Wednesday 27 April 2011

الآلام معبرنا إلى المجد/ متى المسكين مع تعليقات


الآلام ...معبرنا إلى المجد !
للأب متى المسكين / مع تعليقات.


طوبى للحزانى ... لأنهم يتعزون !
طوبى للمصلوبين لأنهو يتجلون !
طوبى للمنسحقين ... لأنه يملكون !
طوبى للجياع لأنه يُشبعون !

حيث تُنسى هناك كل أوجاعهم و تُمسح دموعهم ، و ينمو موضعها نور يشير إلى الأهوال التى اجتازوها و إلى سر المجد الحاصل منها ، و يشرح عظم صبر الإنسان و قوة مراحم الله ، حيث تبدو النسبة بين مقدار الألم و مقدار المجد الحاصل منه نسبة غير معقولة و مضحكة ... فيرى الإنسان عياناً و يكتشف أن الآلام كانت فخاً مقدساً نصبه الله ليصطاد به الإنسان إلى مجده ... فاحتمال الألم أقوى من العبادة !!!
و يقول أحد القديسين أنه رأى فى رؤيا جماعة من الشهداء بمناظر مزهلة بمجد يفوق مجد الملائكة الذين ظهروا معهم فى نفس الرؤيا ، و رأى حول أعناق الذين ماتوا منهم ذبحاً بالسيف زهوراً حمراء كعقد ، موضع الذبح ، تضىء و تتلألأ بمنظر يخطف الأبصار أشد لمعاناً من كل نور آخر ظهر فى الرؤيا !

إن سر الصليب بالنسبة للمسيح هو سر مجده ! ... فالألم الساحق الذى عاناه الرب تحت وطأة التمزيق النفسى بسبب الظلم و الإلتواء الذى شاهده أثناء المحاكمة ، مع خيانة التلاميذ و تسليم يهوذا ، و احساسه أن حياته ثمنَّها رؤساء الكهنة باتفاق مع أحد التلاميذ بثلاثين من الفضة !!
هذه كلها كانت معبراً من عالم التفاهة المتناهية إلى مجد الآب ... و على هذا المعبر عينه تلزم أن تمر أقدام الإنسان فى كل زمان و مكان ... الصليب بآلامه الرهيبة لا يمكن أن يساوى المجد الذى حصل منه !
الصليب لم يصادف الرب فى طريق حياته ، و لكنه وُلد له " لأَجْلِ هذَا أَتَيْتُ إِلَى هذِهِ السَّاعَةِ " ( يو 12 : 27 ) . الإنسان يولد للألم ، و الألم مولود للإنسان ... و لكن فى نفس الوقت ، الصليب لم يكن إلزاماً حتمياً على الرب ، كما نشعر من كلامه و كما نتأكد من جهة قداسته و لاهوته ، و لكنه هو نفسه جعله إلزاماً حتمياً على نفسه " الْكَأْسُ الَّتِي أَعْطَانِي الآبُ أَلاَ أَشْرَبُهَا؟ " ( يو 18 : 11 ) ذلك لكى يشاركنا فى حتمية الألم ، فبدا الله فى شخص المسيح إبنه أنه يتألم اضطراراً حتى يجعل اضطرار الألم مساوياً لإختياره حتى لا يُحرم أى إنسان فى الوجود من رحمه الله ، و لكى يمتد الصليب لكى يشمل كل من تألم ظلماً !

إن الألم بحد ذاته عثرة كبرى لعقل الإنسان ، فالعقل لا يجيز الألم كواسطة لأى خير ، لأنه يظن أنه فى المعرفة خلوصاً من الألم ، و هو يجاهد فى ميدان الطب مثلاً و فى الميادين الأخرى أن يلغى الألم و يريح الإنسان !
و لو دققنا التأمل نجد أن محاولة التربية و التعليم بكل صنوفها من أول ما يحاول الإنسان تعلم الألف باء إلى الصاروخ ، هو محاولة أساسية لتجنب الإنسان الألم و التعب و العوز ...

لذلك فحتمية الألم لدى العقل أمر عسير و شاق جداً بل و محال قبولها ، لأن الرضى بالألم هو بعينه إلغاء العقل و كل نشاطه .. فالصليب جهالة و عثرة فعلاً لدى اليونانيين - كما يقول بولس الرسول ( 1كو 1 : 22 ) - أى هو عثرة الفلسفة ، لأن الفلسفة تحاول جاهداً الوصول إلى الله عن طريق التأمل الأفلاطونى الحر الخالى من التضحية ـ أى الألم المؤدى إلى الموت .
و هذا اللون من الإجتراء العقلى فى محاولته البلوغ إلى الله ، دخل المسيحية عن طريق التصوف الوثنى و لوَّنها  ، فأوريجانوس يقول بإمكانية الإتحاد بالله عن طريق التأمل جاعلاً الله فى الوضع الإستاتيكى و العقل فى الوضع الديناميكى ، أى أنه ثبَّت الله فى نقطة و جعل العقل هو الذى يسعى إليه  ، هذا إجتراء وثنى ناتج عن عدم شعور الإنسان بأبوة الله و نزول المسيح و تودد الروح القدس و دخوله قلب الإنسان !
و الحقيقة عكسية ، فالإنسان دائماً أبداً فى الوضع الإستاتيكى و الله هو الذى يتحرك نحوه " ليأت ملكوتك " ، منتهى تحرك الإنسان هو أن يكون يقظاً لتحرك الله مستعداً لمجيئه " مستعد قَلْبِي يَا اَللهُ، مستعد قَلْبِي " ( مز 57 : 7 )
فلو أدركنا أن الصليب هو أعظم مظاهر تحرك الله على الصعيد العيانى المنظور الذى فيه تجلى الله للإنسان ( أكثر من تجليه على طور تابور ) و أن الصليب هو الألم فى صورته العظمى التعسفية الظالمة ، حينئذ علينا أن نحس أن الصليب هو الدابة التى ركبها الله القدير و انحدر عليها من مكان سكناه هناك ، من موطن احتجابه الأزلى و جاء إلينا و صافحنا يداً بيد ، الصليب هو قوة ديناميكية الله الفائقة التى أحدرت الله إلينا و استعلنته واضحاً ، أى أن الألم بصورته المادية جحود و انحصار و توقف و بجوهره الروحى تحرك ، و أى تحرك !

 الإنسان يظل متوقفاً روحياً و عاطلاً عن المسير راجعاً مع المسيح إلى الله إلى أن يحمل صليبه ، الإلم يُدخل الإنسان فى سر الصليب ، سر التحرك الإلهى ، فلا يتوقف كميت بل يسير مشدوداً إلى المسيح منقاداً و منجذباً من ألم إلى ألم إلى أن يبلغ الآب محمولاً على صليبه تابعاً المسيح ...
الإنسان يستحيل أن يتحرك نحو الله عقلياً ، فالعقل مهما بلغ بالتأمل إنما يكتشف الله و حسب ، و يكتشف نوره و حبه و يسعد و يرتد ... التحرك بالحقيقى كائن بالمسيح فهو إبن الله الآتى إلينا على الصليب ، و على الصليب نتبعه إلى الآب ...
فهو يقول "
لأَنَّكُمْ بِدُونِي لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَفْعَلُوا شَيْئًا " (يو 15 : 5 ) ليس هذا احتكاراً تعسفياً لإرادتنا و لا هو بسبب قصورنا فى المعرفة ـ لأنه عرَّفنا بكل شىء ـ و لكن لأنه الوحيد ـ كإبن ـ يحمل قوة التحرك نحو الله الآب

 المسيح هو الوحيد الذى له قوة التحرك نحو الآب ، لأن ابن الله الوحيد الذى من جوهر الآب ، فهو دائماً فى حضن الآب و متجة نحو الآب ( و كلمة "بروس " اليونانية المستعملة فى الآية الأولى من إنجيل يوحنا و التى تُترجم عادة بلفظ "عند" "الكلمة كان عند الله" تعطى معنى " نحو" أى " الكلمة كان نحو الله " ( يو 1: 1 )
هذه القوة هى طبيعية فى المسيح قبل التجسد و الصلب و لكن لكى يدخل بالإنسان الميت  و يحمله إلى الآب كان لابد بعد أن تجسد و صار إنساناً أن يجتاز الألم الفدائى حتى يمكن أن يحملنا و يدخل بنا إلى الآب فيكون المسيح بذلك قد اكتسب بالصليب قوة لنا و من أجلنا ـ أى قوة التحرك بالبشرية الخاطئة نحو الآب " لأَنَّهُ لاَقَ بِذَاكَ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ الْكُلُّ وَبِهِ الْكُلُّ، وَهُوَ آتٍ بِأَبْنَاءٍ كَثِيرِينَ إِلَى الْمَجْدِ، أَنْ يُكَمِّلَ رَئِيسَ خَلاَصِهِمْ بِالآلاَمِ" ( عب 2 : 10 )

و المسيح يحمل قوة حركتين :
حركة من الله الآب نحونا ، و حركة منا نحو الآب :
الأولى طبيعية و هو جوهرية كائنة فى سر الحب نحو خليقته !
و الثانية مكتسبة بالصليب ... أى بالألم الفدائى الذى أهَّل أن يحمل الإنسان الميت و يصعد به !!
و المسيح سكب فينا سر هاتين القوتين : قوة الحب ، و قوة الصليب ( الألم ) ـ و بقبولنا هاتين القوتين يعمل المسيح فينا سراً لنتحرك به و معه إلى أن نصل إلى الآب و يتم بهما و فيه السر الأعظم ، سر الإتحاد بالله .
ختاماً ـ استودعك لتدبير عنية الله الفائقة التى تُسخِّر السنين و الأزمنة و الأوقات و الحاودث و لك ما يصيب الإنسان و ما يصيبه الإنسان لتكميل خطة الفداء العامة لخلاص الإنسان !

كُن مُعافى .

من رسالة كتبها الأب متى المسكين جواياُ على سائل
 و قد نشرت عام 1968 م فى مجلة النور اللبنانية .[1]


+ + +


تـعلـيقــات !

مشكلة الألم تشغل بالى كثيراً ،تحيرنى و طالما فكرت فيها بعمق ، لقد وجدت بعضاً مما كنت أنشده فى هذا المقال الرائع الذى كتبه العظيم متى المسكين ، إلا إنى لو توقفت عند حد قراءة مقال فإن هذا يدل على توقف أنشطة العقل و التأمل، و لأن مشكلة كهذه لا تعالج نقلياً فقط ، فقررت أن أترك بعض التعليقات و الأفكار التى تعبر عن اختبارى و رؤيتى لها ، و فضَّلت أن أفصل بين المقال و التعليق لأنى أخشى من ضعف لغة التعبير ، بل و ركاكة الأفكار و الأسلوب ، حتى إذا ما اختلطت تعليقاتى مع حديث هذا الأب القديس ، سوف يضر هذا بقارئى العزيز أشد الضرر !
و أقول أن هذه مجرد أفكار و خواطر من نتاج عقلى ، تلك التى فتحت أمامى باباً أوسع من التساؤلات بل و الرغبة فى البحث عن معنى الألم فى الكتابات الإلهية ، فأنا هنا لا أقدم دراسة لاهوتية عن الألم [2]، بل مجرد خواطر أرجو ألَّا تهبط إلى مستوى الترهات !


حــتمــية الألم  !

أول ما يجب أن يدركه الإنسان عن الألم هو حتميته ، الألم هو وضع ثابت و مُتأصِّل فى الطبيعة البشرية منذ سقوط الإنسان الأول ، آدم ، كما يُخبرنا تكوين موسى ،  فلقد نجح الشرير أن يضع فيه هذه الأصل ، و يزرع فيه تلك البذرة ، بذرة الألم و التعب و المرض و العوز ، و ها نحن نسمع الله يقول لهذا البائس "بِالتَّعَبِ تَأْكُلُ مِنْهَا كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِكَ. وَشَوْكًا وَحَسَكًا تُنْبِتُ لَكَ، وَتَأْكُلُ عُشْبَ الْحَقْلِ. بِعَرَقِ وَجْهِكَ تَأْكُلُ خُبْزًا حَتَّى تَعُودَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أُخِذْتَ مِنْهَا... تَكْثِيرًا أُكَثِّرُ أَتْعَابَ حَبَلِكِ، بِالْوَجَعِ تَلِدِينَ أَوْلاَدًا" ( تك 3 : 16 ـ 19)
" اَلإِنْسَانُ مَوْلُودُ الْمَرْأَةِ، قَلِيلُ الأَيَّامِ وَشَبْعَانُ تَعَبًا" ( أى 14 : 1 )
" صعوبات كثيرة تنتظر الإنسان من المهد ، و نير ثقيل على بنى آدم ، من يوم خروجهم من أرحام أمهاتهم إلى يوم دفنهم فى الأرض أمام الجميع " (يشوع بن سيراخ 40 : 1،2 / الترجمة العربية المشتركة )
فالألم صار فعلاً ملازماً للإنسان طول حياته ، كلما يريد أن يتخلص منه يجده حاضراً عنده !
و كل الإنفعالات و التأوُّهات و الصرخات و المرارة و المراثى التى تذخر بها الكتب المقدسة ، و الأدب الإنسانى على حد سواء ،تقف شاهاً على هذه الحقيقة ، التى قليلون هم الذين يدركونها !
الإنسان يحاول أن يتجنب الألم ، لكنه لا يستطيع أن يهرب من حتميته !
الألم فى طبيعة الإنسان ، فمن يهرب من الألم يهرب من طبيعته !


محـاولات عبثــية  !

أخى القارىء ... رأيت كلام الأب القديس عن المعرفة ، و الطب و التعليم كوسائل للتخلص من الألم أو على الأقل تجنبه ، أما أنا فأكلِّمك عن الإقتصاد !
الإقتصاد هو من أهم المحاولات الإنسانية للتخلص من التعب و الألم أو الوصول بهما إلى أدنى مستوى ممكن فى إطار المُتاحات التى يمتلكها الإنسان ، بل و تحقيق الإشباع و الراحة و الرفاهة ، و فى هذا تذهب النظريات لوضع الأسس الفلسفية و الإجتماعية و العملية لأصل هذا الهدف و وسائل تحقيقه .

قال أحد فلاسفة الإقتصاد :
 " أن الإنسان يسعى دائماً نحو هدف متحرك ، يبعد عنه باستمرار "
 هذا الهدف إقتصادياً هو الشبع و إقصاء الفقر و الحاجة
 نعم ... فالقضاء على الألم هو هدف متحرك كلما أدرك الإنسان جزءاً منه  تكشَّف له أنه أمام بحر لا نهاية له من الحاجات ـ تلك التى تسبب له الألم و المعاناة ـ ، ليس فقط إذا لم يُشبعها فعلاً ، بل و كلما فكر فى إشباعها أيضاً !

إذن ... القبول بالألم هو إلغاء العقل ، لأن كل الأنشطة و النظم العقلية منصبه على إلغاء الألم !

و من هنا ينشأ الصراع ... الصراع بين العقل الإنسانى الذى يستثقل الألم و يريد أن يذيح ذكراه و آثاره ، و بين طبيعة الألم نفسه كفعل ملازم و وضع ثابت فى الإنسان ، فكما قرأنا لأبانا القديس أن " الإنسان يولد للألم ، و الألم مولود للإنسان " !
هذا صراع أبدى ، أُقر بعدم إمكانية انتهائه تلقائياً أو حتى تدبيرياً ( إقتصادياً ) بفعل سلبى أو إيجابى يقوم به الإنسان
بل أعتقد أنه ينتهى فى اللحظة التى يتكشف فيها للإنسان قدرته على تحويل هذا الألم إلى مجد !
 هذا الصراع لا يؤدى إلى نتائجه و لا تظهر آثاره إلا فى لحظة إدراك تلك الحقيقة !

يا للغباء البشرى ! المرء لا يعرف أنه لا يوجد ما يشبعه أو يرويه إلا إدراك سر .. هو سر الألم عينه ! ، أو أن يظل حاملاً أوجاعة طول حياته ، التى لم تعد "حياة " بالحقيقة !


استعلان المنـفــعة من داخل الألم :

هنا أتكلم على مستوى الإنسان الطبيعى الذى يستطيع أن يكتشف سر الألم ـ جزئياً ـ عن طريق ممارسة أفعال العقل و التفكير فى حوادث الألم ، حتى يستطيع أن يكتشف منفعة الألم بالنسبة له .
الألم صديق حميم ، يأخذ الإنسان ليعرفه على ذاته و على الآخرين و يدخله إلى أعماق الحياة ، و كرفيق حكيم يكشف له أسرارها و يعرفه على خباياها و حقيقتها !

بالألم يعطى لنا الرب معرفة أنفسنا !
بالألم نحصل على الحكمة !
بالألم نكتشف الحقيقة التى كنا نظنها غائبة عنا ، و هى حاضرة فى داخلنا !
مشكلة الإنسان انه لا يستطيع أن يكتشف سر الألم .. الذى هو عطية من الله !
لا يستطيع أن يدرك الأمجاد و المكاسب التى يحصل عليها من الألم .

ربما تكون الراحة و الصحة و السلام و الهناءة بل و السلطة و الرئاسة و المال غير نافعة مثل منفعة المتاعب و لا تقوده إلى المعرفة الحقة ، لأنها تلهي المرء عن نفسه، اما الآلام و الضيقات فتفتح له آفاق إدراكها!
ربما يكون أعداء المرء أكثر منفعة له من أحباءه ، إنهم كمصدر إلهى يستطيع به أن يفحص قلبه و ينقى ضميره و يكشف عيوبه باستمرار ، يكتشفها لا بالمعرفة أو النصيحة او بالأرشاد ، بل بالخيرة الحية و بالمواجهة !

و هنا يجب أن ينتبه الإنسان أشد الإنتباه ، فإذا لم يدرك هو هذه الحقيقة ، ارتد إلى الحزن و الكآبة
لذلك يجب أن يكون ادراك سر الألم حاضراً عنده دائماً ، لألا يحصل هذا الارتداد ، و هذا الرجوع ، و هذه المصيبة التى تكفى للإطاحة به إلى الوراء آلاف الأميال من السعادة و الهناء و الحكمة !

كم مرة يتعلم الإنسان من حوادث الألم و المعاناة أكثر من تعليم الكتب و النظريات؟ أليست تلك منفعة أيضاً ؟

حسناً قال أبونا القديس أن الآم معبرنا من عالم التفاهة المتناهية إلى المجد ، لأن الأشياء إن لم تدرك بكل قوتها و حقيقتها تصبح تافهة لا نفع لها ، و نحن بالألم ندرك سر كل هذه الأشياء و جوهرها جميعاً !

إذن ... المشكلة ليست هى الألم فى حد ذاته ، بل فى إدراك الإنسان لمعناه ، فإن كانت كل هذه الأتعاب ليست نابعة من ذات الإنسان بل هى خارجة عنه ، فلا مشكلة إذن ، لأن كل معاناه حقيقة تنبع من الداخل .
 فمصدر تعاسته ليست هى الآلام التى تقع خارجاً عنه ، بل فى غباؤه الذى معه لا يستطيع ادراك كيف يحول التعب إلى راحة ، و العوز إلى شبع !!

لكن هذا الإستعلان ضعيف ، و هو على مستوى متدنى من الإدراك الإنسانى ، فحتى إن "عرف" الإنسان منفعة الألم عقلياً ، فسيبقى فى حدود ضيقة تفرضها عليه تلك المعرفة ، صحيح أنه سيستفيد من الألم ، لكن المنفعة تبقى أرضية وقتية ، تقع فى دائرة التعاملات البشرية وحدها ،لأنها مؤسسة على العقل البشرى المتغير ، فالعقل مهما بلغ من إدراك سوف يظل محدوداً متأثراً بالإنفعالات التى تحدث داخل النفس ، و لا يستطيع أن يدرك الألم كاملاً كسر خفى إلا من اختبره ... مع مُخلص العالم !!!
فإعلان التفكير شىء و إعلان الإختبار شىء آخر ، إنه مستوى أعلى بكثير لا يولِّد الحكمة و معرفة الحقيقة و اكتشاف الذات فقط .. بل و المجد أيضاً !


آلام  فصحية  !

تعلمت من الأب متى شيئاً ، أن الفعل لكى يكون له قوة التغيير و التجديد لابد أن يكون فعل إلهى ، أو مؤسس فى الله ذاته و نابعاً منه ، فالإله هو الوحيد الذى ليس عنده تغيير و لا ظل دوران ، و بالتالى فهو الوحيد الذى يمتلك القدرة على إحداث هذا التغيير و التحويل ، بل و الخلق أصلاً !

صحيح أن العالم يملأه الحزن ، و المتاعب فيه ما أكثرها ،لكن ليست أى آلام هى التى لديها القدرة على نقلنا من الموت إلى الحياة و المجد ، بل آلام المسيح و حدها من بين كل الآلام هى التى تتمتع بتلك الإمكانية أى إحداث العبور ، لأنها ببساطة آلام الإله الحى ، فأى فعل يقوم به هذا الإله يكتسب تلقائياً قدرة هائلة على الخلق و التجديد و التحويل و العبور من بين كل الأفعال جميعاً ، حتى و لو كان هذا الفعل هو الآلم ذاته !

لذلك فإن الإنسان المسكين الساقط لا يدرك قوة الألم ، لأنه لا ينظر إليه فى يسوع المسيح ، هذا الإله المتجسد الذى أعطى لفعل الألم قوة للتجديد و الخلاص تشع منه النور و القيامة !  فحتى إن أدرك الإنسان منفعة آلامه الإنسانية كما قلنا فهو يظل فى مستوى الأرض و لن يعبر أبداً إلى السماء إلا إذا شارك المسيح فى هذه الآلام الإلهية ، الفصحية !

فإذا كان الألم بالنسبة للإنسان وضع حتمى صعب على النفس ، و مُرّ مرارة العلقم و الإفسنتين ، لكنه بالنسبة للرب وضع محبة ، جازه بإرادته طواعية فقط ... من أجل الإنسان !
"نَاظِرِينَ إِلَى رَئِيسِ الإِيمَانِ وَمُكَمِّلِهِ يَسُوعَ، الَّذِي مِنْ أَجْلِ السُّرُورِ الْمَوْضُوعِ أَمَامَهُ، احْتَمَلَ الصَّلِيبَ مُسْتَهِينًا بِالْخِزْيِ، فَجَلَسَ فِي يَمِينِ عَرْشِ اللهِ." ( عب 12 : 2 )
نعم ... فبعد الألم هناك القيامة و الصعود ، بل أن هذان الأخيران هما نتيجة حتمية للصليب كما قرأنا عند بولس سابقاً !
و هذا ليس تأمل شخص أو أفكار فردية ، بل اختبار كنسى تعيشة الكنيسة كلها فى صلوات البصخة المقدسة ، عندما تقرأ فى الساعة الحادية عشر من يوم الخميس الكبير و الساعة السادسة من يوم الجمعة العظيمة ، الترجمة السبعينية ، تلك التى نجدها فى قطمارس كل الكنائس الأرثوذكسية القبطية ـ اليونانية ، بل و حتى تلك التى لم تعرف اليونانية مثل كنائس السريان ، حيث تقول الترجمة السبعينية " أما الرب فشاء أن يشفيه من الجراح / الكلوم ( كتاب البصخة المقدسة حسب ترتيب الكنيسة القبطية الأرثوذكسية) [3]

And the LORD willed to cleans him of the beating

و هذه الترجمة هى الترجمة اليونانية للعهد القديم و هى ترجمة يهود الأسكندرية و قد وضعوا التفسير الشائع فى الفكر اليهودى و هى مختلفة عن الترجمات الشائعة بين أيدينا و التى تُقرر أن "  الرَّبُّ سُرَّ بِأَنْ يَسْحَقَهُ بِالْحَزَنِ" (إش 53 : 10 )

ففى وسط هذا الفصل النبوى الذى يمثل قمة الآلام التى اجتازها المخلص ، نجده يحدثنا عن الشفاء و إبراء الكلوم ، و كيف يحدث هذا إلا بالقيامة ؟ فمن عمق الألم و قمته تخرج القيامة و الإنتصار !

فهكذا هو إلهنا المصلوب ، يجمع المتناقضات فى شخصه الواحد، لولا آلامه لما تخلصنا من الألم، فاختبار شركة آلام المسيح هذا ليس على مستوى إدراك منفعة الآلام عقلياً ، بل هو "تحويل" تلك الآلام إلى أمجاد كما يحدثنا آباء الكنيسة

[ كما أن الموت لم يكن ممكناً أن يبطل إلا بموت المخلص
هكذا أيضاً بالنسبة لكل واحد من الآلام و انفعالات الجسد
لأنه لو لم يكن قد انزعج لما تحررت طبيعتنا من الإنزعاج
و لو لم يكن قد حزن لما انعتقت أبداً من الحزن
و لو لم يكن قد اضطرب و جزع لما انفكَّت أبداً من هذه الإنفعالات
و هكذا بالنسبة لجميع الأمور البشرية الحادثة للمسيح يمكنك أن تجد نفس المبدأ منطبقاً تماماً
أى أن الآلام و الإنفعالات الجسدية كانت تتحرك فيه ، ليس لكى تكون سائدة كما يحدث فينا
بل لكى ما تحركت تَبطُل بقدرة اللوغوس الساكن فى الجسد
و بذلك تتغير طبيعتنا إلى ما هو أفضل
فإن كان كلمة الله قد وحَّد بنفسه طبيعة الإنسان بشمولها ، لكى يُخلِّص الإنسان بكليته
فإن ما لا ياخده منا لا يمكن أن يخلصه ][4]
القديس كيرلس الكبير
تفسير إنجيل يوحنا 12 : 7


[ قد نبع انعدام الآلام من الآلام
و عدم الموت من الموت
و الحياة من القبر
و الشفاء من الجروح و القيامة من السقوط
و الصعود إلى أعلى ( السموات ) من النزول إلى أسفل ( الحجيم ) ][5]
القديس يوحنا ذهبى الفم

[ فقد بكى بشرياً لكى يسمح دموعك ...
و انزعج تدبيرياً تاركاً جسده ينفعل بما يناسبه لكى يملأنا شجاعة ...
و وُصف بالضعف فى ناسوته لكى يُنهى ضعفك ..
و قد بكثرة طلبات و تضرعات إلى الآب ، لكى يجعل أذن الآب صاغية لصلواتك ]
القديس كيرلس الكبير[6]
الدفاع عن الحروم الإثنى عشر ضد ثيودوريت


ففى المسيح ، الألم و المجد يجتمعان فى وحدة مُدهشة كالحقيقة المضيئة التى لها وجهان !
 [ و الرب يناقش النفس و يريها مواضع المسامير قائلاً :
انظرى علامات المسامير ، انظرى الجلدات ، انظرى البصاق ، انظرى الجروح
هذه كلها تألمت بها من أجلك ، لأن بمحبتى للبشر جئت لأطلبك و أحررك
لأنى منذ البدء جبلتك على صورتى ، و خلقتك لتكونى عروساً لى
و الرب يُظهر نفسه لها على هيئتين :
على هيئة جروحة و على هيئة نوره المجيد
و النفس ترى الآلام التى احتملها ، و ترى المجد الفائق الذى لنوره الإلهى
فتتغير إلى تلك الصورة عينها من مجد إلى مجد كما من الرب الروح .
و تتقدم فى كلا الهيئتين ، فى هيئة آلامه و هيئة نوره المجيد
حتى تنسى بنوع خاص طبيعتها الخاصة ، إذ تكون ممسوكة بالله
و ممتزجة و متحدة بالإنسان السماوى و بالروح القدس
بل تصير هى نفسها روحاً ][7]
القديس الأنبا مقار الكبير
المجموعة الثالثة من العظات / عظة 3 : 2


لذلك لا يمكن أن تقبل القيامة و ترفض الصليب لا يمكن أن تحيا الإنتصار إذا لم تجوز أولاً فى الألم ، البعض لا يحب صورة صلبوت ربنا و يعلقون و يقولون ان هذا هو ليس المسيح ، المسيح ممُجد و مُقام ، و لا يعرفون أن القيامة هى ثمرة الصليب ،و اذا لم نفتخر بالصليب لا يحق لنا أن نتمتع بعطايا القيامة !


الآلام استعلان إلهى!

أدهشنى كثيراً كلام الأب متى عن تحرك الله نحونا بالصليب ، لم أكن قد قرأت مثل هذا من قبل !
الصليب هو حركة إلهية ، لأن الصليب هو إعلان عن ذات الله بالعمل و الفعل و لا يدخل فى دائرة الكلام و الفلسفة البشرية المُقنعة ، و هو ليس على مستوى الإعلان النبوى ، الله يريد و النبى يفعل ، بل أصبح الله بنفسه هو الذى يفعل بالصليب ، يأتى إلي الإنسان و يشترك فى آلامه ... و هو أقصى تعبير عن محبة الله الأزلية !

الله محبة ، و إذا كانت المحبة التى هى جوهر الله قد تجلت بالصليب ، إذاً فقد استعلن الإله بالألم و تجلى عندما رُفع على الصليب شاهراً جراحاته للعيان ! 
لقد تجلى ليس بنوره الأزلى كما على جبل طابور بل بمحبته، فالصليب محبة ليست بالكلام و لا باللسان ، بل بالعمل و الحق !

هذا ما يفعله الفلاسفة ، يجلسون فى أبراج عاجية ، عالية ، يرسمون صورة الله و الإنسان و العالم ، هذه الصورة التى تكون غالباً بعيدة عن الواقع ، أو على الأقل تحاكى الواقع بطريقة مشوهة تمسخ معها معالم الحقيقة، لأنها خرجت من رحم العقل فاسد التصورات .
أما آلام المسيح فهى أقصى إعلان عن رغبة الله فى الإشتراك فى واقعنا و معاناتنا بل و تحويلها من مجد إلى مجد
المسيح كان فيلسوفاً ، و لكن ليس ككل الفلاسفة ، تعاليمه تشهد على فلسفته ، وآلامه تشهد على واقعية هذا الفلسفة !

هذا المسيح المتألم هو الذى له وحده قوة الحركة نحو الله ، فإذا اشتركنا نحن فى آلامه أخذنا معه إلى مجده ، فهو لم يجوز الألم نيابة عنا ، بل كان يحصرنا و يجمعنا فى ذاته بحسب فكر كنيستنا الأرثوذكسية ، و بهذه الشركة الحية فقط نستطيع أن نقترب إلى مجد الآب و نكتشف لمحة من الأبدية السعيدة .



لحظة الـعبور !

إلا أنّ يسوع لا ينزع من العالم الألم و الضيقات ، بل يُخرج منها الخير لأولاده ، لذلك يلزم الإنسان أن ينفتح على الوعى الإلهى ، و يرى فى لمحة الروح حقيقة خطة الله له من داخل الإلم ، حينئذ تتحول الضيقات إلى معانى إلهية !
و يتكشَّف أمامه معنى جديد للتعزية ، فهو ليس إلغاء الألم أو مجرد إزاحته أو حتى شفاؤه ، بل هو العبور من تلك الآلام عينها إلى الأمجاد ، بإدراك سر الألم و منفعته و الإشتراك فى آلام المُخلص
 الـتعـزيـة عـبور ، تحـول .. إمـتداد !!!

و هذا العبور لا يكون سهلاً بل فيه تتحطم النفس و تتمزق تمزيقاً و يصلب الجسد مع المسيح ! ، العبور لا يتحقق إلا بإلغاء الذات و صلب الأهواء و الشهوات و تسمير الجسد على الخشبة المُحيية كما يتحدث الرسول  

و لحظة العبور هذه لابد أن تكون ماثلة أمام الإنسان ، يحفظها فى أعماقه حتى تعمل فيع عملاً مستمراً ، تلغى من ذهنه ذكرى الألم لكنها تُبقى سره فقط ! و هو الإنتقال و العبور !
و بعد أن فهمنا القصد من الألم و عرفنا مصدره الإلهى الحكيم و لمسنا غايتها الخيرة الصالحة و المفيدة و هو معناه التحرر الكلى من شبكة الآلام التى لا فكاك منها ،أفلا ننسى ما هو وراء و نمتد إلى ما هو قدام ؟

لِذلِكَ أُسَرُّ بِالضَّعَفَاتِ وَالشَّتَائِمِ وَالضَّرُورَاتِ وَالاضْطِهَادَاتِ وَالضِّيقَاتِ لأَجْلِ الْمَسِيحِ. لأَنِّي حِينَمَا أَنَا ضَعِيفٌ فَحِينَئِذٍ أَنَا قَوِيٌّ  ( 2كو 12 : 10 )
قَدِ امْتَلأْتُ تَعْزِيَةً وَازْدَدْتُ فَرَحًا جِدًّا فِي جَمِيعِ ضِيقَاتِنَا." ( 2كو 7 : 4 )
حَامِلِينَ فِي الْجَسَدِ كُلَّ حِينٍ إِمَاتَةَ الرَّبِّ يَسُوعَ، لِكَيْ تُظْهَرَ حَيَاةُ يَسُوعَ أَيْضًا فِي جَسَدِنَا ( 2كو 4 : 10 )
إِنْ كُنَّا نَتَأَلَّمُ مَعَهُ لِكَيْ نَتَمَجَّدَ أَيْضًا مَعَهُ ( رو 8 : 17 )


الألم سر لا يدركه إلا من جازه مع المُخلِّص !
الألم عمق لا يدخل فيه إلا من شاركه حقاً و يقيناً مع رئيس الحياة !

مارك
ذكرى الآلام الخلاصية و القيامة المقدسة
برمودة 1727 ش / إبريل 2011 م


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


1 ـ مع المسيح فى آلامه حتى الصليب / للأب متى المسكين صـ 199
2 ـ أنتظر دراسة عن الألم فى الكتاب المقدس ، سأبدأ فيها فور توفر متسع من الوقت لدىّ .
3 ـ القيامة أساس الإنجيل و مسرة الثالوث بالإنسان ـ د / جورج حبيب بباوى
 4 ـ أقول مضيئة لآباء الكنيسة صـ 210
5 ـ قول مضيئة لآباء الكنيسة صـ 240
 6 ـ أقوال مضيئة لآباء الكنيسة صـ 200
7 ـ أقوال مضيئة لآباء الكنيسة صـ 228