Tuesday 1 March 2011

جذور و نتائج الخلاف بين الرمزية و الحرفية


جذور  و نتائج  الخلاف
بين الرمـزية و الحــرفية




مدرسة الأسكندرية  
 و المنهج  الروحى  الرمزى :


أستعملت الطريقة الرمزية فى التفسير بواسطة  الفلاسفة اليونانيين قبل المسيح لتفسيرالأساطير الخاصة بالآلهة الوثنية  على _ النحو الذى يتضح بجلاء فى فلسفة أفلاطون _  و أول كاتب يهودى استخدم التفسير الرمزى هو أرسطوبولوس الأسكندرى ، حوالى منتصف القرن الثانى قبل الميلاد ، ففسر به الشعر الإغريقى كما فسر العهد القديم بنفس المنهج أيضاً ، و لكن الكاتب اليهودى الذى فاق الكل فى استخدام الطريقة الرمزية لتفسير العهد القديم هو فيلون الفيلسوف اليهودى الأسكندرى ، و يعتبر فيلو أن المعنى الحرفى للكتاب المقدس هو كالظل بالنسبة للجسم أما المعنى الرمزى العميق فيمثل الحقيقة الصحيحة و قد تبنى المفكرون المسيحيون الأسكندريون هذا المنهج لأنهم كانوا مقتنعين فى حالات كثيرة بكون التفسير الحرفى غير لائق بالله. [1]

و نجد أن ق. إكليمنضس الأسكندرى يستخدم التفسير الرمزى فى مرات كثيرة ، أما العلامة أريجانوس فقد جعل منه نظاماً و نظرية كاملة ، و لولا التفسير الرمزى لما استطاع على اللاهوت و علم تفسير الكتاب المقدس أن يخطو تلك الخطوات الأولى الرائعة و فى عصر إكليمنضس و أوريجانوس ، و فى وسط الثقافة الهلينية كان للتفسير الرمزى الفائدة الكبيرة لفتح مجال واسع أمام علم اللاهوت الناشىء حديثاً و السماح بوجود اتصال خصب بين الفلسفة اليونانية و الوحى الإلهى و بالإضافى إلى ذلك فإنه ساعد على حل أكبر مشكلة واجهت الكنيسة الأولى أى المعنى الذى يجب أن يعطى إلى العهد القديم هذا التفسير الرمزى يجد أصله الشرعى و مرجعيته عند القديس بولس الرسول ( فى غلا 4 : 24 ، 1كو 9 :9) ، و لكن الإتجاة الذى يميل إلى إيجاد معنى رمزى لكل سطر فى الكتاب المقدس مع إهمال المعنى الحرفى ليس خالياً من الأخطار.

Dom D Rees يقول
[كانت مدرسة الأسكندرية التعليمية  (ديد سقاليون) بلا شك أشهر معهد عقلى فى العالم المسيحى الأول و كان اهتمامها الأصلى منصباً على دراسة الكتاب المقدس و قد ارتبط اسمها بالتفسير الكتابى كان شغل هذه المدرسة التفسيرية الأولى هو اكتشاف المعنى الروحى فى كل موضع وراء السطور فى الكتاب ][2]
عمل اللاهوت الأسكندرى على المصالحة بين اللاهوت و الفلسفة أى بين الإيمان و المعرفة ، و لكنه قصد أن يكون هذا الترابط على أساس الكتاب المقدس و عقيدة الكنيسة ، و لذلك كان الله الكلمة هو محور اللاهوت الأسكندرى ، الذى فيه كل العقل و كل الحق قبل و بعد التجسد ، و قد ركزت على عقيدة لاهوت الكلمة المتجسد الامر الذى يتضح من الصراعات العديدة التى خاضتها فى هذا المضمار ، حيث يستفيض علماء  تلك المدرسة_ بإمتياز _ فى الحديث عن "اللوغوس / الكلمة" فى جوهره الإلهى ، و أعماله ، و السبيل للوصول إليه .

مدرسة  أنطاكية  و المنهج  الحرفى  التاريخى :

ظهر إتجاه نحو نهاية القرن الثالث واجة و قاوم بشدة و وضوح الإتجاة الرمزى الأسكندرى [3]، كانت هذه هى مدرسة أنطاكية و تسمى أيضاً بالمدرسة التفسيرية.و أسسها لوقيانوس / لوسيان
قد انتحت مدرسة أنطاكية فى تفسيرها للكتاب المقدس ، إلى الإلتزام بالإطار التاريخى و الإعتماد على معنى الآية الحرفى و الصريح كما تدل عليه اللغة و حالة الكاتب لقد كان منهج كنيسة أنطاكية عقلانياً تاريخياً ، حرفياً عنه بالنسبة لمدرسة الأسكندرية

 و لكن ليس معنى ذلك أن الانطاكيين لم يضعوا فى إعتبارهم المعنى الروحى و الجانب الإلهى فى كتابة الأسفار ، لكنهم إعتبروا أن التفسير اللغوى التاريخى هو صمام الأمان و الأساس الراسخ لفهم الأسفار المقدسة[4] ، دون أى تفسير آخر ، و يتضح ذلك فى أن الانطاكيين كانوا يرونَّ رموز أو تشبيهات مجازية أو استعارية للسيد المسيح ، أحياناً و ليس دائماً فى العهد القديم ، فأينما يكون التشابه واضحاً مميزاً و واضحاً فعندئذ فقط تعترف بما ينبىء عن المخلص أو يرمز إليه ، الرموز هى الاستثناء و ليست القاعدة فى دراستهم للعهد القديم فهم يرون أن التجسد مُعداً و مُجهزاً من خلال العهد القديم كله لكن لا يرون رموزاً أو صور تشبيهية فى كل موضع .
و كان هذا الإتجاه فعلاً حاجزاً منيعاً فى وجة التمادى فى التفسير الرمزى ، الذى إتجه نحو فرض المعنى الرمزى ، أكثر من الشرح المبسط ، و ترتب على ذلك تجاهل الروح فى مقابل الإحتفاظ بالحرف و قد استبلوا المعنى الرمزى بالتعليم الأخلاقى (خاصة الذى لذهبى الفم) و كانوا يتبنون فلسفة أرسطو
و مع ذلك فإن هذا التفسير الحرفى قد أخل أحياناً بالمضمون الروحى الإيمانى لآيات الكتاب المقدس و قاد إلى العديد من الضلالات ، و أخطاء عانت منها الكنيسة كثيراً. حيث قاد الاستخدام المفرط لهذه الطريقة اللغوية النحوية فى تفسير الكتاب الإلهى بعض ممثلى هذه المدرسة إلى هرطقات يفسرها جزئياً الإتجاة العقلانى ، أى الرغبة فى تخليص العقيدة المسيحية من كل عناصر الغموض و السرية و الرمزية ، الأمر الذى ظهر بعد ذلك فى الهرطقات الآريوسية و المكدونية و الأبولينارية و البلاجية و النسطورية .

و قد انعكست نتائج استخدام هذا المنهج على النظرة الخريستولوجية لتلك المدرسة :
حيث يؤكد العديد من اللاهوتيين الأنطاكيين على العنصر البشرى فى السيد المسيح فى نصوص الكتاب المقدس ، لقد إضطر الكثير من الأنطاكيين فى جدلهم مع الأريوسيين و الأبوليناريين إلى المبالغة فى التركيز على الطبيعة البشرية لله الكلمة المتجسد ، إلى الدرجة التى ذهبوا فيها إلى وجود شخص آخر اتحد به اللوغوس متنازلين فى ذلك عن وحدة شخص الرب يسوع المسيح فى الطبيعتين المتحدتين ، الإلهية و البشرية .، ففى البداية أكدوا على أن ناسوت السيد المسيح هو ناسوت حقيقى ، و لكن أكثرهم تطرفاً و على رأسهم ثيودورت و نسطوريوس مالوا إلى القضاء على وحدة شخص السيد المسيح و لم يروا فيه الله الإنسان أو الإله المتجسد ، بل إنسان حل فيه الله كان محور تركيزهم على يسوع التاريخى[5]

و تبعاً لذلك فقد تبنى الأنطاكيون نظرية الحلول الأقنومى ، ليس لمجرد مقاومة نظرية الإتحاد الأقنومى التى تبناها اللاهوت الأسكندرى ، بل لأنها تتناغم مع ميلهم إلى طريقة التفسير الحرفى و التاريخى بالنسبة للكتاب المقدس و تمسكهم برأيهم فيما يخص بطبيعة السيد المسيح  ، هذه النظرية التى خاض القديس كيرلس صراعاً طويلاً ضدها فى القرن الخامس الميلادى.
يقول ميندورف :
إن طريقة الفهم النقدى الصارم للبعض مثل ديودور الطرسوسى و ثيؤدور المبسويستى ، قادتم إلى دراسة نصوص الكتاب المقدس حرفياً ، من اجل وصف تاريخ خلاصنا بدلاً من شرحه و حيث أنهم تمسكوا بالتفسير الحرفى للعهد القديم ، ففى تفسيرهم للرسائل و البشائر فى العهد الجديد  و ضعوا تركيزهم على يسوع التاريخى فى ملء حقيقة طبيعته الإنسانية الذى هو هدف و غاية تاريخ إسرائيل[6]

Dockery و فى الأخير نضع قول العالم
الرمزية الأسكندرية تقود النفس إلى عالم المعرفة الحقيقية ، حيث يمكن اكتشاف رؤية الحق ، النظرية الأنطاكية تقود البشر إلى حياة أخلاقية حقيقية نشأت فى الصلاح و النضوج و سوف تكمل فى الأبدية.

الجذر  الفلسفى  للخلاف  بين المدرستين :
هذا الإختلاف بين كل من المدرستين كان اختلافاً فى طريقة التفكير ، و نجد جذوره فى الفلسفة اليونانية ،  فأصله يعود إلى خلاف قديم بين فلسفة أفلاطون و فلسفة أرسطو ، و طبعاً فنحن فى حاجة شديدة للتعرف على مكمن هذا الخلاف ، لأنه لا يمكن بأى حال أن نفصل اللاهوت عن الفلسفة خاصة و أن الكثير من الكتاب الكنسيين فى القرنين الثانى و الثالث كانوا أصحاب خلفيات فلسفية ، مثل القديس إكليمنضس و العلامة أوريجانوس مُنظـِّرى مدرسة الأسكندرية ، و لوقيانوس مؤسس مدرسة أنطاكية _الذى تنيح عام 312م
 أن النزعة التأملية التى أشتهرت بها مدرسة الأسكندرية ، نجد جذورها فى أفلاطون ، أما الواقعية و المنهج التجريبى التى اشتهرت به مدرسة أنطاكية فتعود جذورها إلى أرسطو ، تميل الأسكندرية إلى الرمزية ، أما أنطاكية فتميل إلى المذهب العقلى القائل بأن العقل فى ذاته هو مصدر المعرفة و هو أسمى من الحواس و مستقل عنها
فبينما نجد أفلاطون يحلق فى السماء نجد أرسطو يلمس الأرض و يبحث فى الواقع ، و يقسم القضايا التى تتعلق بكل علم تقسيماً دقيقاً ، كان أرسطو تلميذ لأفلاطون ، لكن فلسفته تحتلف كثيراً عن فلسفه معلمه حيث لم يكن أرسطو شاعراً خيالياً كأفلاطون ، إنما كان يحب الحقائق الواقعة و يميل إلى تقسيمها و وضع أسماء لها ، و يرى أن طريق المعرفة يجب أن يبدأ بالحقائق الواضحة ثم يتدرج منه إلى ما فوقها

مثالية أفلاطون :
كان أفلاطون يعتقد أن الذي نراه هو هذا العالم الذي نلمسه، ونختبره من خلال الحواس هو عالم غير حقيقي،  بل هو عالم مشابه أو مستنسخ من العالم الحقيقي المثالى الروحانى بصورة غير كاملة. في هذا العالم المحسوس الأشياء تتغير، تأتي وتذهب ، تبرد وتسخن ، انه عالم الأخطاء الكثيرة ،المشوه،المملوء من الشر ونحن نختبره في كل يوم، لكنه ليس عالم حقيقي
لكن هناك عالم حقيقي الذي توجد فيه كل الأشياء الحقيقية التي هي في صيغة الكمال ، التي لها صيغة  مشابهة اومستنسخة منها في عالمنا المحسوس ، كان يرى أن الحقيقة مركزها فى النظام الروحانى السماوى ، أى فى عالم الُمثل ، و ما عالم الحس المادى إلا مظهراً له ، حيث أن الحواس و ما تدركه من الأشياء الملموسة لا يمكن أن تصل الإنسان بالحقيقة ، بل يجب التأمل فى عالم المُثل و هو العالم الروحانى الحقيقى الصحيح الوحيد
مثلاً في ذلك العالم نجد الشجرة الحقيقية التي منها استنسخت الشجرة التي نراها الان. ونفس الشيء البيت الحقيقي الذي منه اشتقت فكرة البيت في عالمنا، اوكل الاشياء في الكون المرئي او المحسوس .ان هذا العالم هو عالم الحقيقة ، عالم الكمال  الغير متغير، لا يذبل اولا يموت ، وهو العالم الذي يبقى الى الابد
هذا العالم هو مستقل عن كل شيء وغير مـتأثر بالتغيرات التي تحصل للعالم الذي نختبره عن طريق الحواس
اذن عالمنا ليس عالم حقيقي لكنه عالم مبصومة او مطبوعة عليها فكرة الحقيقة . لذلك يقول افلاطون ان معرفتنا عن الحقيقة هي كمعرفة الجالسين في الكهف ظهرهم على نار  ويرون ظلال اشخاص يمرون من خلفهم على جدار الكهف،  لذلك العالم المادي هو غير كامل، بل هو عالم الاخطاء ،عالم النقص.ولا يعود نقصه الى عالم المثل او الحقيقي[7]

و قد انطبعت هذه النظرة التأملية الروحانية ـ المتطرفة ـ على فكر مدرسة الأسكندرية اللاهوتية ، التى تبنت هذا المنهج و سعت تلك المدرسة إلى التركيز على المعنى الروحى التأملى الرمزى للنص الذى يظهر بوضوح فى كتابات كبار رجالها من أمثال العلامة أوريجانوس .

واقعية أرسطو 
عزم أرسطو أن يصلح خطأ معلمه فتوجه بنظره إلى الطبيعة و ما فيها غير معترف بما أتُهِمت به هذه الأشياء المحسوسة من انها لا تمد الإنسان بالعلم الصحيح و لا تستطيع أن توصله للحقيقة، تلك الأشياء التى هجرها أفلاطون و طرحها وراء ظهره و ارتفع فى تأمله إلى عالم المثل المجرد ، فإعتزم أرسطو أن يهبط للطبيعة مرة ثانية ، فكانت فلسفته طبيعية عقلية ، فهو فيرى الحقيقة فى عالمنا الذى بين إيدينا ، لذلك كان غرضه أن يفهم ما حوله .
 و هما نظرتان يكاد يكونات متناقضان ، فالأول يرى أن عالمنا المحسوس لا يُفهم إلا بالعالم الآخر الروحانى الإلهى ، أما الثانى فيرى أن عالمنا يفهم من ذاته و بإعمال عقلنا فيه نفسه ، و قد انتقد أرسطو نظرية أفلاطون و قال أنها لا تعين على فهم الوجود ، و ما هى إلا تطورات خيالية ، لذلك كانت طريقة شرح أفلاطون لهذا العالم و لنظريات الاخلاق و الفن طريقة شعرية ، أما أرسطو فطريقته إعمال العقل فيما بين أيدينا ، و الإستعانة على ذلك بالمنطق ، و نظريته فى الأخلاق تشعر كأنه ينظر إلى الإنسان كمخلوق مادى و ليس كمخلوق إلهى ، و نظريته السياسية تدور حول نظرنه للجماعة و الدولة كما يراها فى العالم الأرضى ، لا على مثال كمالى نطلع إليه لنحتزى به كما هو الأمر عند أفلاطون ، لا يثق أفلاطون بالحواس و لا يرى أنها توصل إلى العلم ، أما أرسطو و إن رأى فيها نقصاً فهو يرى أنها آلات تصلح أن تستخدم لإدراك بعض الحقائق الأولية .
و هكذا انطبعت هذه النظرة الواقعية على عقول مُنظـِّرى مدرسة أنطاكية ، فأمتدوا بها نحو الإهتمام بالمعنى الحرفى التاريخى للنص مع عدم التركيز على التفسير الرمزى التأملى.
 + + + + + + + + + + + +

أمام كل هذا ...
وقف القديس كيرلس الأسكندرى مصالحاً بين المنهجين ، بدون أن ينحاز لأى منهما ، أو يغلبه على الآخر ، و استطاع أن يستخدم المنهج الرمزى الذى لآباء مدرسة الأسكندرية دون تطرف ، و دون أن يهمل المنهج الحرفى التاريخى اللغوى ، الأمر الذى استطاع أن يصل إليه ، بوضعه أساساً آخر بنى عليه منهجه التفسيرى ، بخلاف الأساس الفلسفى العقلى الذى اتبعه المفسرين فى كل من المدرستين من قبله ، و هذا الذى سوف نستعرضه فى المقال الأخير ، و القادم.


[1]محاضرة عن مدرسة الأسكندرية ، للدكتور نصحى عبد الشهيد / المركز الأرثوذكسى للدراسات الآبائية
[2]اللكنيسة القبطية الأرثوذكسية ، كنيسة علم و لاهوت ـ للأب تادرس يعقوب ملطى
[3]مدرسة أنطاكية ـ نظرة شاملة لعلم الباترولوجى فى القرون الستة الأولى / للأب تادرس يعقوب ملطى ، صـ 115
[4] دراسات فى آباء الكنيسة / لأحد رهبان برية القديس مقاريوس ، صـ 412
[5]على النقيض من ذلك فإن التركيز على ألوهة الكلمة المتجسد ، كانت هى أحد الملامح الأساسية فى اللاهوت الأسكندرى فقد حاول الأسكندريون أن يعملوا على سد الفجوة بين الله و العالم
[6] نظرة شاملة لعلم الباترولوجى فى القرون الستة الأولى ، صـ 119 / مرجع سابق
[7] أنظر أيضاً : تاريخ الفلسفة اليونانية / للدكتور يوسف كرم صـ 88 ، و محاضرات فى الفلسفة اليونانية للدكتور ماهر على 

2 comments:

Anonymous said...

مقارنة رائعة ما بين المنهج الرمزى (Allegorical interpretation ) اللى اتبنته كنيسة الاسكندرية و المنهج الحرفى اللى اتبتنته مدرسة انطاكية....: الرب يباركك

Micelle said...

منتظرين المقال الأخير ، و القادم. :))))