القديس كيرلس الكبير عمود الدين ، هو الذى دافع عن إيمان الكنيسة ضد الهرطقة النسطورية ، و هو الذى عبر عن عقيدة الكنيسة الأرثوذكسية فيما يتعلق بطبيعة السيد المسيح ( الخريستولوجى) و فيما يخص إتحاد الطبيعتين الإلهية البشرية اتحاداً أقنومياً فى شخص المسيح الواحد ، و فى نفس الوقت تميز القديس كيرلس بما قدمه من شرح و تفسير للكتاب المقدس الأمر الذى جعله من أعظم المفسرين للكتاب المقدس فى كل تاريخ الكنيسة ، و بينما إتبع الطريقة الرمزية الروحية لتفسير الكتب الإلهية ، إلا أن اهتمامه و تركيزه على الأمور العقائدية قد حماه من سوء استخدام هذه الطريقة فى التفسير كما فعل غيره من المفسرين
و لذلك فإن تعاليمة العقيدية فيما يختص بطبيعة السيد المسيح له المجد ضد كل من هرطقة آريوس و نسطور و أبوليناريوس و أفنوميوس ، كل هذه التعاليم تمثل الأساس لفهم شروحاته و تفسيراته للكتاب المقدس إذ هو يربط ربطاً محكماً بين عقيدة الكنيسة و بين تفسيره للكتاب المقدس ، كما أوضحنا ذلك فى المقال الأول من هذه الدراسة.
و لذلك فإن تعاليمة العقيدية فيما يختص بطبيعة السيد المسيح له المجد ضد كل من هرطقة آريوس و نسطور و أبوليناريوس و أفنوميوس ، كل هذه التعاليم تمثل الأساس لفهم شروحاته و تفسيراته للكتاب المقدس إذ هو يربط ربطاً محكماً بين عقيدة الكنيسة و بين تفسيره للكتاب المقدس ، كما أوضحنا ذلك فى المقال الأول من هذه الدراسة.
لقد إتبع القديس كيرلس فى كل كتاباته التفسيرية ، منهج التفسير الأسكندرى و أوصى بأن يترك المرء ما لا يفيده من التاريخ ، و أن ينزع "قشور" الحرف لكى نصل إلى "قلب" النبات [1]، بمعنى أن نفتش بكل تدقيق عن الثمر الداخلى المخفى و أن نتغذى به ، لكنه بدون شك ،لم يكن منحازاً إلى أولئك المتطرفين فى تفسيرهم الرمزى وفقاً للمنهج الأسكندرى ، كما أنه لم يكن من الماعادين لمنهج مدرسة أنطاكية فى التفسير ، فلقد عمل على استخدام كل من الطريقة الرمزية الروحية الأسكندرية مع الطريقة النموذجية النمطية أو المثالية الأنطاكية ، مستفيداً بذلك من كل من التقليدين الأسكندرى و الأنطاكى .
و هو بهذا المنهج استطاع أن يقدم تفسيراً متوازناً بين كلا من المنهجين الرمزى، و الحرفى التاريخى ، فكما أن الجرَّاح يمسك بمشرطه ليعالج المريض بدقة ، كذلك يمسك القديس كيرلس بمنهجه المتوازن هذا ، ليعالج النصوص الكتابية بحكمة متناهية.
فهو جمع كل من المدرستين ، الرمزية و التاريخية ، على أرضية خريستولوجية ، فى شخص الإله المتجسد يسوع المسيح ، الذى فيه يجتمع الله مع الإنسان ، و الزمن مع الأبدية ، و التاريخ مع الروح ، كلا الطبيعتين بلا انفصال و لا استحالة ، فما عاد للروح أن تطغى على الجسد كما كان تصور مدرسة الاسكندرية ، و لم يعد التاريخ هو سيد الرمز كما فى مدرسة أنطاكية ، بل أن الاثنان قد جُمعا معاً ... فى شخص المسيح ، لقد كان هذا منهجه منقوعاً فى صبغة التجسد .
غير أن التوجه العقيدى لدى القديس كيرلس الكبير لم يحد من طريقة تفسيره و هدفه فى شرحه للآيات ، بل على العكس فقد مد هذا التوجه العقيدى القديس كيرلس بمعيار لا يخطىء لكى يكتشف بواسطته المعنى الحقيقى و الهدف النهائى للإعلان الإلهى المدون فى الكتاب المقدس ، و هذا الربط المحكم بين التعاليم الخريستولوجية و التفسير الكتابى كان قائماً بإستمرار فى الكنيسة غير أننا نلاحظ عند القديس كيرلس تلك العلاقة المثالية بين التفسير الكتابى و إحتياجات الكنيسة التعليمية و التى تهدف بالأساس إلى البناء الحقيقى لها.
و هكذا يمكن النظر إلى أعمال القديس كيرلس التفسيرية على أساس هدفها النهائى و الذى هو حماية و شرح التعاليم العقيدية للكنيسة ، و بلاشك فإن هذا الهدف يعطى لهذه الأعمال التفسيرية قيمتها العظمى و يشكل عطاء القديس كيرلس الدائم لكل تاريخ التفسير الكتابى.
و بالتالى يتضح أهمية التوجه الخريستولوجى كأساس فى تفسير القديس كيرلس للكتاب المقدس ، اذ كلما صار التقليد و التعليم الخريستولوجى للكنيسة واضحاً و ثابتاً كلما صارت مبادىء التفسير الكتابى للآباء وضحة أيضاً و ثابتاً
لكن ، ما الذى جعل القديس كيرلس _ دون عن بقية الآباء الذين سبقوه فى كل من المدرستين ـ يتفرد بهذا المنهج الحكيم ؟ الأمر الذى نرجعه إلى عده عوامل و متغيرات أحاطت بشخصية القديس كيرلس الكبير ، إذ لا يمكن فصل منهج القديس عن شخصه و لا عن خلفياته اللاهوتية و الروحية .
أولاً : تـأثير حياته الرهبانية الروحانية الأولى :
فهو قد نشأ و تربى داخل كنيسة المسيح ، تحت نظر خاله البابا ثيؤفيلوس البطريرك الثالث و العشرون ، الذى أرسله إلى دير القديس الأنبا مقار ليتتلمذ على يد الشيوخ الروحانيين ، و من بينهم الأب ايسيذيروس البيليوزومى ، هناك مارس كيرلس الحياة المسيحية الإنجيلية ، لأن معلمه ايسيذوروس هكذا كان منهجه ، إنجيلياً روحياً صرفاً ، يعتبر أن الراهب إنسان يقتدى حرفياً بالمسيح ، و هكذا يظهر هذا الخط الرهبانى فى حياة القديس كيرلس ، فالرهبان قد وضعوا فى قلوبهم أن يعيشوا الكنيسة فى أصلها السمائى ، فالحياة الروحية فى المفهوم الرهبانى أصبحت مفهومة على أنها مشاركة فى الحياة الإلهية و عطية الإتحاد بالله و الشركة فى الطبيعة الإلهية ، التى تعرى منها آدم سابقاً ، و ها هى الآن تسترجع بالتجسد
و هكذا صارت الخبرة الرهبانية فى البرية هى البرهان و السند و الإثبات الأول على عقيدة التجسد ، هذا التراث الذى قدمته الرهبنة إلى القديس كيرلس ، كان منهجاً حياً عملياً أسهم اسهاماً أساسياً فى الدور الذى سيقوم به القديس كيرلس فى الرد على النسطورية ، و لذلك كان لاهوته يقوم على الجمع بين الله و الإنسان فى شخص المسيح
هناك فرق كبير بين كيرلس الذى نشأ فى أحضان الكنيسة ، و شرب من تقليدها الحى و عقيدتها الإلهية، و بين من تشرب من الفلسفة اليونانية الغارقة فى تأملاتها العقلية ، من أمثال أوريجانوس و لوقيانوس مُنظرى مدرستى الأسكندرية و أنطاكية اللاهوتيتين ، فالأساس الفلسفى للمدرستين ، و إن بدا ثابتاً و راسخاً ، بل و جذاباً و متماسكاً ، إلا انه لا يستطيع أن يستوعب الحياة التى أعطيت لنا فى المسيح ، كما أنه قاد إلى ضلالات عديدة ، و بالتالى نصبح فى حاجة شديدة للمنهج الرهبانى الذى يبنى المعرفة على أساس الإيمان ، و الإستيعاب السرى لعمل المسيح ، و شخصه ، و طبيعته ، فالقديس كيرلس عندما بنى منهجه التفسيرى على هذا الأساس الروحى الرهبانى ـ و ليس الفلسفى ـ قد جنب الكنيسة شطحات الرمزية و هرطقات الحرفية التاريخية و قدم تفسيراً اورثوذكسياً للكلام الإلهى ، دون السير فى ركب المدارس الفلسفية المجردة التى قادت أصحابها لمشكلات لاهوتية عديدة.
فالعلاقة بين التفسير التاريخى و الروحى تشابه بحسب القديس كيرلس العلاقة بين الإيمان و المعرفة ، فلابد أن يوجدا معاً فى حياة المؤمن و إن كان الإيمان لابد و أن يسبق المعرفة (إش 7 :9) و بالحرى فإن الإيمان يصل بالإنسان إلى المعرفة الكاملة ، و غير ذلك فإن الإيمان هو فى الواقع هو المعرفة الحقيقية عن الله ، كما أن المعرفة الحقيقية عن الله هى مزدوجة ، عقيدية و سلوكية ، بمعنى المعرفة القوية بالله و بناء عليها الحياة فى الفضيلة ، إن إتحاد الطبيعة الإلهية بالطبيعة البشرية فى شخص المسيح الواحد ، قد أعاد للعالم الروحى و العالم الحسى وحدتهما ، قد أعاد و حدة عمل كل أعضاء الإنسان معاً كما أعاد و حدة الحياة الروحية و الجسدية معاً .
لذلك قد التزم القديس كيرلس بشرح النص ، و الربط بين النص و العقيدة و الحياة الروحية ، بدقة لم تجعله ينسى التأويل الرمزى الشائع فى الأسكندرية من أيام أوريجانوس ، بشرط أساسى ، و هو أن يكون التفسير متفقاً مع العقيدة الأورثوذكسية و نافعاً للحياة الروحية
[و يمكننا أن نقبل أى تفسير طالما انه ليس غريباً عن الحق بشرط أن يكون له هدف واضح و لا يوجد ما يدعو الى رفض هذا التفسير لأنه يحتوى على براعة فى فهم عمل المسيح فى المستقبل]
تفسير إنجيل يوحنا صـ 54
و هذا الإلتزام التام بخضوع الفكر لعمل المسيح و روحه القدوس قد جعل الكثير من الدارسين يلقبونه بـ "معلم الحياة الروحية " ، لذلك نجده ينتقد الهراطقة فى عدم خضوعهم للحياة الروحية التى تسلمناها من الرب :
[ أنهم لا يقدرون الخطر الذى يقعون فيه عندما يحرفون هذه الأمور العالية و الثقيلة و كان من الأفضل أن يسكبوا دموعاً غزيرة و أن يصرخوا بصوت عالى الى الله قائلين " ضع يا رب حارساً على فمى و احفظ باب شفتى لا تمل قلبى الى كلمات الشر" ( مز 4 ، 141 : 3 س) لأن كلمات الشر هى كلمات حقاً تدمر السامعين لكننا نحن قد طرحنا ثرثراتهم جانباً لكى نسير فى طريق الإيمان المستقيم حافظين فى عقولنا ما هو مكتوب " هَادِمِينَ ظُنُونًا وَكُلَّ عُلْوٍ يَرْتَفِعُ ضِدَّ مَعْرِفَةِ اللهِ، وَمُسْتَأْسِرِينَ كُلَّ فِكْرٍ إِلَى طَاعَةِ الْمَسِيحِ" ( 2كو 10 : 5) اذاً لنحصر أنفسنا فى الموضوعات التى أمامنا و نخضع قلبنا لمجد الابن الوحيد محضرين كل الأشياء بحكمة الى طاعته أى لتجسده " أَنَّهُ مِنْ أَجْلِكُمُ افْتَقَرَ وَهُوَ غَنِيٌّ، لِكَيْ تَسْتَغْنُوا أَنْتُمْ بِفَقْرِهِ" (2كو 8 :9 ) ... أما نحن فقد اخترنا أن نعيش بالتقوى و نبتهج بالتعاليم الأرثوذكسية ]
تفسير إنجيل يوحنا صـ 161
ثانياً : الأمانة الشديدة للتقليد الرسولى ، و التمسك بتعاليم الآباء:
هذه البذرة الرهبانية الكنسية التى زُرعت فى القديس كيرلس منذ حداثته ، جعلته أميناً تجاه تعاليم هذه الكنيسة و آبائها ، فأصبح إنتمائه الأول لها و ليس للفلسفة العقلية حتى إن كانت هى الفلسفة الرمزية المتطرفة التى سبقه فيها أسلافه من آباء الأسكندرية ، حتى أننا لم نعثر فى كتاباته على شروحات لأهمية الفلسفة و مفهومها و علاقتها بالإيمان كما نجد عند القديس اكليمنضس الأسكندرى مثلاً.
القديس كيرلس لم يؤثر فى العلوم اللاهوتية بواسطة أفكاره فقط ، بل عن طريق منهجه أيضاً ، فهو فى الحقيقة الممثل الرئيسى للطريقة المدرسية بين الآباء الذين كتبوا باليونانية ، و يبدو أنه عن وعى و عن قصد قد خطط ليمد الممارسة السائدة لمدة طويلة بخصوص "استخراج براهين من الكتاب المقدس " لكى تشمل أيضاً استخراج براهين من الآباء ، و ليس هو الذى اخترع هذا المنهج الذى كان مستخدماً من قبله ، و لكن لم يحدث أن استخدم شخص آخر هذا المنهج بمثل هذه المهارة الفنية ، و الكمال التقنى الذى برع فيه معلمنا الأسكندرى العظيم .[3]
و إليه يرجع الفضل أنه ابتدأً من عصره فصاعداً أصبحت الشهادة الآبائية تقف مع الشهادة الكتابية كمرجع حاسم فى الجدل اللاهوتى ، ففى كتابه عن الثالوث القدوس يجمع و يلخص تعليم آباء الكنيسة و يقدمه بطريقه نظامية ، و قد أقنعه الصراع مع نسطوريوس أنه لا توجد طريقة أخرى لكسب المعركة سوى جعل إتفاق مع الآباء هو العنصر الحاسم فى كل المسائل التى تخص استقامه الإيمان ، و هو يتبع ذلك الخط منذ سنة 429 م فى خطابه إلى الرهبان ـ رسالة 1 ـ و فى رسالته الثانية إلى نسطوريوس سنة 430م و التى اعتمدها مجمع أفسس فيما بعد سنة 431م يقول :
[ و نشرح التعليم بصحة الإيمان لأولئك الذين يبحثون عن الحق ، و سوف يكون هذا صحيحاً جداً إن كنا نلتزم بتعاليم الآباء القديسين ، و إن كنا نجتهد أن نعتبرعم ذزى قيمة عظيمة ، و نمتحن أنفسنا "هل نحن فى الإيمان؟" كما هو مكتوب ، و نشكل أفكارنا حسناً جداً لتطابق آرائهم المستقيمة و التى بلا لوم ]
و أيضاً فى رسالته الثالثة إلى نسطور يسمى نفسه ،" محباً جداً للإعتقاد و مقتفياً تقوى الآباء القديسين" و يبنى تعليمه عن التجسد بقوله [ و إذ نتبع من كل ناحية اعترافات الآباء القديسين التى صاغوها بالروح القدس ، الذى كان ينطق فيهم ، و كما لو كنا نسير فى طريق ملوكى ]
فهو قد درس الآباء جيداً ، و عكف على قراءة كتاباتهم بعناية فائقة و كان يحتفظ فى خزانة البطريركية بالنسخ الأصلية لكتابات آباء الأسكندرية بالذات لتكون هى النسخ القياسية التى تقاس عليها النسخ المتداولة بين أساقفة العالم ، فإنه أثناء الحوار بينه و بين أساقفة انطاكية بعد مجمع أفسس ، قدم هؤلاء الأساقفة نسخة من رسائل البابا أثناسيوس إلى أبكتيتوس أسقف كورنثوس الذى كان قد أرسلها الرسولى له عام 372م تقريباً ، ليبرروا رأيهم فى شرح قانون إيمان نيقية ، لكن البابا كيرلس قد طابق هذه النسخة على الأصل الموجود لديه ، فإتضح أن فيها تلاعباً فى النسخ ، فقدم القديس كيرلس لهم صورة مضبوطة من الأصل المحفوظ لديه و كانت هى الأساس التى تمت عليه المصالحة بين كنيستى أنطاكية و الأسكندرية عام 433م
فى نص للقديس كيرلس يتضح لنا أثر الكتاب المقدس فى الآباء عموماً و كيف أن طعامهم الأساسى كان هو التعليم الإنجيلى و التعليم الرسولى [إن كل النفوس المستقيمة تجتهد أن تتبع تعاليم هؤلاء الآباء الذين بعد أن امتلأوا من تعاليم الإنجيل و الرسل و بعد أن نهلوا من الأسفار المقدسة إيماناً تقياً تماماً اقتدوا كلمة الحياة صاروا كواكب للعالم ]
و كثيراً من اقتباسات الآباء التى رجع اليها القديس كيرلس لم تكن سوى شرح لبعض مقاطع صعبة من الكتاب و كثيراً ما نعثر فى مقررات مجمع أفسس المسكونى ـ 22 يونيو سنة 431م ـ الذى كان هو رئيسه على هذه الكلمات "الآباء و الكتاب" كمرجع أساسى ، حيث تبنى المجمع مبدأ وجود برهان من الآباء ، و منذ ذلك الوقت صار نهجاً تقليدياً فى كل المجالات اللاهوتية فى الشرق ذلك لأن الآباء و الكتاب المقدس فى نظر القديس كيرلس كانا ينبوعاً واحداً و فى مناقشاته اللاهوتيه كثيراً ما يصعب علينا التفريق بين الحجة الكتابية و الحجة الآبائية عنده.
[ .. لذلك لزم الرجوع لمقالات الآباء القديسين الأرثوذكسيين لإظهار كيفية فهمهم للإيمان و كرازتهم به للآخرين ، حتى يتضح جيداً و بوضوح لكل الذين عندهم الغيمان المستقيم النقى كيف يجب أن يفهموه أو يشرحوه و يبشوا به ]
من أعمال مجمع أفسس المسكونى
لذلك جائت تفسيراته قمة فى الدقة و النضوج و الوضوح اللاهوتى و الروحى ، فهو دائماً ما يقدم التفسيرات الشائعة فى أيامه ، و لذلك فقد جائت هذه التفسيرات سجلاً تاريخياً لكل ما قيل حتى القرن الخامس ـ خصوصاً فى تفسيره لإنجيل يوحنا ـ و ما شاع فى أوساط الكنيسة و الهراطقة من آراء.
ثالثاً : الصراع الخريستولوجى حول طبيعة المسيح :
إذا كان المنهج الكيرلسى فى التفسير قد بُنى على أساس خريستولوجى ، فإنه ـ فى وجهة نظرى ـ كان لا يمكن أن يظهر هذا المنهج أو يتشكل إلا فى إطار تاريخى يفرض عليه هذا الظهور ، و يمده بالأساسات الراسخة التى سيقوم عليها ، و يدعمه بالأدلة الفكرية اللازمة ، و من هنا جاء هذا المنهج فى اللحظة التاريخية التى تفجر فيها الصراع حول طبيعة المسيح بين الأرثوذكسية و النسطورية.
قبل عهد كيرلس بقليل ، كان النشاط العقلى الزائد الذى نجده دائماً عند الهراطقة ، يمارس دوره فى فحص الإلهيات و تحليل الأسرار الفائقة للطبيعة و نقد التعليم الصحيح ، فبعد أن أستقر التعليم حول مساواة أقنوم الابن فى الجوهر مع أقنوم الآب ، و بالتالى أزلية لاهوت المسيح ، بدأ نوع آخر من الفحص العقلى الفضولى هو : ما شكل هذا الشىء الحادث فى شخص المسيح؟ أى أين الإلهى و الإنسانى فى المسيح و كيف اتحدا ؟ و ما نتائج اتحادهما ؟ و هذا هو الجدل حول طبيعة المسيح ، و من أسماء هؤلاء الهراطقة أبوليناريوس ، و أبيفانيوس من سلاميس ، و ديودوروس من طرسوس ، ثم ثيؤدور من مبسويستا الذى أدين عن تجديفاته التى ظهرت فى شخص تلميذه نسطور .
و منذ علمه بهرطقات بطريرك القسطنطنية هذا ، فى أواخر عام 428 م ، و هو يخوض صراع لا هوادة فيه ضد هذه الهرطقات ، التى لم تنته بموته ، و كان منطلق دقاعة القويم ضدها سوتيريولوجياً ، أى خلاصياً
رابعاً : النظرة الخلاصية لعقيدة التجسد :
بينما الهرطقة تؤكد على تعالى الله وحده ، أكثر من تعليمها عن رفعة الإنسان و عن المجد الروحى الذى ناله بالتجسد ، و المصير الأبدى الذى ينتظره فى الدهر الآتى ، نجد أرثوذكسية كيرلس فى تأكيدها على الوحدة الأقنومية الكائنة فى شخص المسيح تعلن أننا فى ظل هذه الوحدة لا يمكن ان نكون فى إنفصال أو افتراق عن التجسد ، أو عن المسيح فى أعماله الخلاصية التى تممها لأجلنا و لأجل خلاص كل البشر و بالتالى لن تكون فى إنفصال عن الله ، لأن غاية خلاص الله لنا أن يجعلنا واحداً معه ، و لكن دون أن تختلط بجوهره لتضيع فى ذات الله ، تماماً كما أن ابن الله بالتجسد لم "يتحول" إلى إنسان ، بل صار إنساناً ، هكذا الإنسان لا "يتحول" إلى الله ، بل" يصير" ـ بحد تعبير الآباء ـ مؤلَّهاً ، أو بحد تعبير الإنجيل "شركاء فـى الطبيعة الإلهية" ، هذا التوازن اللاهوتى الدقيق بين تنازل الله و بين رفعة الإنسان و الذى يضع خلاص الإنسان و مصيره الأبدى فى قمة تعليم القديس كيرلس كغاية التجسد و هو ما يسمى بأرثوذكسية التعليم حول طبيعة المسيح [4]
+ + + + + + + + + + + +
الخلاصة:
أن القديس كيرلس وضع أساساً لاهوتياً ، خريستولوجياً ، و بنى عليه منهجه التفسيرى ، بدلاً من المناهج الفلسفية التى بنيت عليها مدرستى الأسكندرية و أنطاكية ، فهو قد جمع الكل على أرضية الخضوع للحياة الروحية التى تسلمناها من المسيح بفعل روحه القدوس ، و التقليد الآبائى الراسخ فى الكنيسة المقدسة ، و النظرة الخلاصية لعقيدة التجسد التى يشرحها ، كل ذلك جعله يبنى منهجه بعيداً عن المناهج العقلية التى استندت عليها الفلسفة و جعلته ينطلق من هذا المنهج الضيق القاصر الذى اتبعه أسلافه إلى اللاهوت الذى هدفه خلاص الإنسان ، و الحياة الجديدة التى أُعطيت لنا فى الابن الوحيد ، المتجسد .
يُــتبع
بأمثلة من التفسيرات الرمزية عند القديس كيرلس
[4]أنظر أيضاً الدراسات المتعمقة التى خطها قلم الأب أثناسيوس المقارى عن الخلاص عند القديس كيرلس الكبير فى كتاب "دراسات فى آباء الكنيسة" ، و أيضاُ الدراسة اللاهوتية التى قام بها د / جورج حبيب بباوى " الخلاص كما شرحه القديس كيرلس الأسكندرى" على الموقع :
No comments:
Post a Comment