذلك الآخر ، بالرغم من أن التاريخ مُحمّل بعداوات كثيرة كنّها
أجدادنا لهذا الذى ننقل عنه[3] !
هذا هو أول ملمح من
ملامح صدع الهوية الذى أصاب الكنيسة نتيجة لسُباتها اللاهوتى و الثقافى ، التأرجح
بين تراث غائب دوجماتياً و حاضر ليتوروجياً ، و بين ثقافة "نقلناها" من
الآخر الذى نكرهه و نكفره و نهرطقه !!!
فُكل ما نستغرق فيه من
الجدل، أساسه ليس شخصياً و لا سياسياً[4] ، بل فى
جوهره صراع على ذاتٍ غائبة لم نعرف كيف نحددها بعد، هوية تضيع منَّا كلما ظننا
أننا وجدناها ، و إذا عادت فى الظهور ، عاد معها الجدل مرة أخرى ... لن نستطيع أن
نحسم الأمر إلا إذا إدركنا جوهر المعضلة أولاً !
يجعلنا هذا ننتقل
للتفكير فى منطقة أخرى من هذا الجدل ، فنحن كُنَّا حسب هوية الآباء اليونانيين فى
عصرهم ، ثم تأقبطنا فى عصر تصاعد القومية القبطية و التمرد على التراث اللغوى
اليونانى الذى فُرض علينا ، ثم أصبحنا سكولائيين فى العصر الوسيط ، لنصير غربيين
فى عصر الإرساليات ، ثم ينشأ الجدل مرة أخرى حينما تعود الهوية الأرثوذكسية
السكندرية فى الظهور ... هل يقودنا هذا إلى التفكير فى "نُسخ" مختلفة من
الهوية اللاهوتية تتطور تاريخياً و تحل إحداها محل الأخرى ؟!!.. هل توجد نسخة
واحدة حقيقية بينها جميعاً و هى أصلنا اللاهوتى السكندرى المتجذِّر فى الليتوروجية
و الممارسات الكنسية اليومية ؟ ... هذا ما أدعو نفسى و أدعوكم للتفكير فيه !!
+
حِبال الوهم :
نأتى
إلى المشهد الأكثر حداثة ،الذى نرى فيه كيف انتابت الكنيسة القبطية و تناوبت عليها
عدد من الحركات "الإصلاحية" أو "النهضوية" (هكذا تّدعِّى و
هكذا سنسميها مجازاً ) ، تزعم كلها أنها تستهدق خير الكنيسة ، و تستلهم السبل
لإخراجها من مآزقها اللاهوتية ( الأسمية ) أو من مشكلاتها الواقعية ..
لكن السؤال الذى يجب أن نطرحه على أنفسنا : هل كانت تلك الحركات على قدر ما طرحته من أحلام ؟؟؟ و هل يصمد ما أفرزته أمام جيل جديد لن يرحمها ؟؟
لكن السؤال الذى يجب أن نطرحه على أنفسنا : هل كانت تلك الحركات على قدر ما طرحته من أحلام ؟؟؟ و هل يصمد ما أفرزته أمام جيل جديد لن يرحمها ؟؟
إجابتى ـ التى من حقك أن تختلف معها ـ هى "لا" ، لكن قبل أن تقرر رأيك من جهة تلك الإجابة ، أحاول أن استعرض ما "حاوَلت" تلك الحركات ـ سواء عن قصد أو بدونه ـ أن تُرسخه فى الوجدان الكنسى الحالى :
+ انقسام الكنيسة بين
الإكليروس و العلمانيين ، تلك أحد أهم البركات الميمونة لحركة "التيار
العلمانى فى الكنيسة القبطية" ( أو هكذا تُعرف إعلامياً ) ، و مُنظريها و
منسقيها الفرسان الذين لا يُشق لهم غُبار !!!
لا أعرف ما هو الغرض
من تكتيل مجموعة معينة خارج أسوار الكنيسة ، لتمارس الصراخ و الصياح بدون أدنى حد
من المُنجَز على أرض الواقع !!!...و لا أعرف كيف يقوم مشروعك للإصلاح الكنسى على
تقسيم تلك الكنيسة عينها التى تريد إصلاحها ؟؟؟
هذا ينطوى على تقسيم
سافر للجسد الواحد ، و بالتالى كل النصوص الإنجيلية و الآبائية عن وحدة الكنيسة
تكون فاقدة قيمتها من الناحية الواقعية .. الأمر يتطلب علاج حالة الإرتيكارية من
العمَّة و اللون الأسود التى مُنى بها البعض !
+ فسخ الكنيسة إلى
تيارات ، كل تيار يتبع شخصية كنسية مشهورة أو ذات تأثير ، فتنشأ مجموعات متشيعة
لقداسة البابا شنودة ، الأب متى المسكين ، و من الأخيرة تنبثق مجموعة تتشيع لدكتور
جورج حبيب بباوى ، هذا بالطبع غير
المتشيعيين لباقى الأساقفة ... بالإضافة إلى المُهجنين البروتستانت لابسى الرداء
الأرثوذكسى و الذين نتركهم يرتعون فى كنائسنا و ننشغل عنهم بسؤال عويص جداً : هل
يؤكل اللاهوت ؟؟!
هذا المظهر الأخير
أشدهم ألماً و أكثر خطورةً ، لا لأنه يقسم جسد المسيح الواحد مثل سابقه ـ فقط ـ بل
أنَّه يدل على تحزُّب رخيص دخل فى بنية الجدل اللاهوتى الموضوعى نفسه !!! ...
عندما يتم شخصنة الحوار و الجدل الفكرى ـ و هو أرقى الجدالات ـ لينزل به إلى
مستنقعات تصفية الحسابات الشخصية و تفريغ فوائض الأمراض النفسية فى مشهد عنيف مرير
يبعث على الغثيان !.. هذا هو النفق المُظلم الذى دُفع فيه مصير الكنيسة ، و
المعضلة الكبرى التى وضعتنا فيها تلك الأجيال التى سارت أميالاً فى هذا النفق ..
بل و التحدى الأكبر أمام الجيل الحاضر[5] .
+ توهم أن حال الكنيسة
سينصلح بالإستغراق فى جدليات من نوع : شرعية البابا شنودة للجلوس على كرسى مارمرقس
( مع إن كان بقاله 40 سنة بطريرك ) ، هل البدلية العقابية صحيحة من الوجهة
الأرثوذكسية أم لا ، يهوذا اتناول و لا لأ ... أسرار الكنيسة سبعة و لَّا خمناشر
...إلخ
كل ذلك يُكرِّس حالة عجيبة من الإنفصال الشعورى
ـ و اللاشعورى كمان ـ بين الشعب و النخبة ، فى النهاية كل تلك الجدالات تقع فى
إطار "المناقشات البيزنظية" إذا ما أدركت أن شعب الكنيسة يعيش فى مناخ
مونوفيزى لا يحترم الحد الأدنى من الكرامة الإنسانية ، شعب جاهل و جائع و فقير كل
ما يشغله هو إن "محمد مرسى ما يبقاش الريس" ... شعب عاطفى يُقاد
بالكاريزما الشخصية ، و هو ماكان مُتحققاً فى حالة المُتنيح مثلث الرحمات البابا
شنودة الثالث ... بمعنى آخر : هل ستُفيد تلك الجدليات الإنسان القبطى البسيط
الرافع يديه إلى الثالوث فى الكنيسة ؟؟؟ .. أعتقد أن الإجابة على هذا التساؤل تحمل
الكثير من النتائج المُحبطة !!!
+ الجهاد فى سبيل الذات :
إذا رجعنا القليل من القرون لنستشف كم التسامح و القبول
الذى تُكنّه ثقافتنا تجاه الآخر المختلف ، فسنكتشف أنه ما إختلف أجدادنا مع أحد
إلا وسارعوا بإسداء أجّل خدمة ممكن تقديمها إلى إنسان ... و هى إرساله إلى
"ربّه" ، الأمثلة معروفة : جورج الكبادوكى الأسقف الأريوسى الذى عيّنه
قسطنطين ( عدو الرب و مُقسِّم المسيح ) ، هيباشيا ( الوثنية الغانية الساحرة،
الفيلسوفة الكافرة )، ... بروتيريوس بطريرك الخلقيدونيين ( الهراطقة النساطرة
أعداء الدين ) ..
لست بصدد إعداد بحث
حول العنف المقدس فى تاريخنا ، بل هذه مجرد لمحة ،حتى لا ننسى أن التعصب و التطرف
قد طال ذاك التاريخ ، و لكى لا يضيع هذا فى ظل حالات الإنتشاء النرجسية التى
تصيبنا و كأن تاريخنا ملائكى ، ناصع البياض ، يكاد أن يتفتق من تقوى و ورع و قداسة
صانعيه !!!
ما اقصده من وراء سرد
الأمثلة هو الخروج بنتيجة مفادها أن الثقافة القبطية ترتكن إلى العنف فى أبعد نقطة
لها ، و هو ( أى العنف) أحد مكونات منظومة القيم التى يتحرك فى إطارها هذا المجتمع
، الرسالة التى نتلقاها من الاستقراء التاريخى للعقل القبطى تكون على هذا النحو
" لو أنى امتلكت السلطة .. أى سلطة .. فأنا حتماً سأفتك بك" !!
عنف الثقافة هنا مُثبت
تاريخياً ، لكنه يتلون بتغير أحوال أبنائها ، فمن العنف الجسدى الذى أفضى إلى
القتل و سفك دماء ، إلى العنف الكلامى بل و اللاهوتى ... فهو عنف من أجل "تأكيد الذات" و
إثباتها على أى مستوى ، تلك الذات التى غابت منذ زمن ، أو قُل ، أصابها صدع رهيب
فى الهوية ! فالكل يتعصب لرؤيته ـ التى ليست بالضرورة أن يكون مُقتنعاً بها ـ فى
محاولة زائفة لإثبات : "أننا قد وجدنا هويتنا ولن ينتزعها أحد منا" ، و
من الغريب أن تتعدد تلك الهويات بتعدد الذين يحاولون تقرير تلك النتيجة ... مما
يعمق الإنقسام و يبعث على البحث عن إجابة لتساؤل جدى : "أى تلك الهويات هى
الهوية الحقيقية للكنيسة ؟؟" !!
بعد كل هذا الهراء...
يأتى دور المقدس (الوهمى) ليضفى صبغة إلهية على هذا العنف ، فكل طرف يظن أنه يدافع
عن "الهوية الإلهية للكنيسة" حتى بدون محاولة إدراك للظروف التاريخية و
الفكرية التى صاحبت "نسخة الهوية" تلك التى يدافع عنها ... فيصبح
كل خطابنا اللاهوتى و الكنسى مُبطن بالعنف !
اضرب المثل دا :
"الإنسان يتأله و الروح القدس يحل بالأقنوم " ... "استحالة أن
أحداً من آباء الكنيسة قد نادى بالتألُّه و الروح القدس يحل بالمواهب " ...
هذا مثالاً لأحد الجدالات التى تدور الآن فى الكنيسة ، بالطبع لن أُعنى هنا بتمييز
الصحيح من الخاطىء فى ذلك الجدل ، بل أن أُقرر أن كلٍ من طرفيه على قناعة تامة أنه
يدافع عن "الحق الإلهى" ، و استقامة الكنيسة و العقيدة الآبائية مما
يضفى صفة "القدسية" على العنف المُفرز من جرّاء ذاك الجدال !
لكن الأمر الذى يكشف
حقاً عن مَبلغ العنف التى وصلت إليه ثقافتنا ، هو عندما تسمع أحد أساقفتنا الأجلاء يُصرِّح بأن المنتمين للطوائف الأخرى " مش داخلينها" " ولعنة الله على عقائد الكاثوليك" ،" أنا لهم بالمرصاد" ، فى حين أن
المؤتمرات البروتستانتية تقوم أساساً على الحضور الفاعل لشبابك ، و إجتماعات
الصلاة "المُهجنة" تتسع لأبناء الكنيسة الأرثوذكسية من كل حدب و صوب !!!
.. من "حقنا" بالطبع أن نؤكد هويتنا الأرثوذكسية و نُثبت شعبنا فيها ، و
لكن الطريق ليس هو العنف و التكفير ( لأنه لم يُنجز شيئاً واقعياً ) بل فى التعليم
النقى و تقديم الحياة الأرثوذكسية على أساس عملى مُعاش !!!
...
إذاً .. دعائم تلك
الثقافة وهمية أولاً ، و غير صحيحة ـ بل و مرتبكة و متحيرة ـ من الوجهة اللاهوتية
ثانياً ، و تُصدِّر لنا العنف المُبطن من جهة ثالثة .. و هى فى جميع الأحوال تستتر
تحت رداء المقدس ، هذا فى أفضل الحالات ، إن لم نصفها بأنها ضد المسيح نفسه و
رسالة الكنيسة المقدسة فى جوهرها على طول الخط !!
إذاً ، ثقافتنا تركب
عربة الوهم ... و تسير فى طريق الإنحطاط .. متجهه حتماً و يقيناً إلى العدم !!!
سأسعى لإثبات ذلك فى
تدوينتين لاحقتين ... و إذا كنت عايز تشتم ... فأنصحك أنك تؤجل دا لبعد ما تقراهم ...
بس علشان مايكونش شكلك وحش !!!
يُــتبع
The
Observer
2012/6/14
1
ـ كل ما أوردته هنا نقلاً عن دراسة نشرها دير القديس أنبا مكاريوس بعنوان "
تأثير كتابات الأب متى المسكين على تطور الكتابات اللاهوتية و الروحية فى الكنيسة
القبيطة" للعالم السويدى صمويل روبنسون ـ و قد نُشر هذا البحث فى كتاب عن
الكنيسة القبطية عام 1997 ، و العهدة على الناشر !
2– تلك التى طفح كيِّل الأب متى المسكين منها و وصفها
"بالمصيبة" ،و اهتم أن يفصل بينها و بين الحياة الكنسية الأرثوذكسية فى
كتاب "الخدمة – الجزء الثالث" / الخدمة و روح المنهج الأرثوذكسى ـ صدرت
طبعته الأولى 1971 م
3– الخلقيدونيين و الكاثوليك الكفار ... أو هكذا يتقوَّل
عليهم البعض فى كنيستنا
4 ـ و هو ما حاول إثباته د. جورج بباوى فى الكتاب الأول للرد
على بدع حديثة : جوهر و حقيقة ما يشاع باسم العقيدة الأرثوذكسية فى كتاب بدع حديثة
5 ـ سيتم تفصيل ذلك فى التدوينة القادمة.