عقيدة "تألُّه الإنسان بالنعمة" عند آباء ما قبل نيقية (2)
سِر الثيوسيس
عند بقية آباء ما قبل نيقيـــة
( 150 ـ 210م ):
كانت مدرسة الأسكندرية تواجه خطر الغنوسية ، و لكى يفند مُعلمى هذه المدرسة هذه الهرطقات من البداية ، حاولوا أن يصبغوا التعليم اليونانى القديم عن تشبه الناس بالله عن طريق المعرفة و النسك ، بصبغة مسيحية ، فبمقابل هذا بشَّر هؤلاء الرواد بأن المعرفة الكاملة للتعليم الإلهى قد استُعلنت بواسطة كلمة الله ، هذه المعرفة أو الغنوسية المسيحية الحقيقية ،و التى تحتضن كل كيان الإنسان ، هى نتيجة عاملين اثنين ، هما المجهود الإنسانى و نعمة الله.
فالمعرفة ، الغنوسيس المسيحية ، التى هى التأمل فى الوجود الأعلى ، تجعل الإنسان أقرب إلى التشبه بالله الذى هو مصدر كل كمال و يسبغ على الإنسان عدم الشهوة و عدم الموت و الحكمة و المحبة و الإتضاع و الرحمة مثل الله .
و على هذا النمط من المعرفة المسيحية ، كان القديس إكليمندس ـ الذى يمثل الخصب الفكرى الفلسفى الممتزج بالحياة الروحية ـ هو أول من استخدم التعبير عنه لفظ " ثيوسيس " و " ثيوبوييسيس" فى صيغة الفعل ، و بحسب القديس اكليمندس، فإن قمة الثيوسيس هنا على الأرض يمكن أن تُرى فى الإتحاد الرؤيوى مع الله الذى يحدث للمتصوف أو المتامل فى الإلهيات أو المسيحى المجاهد عموماً ، و لكن على عكس الغنوسى فى الفكر الإفلاطونى الوثنى ، فإن هذا الشكل من المعرفة المسيحية الأرثوذكسية لا يجعل من المسيحى و الله شيئاً واحداً ، فهو ليس تأليهاً بالمعنى السىء المتعارف عليه من العامة و الذى يحمل الصفات السيئة مثل الكبرياء و التسلط و إدعاء العصمة و دينونة الآخرين ، فهذه هى صفات مُدعى التألُّه بالمعنى السىء ، بل بالعكس تماماً ، نعمة الثيوسيس المسيحى تهب الإنسان اتضاعاً و انسحاقاً شديدين ، بسبب الإحساس بعدم الاستحقاق مقابل هذه النعمة المتسامية فى العلو .
+ الابن المتجسد هو أصل الثيوسيس :
[ و الكلمة إذ هو العقل الإلهى ، لذلك فهو أساساً مُعلم العالم و مشرع الجنس البشرى ، و هو مخلص جنس البشر و مؤسس الحياة الجديدة التى تبدأ بالإيمان و تتقدم إلى المعرفة و التأمل و تقود بواسطة المحبة و أعمال الرحمة إلى الخلود و التأليه .][1]
[ فالتحول إلى المسيح ، سوف يؤدى إلى عدم الفساد و الخلاص ]
المربى ( 1 : 5 : 20)
[تجسد الكلمة لكى نتعلم نحن من إنسان كيف يمكن للإنسان أن يصير إلهاً ]
. Protrepticus 1: 8.4
[ دم المسيح له وجهان ، إذ يوجد الدم الذى فاض من جسده و هو الذى به افتدينا من الفساد و الدم الروحانى و هذا هو الدم الذى نُمسح به و من يشرب فى دم المسيح يصير شريكاً فى الخلود مع الرب ]
[ لقد جاء المسيح ، لكى ينقل الحياة الإنسانية من الفساد ، إلى التربة غير الفاسدة ، و لكى يعطى الإنسان نصيبه الإلهى فى الآب و يؤلِّه البشر بالتعليم السمائى عندما يكتب الشريعة فى داخلهم ]
و هذه الفقرة الأخيرة قد احتفظ بها هيبوليتوس ـ أبوليدوس ـ فى رده على الهراطقة ، فقرة 9
[ عندما يسكن الكلمة فى شخص ، فهو لا يتزين بالمساحيق و الألوان بل يحفظ فى قلبه هيئة اللوغوس لأن هذا يجعله مثل الله ، مثل هذا الشخص هو بالحقيقة جميل أكثر من الذى يتجمل ، لأنه يوجد جمال حقيقى و هو الله ، و من يسكن فيه الله يصبح إلهاً ، لأن الله يريد ذلك ]
(المربى 3 :2 ـ 1 )
و هكذا ينتهى اكليمندس من تعليمه بالتأكيد على أن غاية معرفة الخلاص و المغفرة و النجاة بالموت هى الثيوسيس ، و لم يحجب اكليمندس هذه الحقيقة حتى عن الوثنين الذين لم يدخلوا الإيمان بعد و هو يوجه خطابه إليهم
[ كلمة الله صار إنساناً ، حتى يصير الإنسان مؤلَّهاً فيه ]
الخطاب إلى الوثنيين ( 11 : 114: 4)
إكليمندس و هو يشرح آية العظة على الجبل " فَكُونُوا رُحَمَاءَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمْ أَيْضًا رَحِيمٌ" ( لو 6 : 36)، يقول أنها وصف للمسيحى المُقتدر الناضج كمتشبه بالله :
[ لأن الناموس يدعو الإقتداء إتِّباعاً ، و مثل هذا الإتِّباع على قد طاقة الإنسان ، يجعل الإنسان مماثلا ً للأصل ][2]
+ التألُّه .. سلوك .. و لا يَكُمل إلا بالأسرار :
فالقديس اكليمنضس قد وضع أساس الشركة فى الطبيعة الإلهية فى الأسرار بسبب عمل الروح القدس فى الأسرار ، و التأله هنا هو سلوك قداسة ، أى يكون للإنسان ذات تواضع المسيح ، و ليس اعتداد بالذات و افتخار فارغ
[ لقد آن الاوان الذى يجب أن نؤكد فيه أن المسيحى الملتزم ، غنى و أن له عقلاً راجحاً لأنه وُلِد من أصل نبيل ، لأن صورة الله مع مثاله ، عندما يصبح المسيحى ـ و قد خُلِق بالمسيح يسوع ـ و صار باراً و قديساً بواسطة معونة الحكمة ، فقد صار مثل الله ، حسبما قال النبى عن هذه النعمة الوافرة و الآن نحن ـ كما أقول ـ الذين نلنا التبنى و صار لنا الإرادة لكى ندعو الآب .]
(المتفرقات 2 : 125 ، 4 : 149)
[ إننا نستعيض عن الأرض بالسماء، إذ بالأعمال الصالحة نصير آلهة… وبسلوكنا في السماويات نصير كمن هم في السماء ]
[و يتعلم كل مسيحى هذه الحقيقة من الأسفار المقدسة ، لأن الأسفار تُقدِّس و تؤلِّه معاً ]
+ و اكليمندس يستشهد بآيات من العهد القديم ليشرح الآية الواردة فى ( 1كو11 : 1) "كُونُوا مُتَمَثِّلِينَ بِي كَمَا أَنَا أَيْضًا بِالْمَسِيحِ" ، حيث يقدم تعليمع عن الإقتداء بالمسيح الذى يعنى التحول إلى مشابهة الله ، حتى إن الإنسان يصير باراً و قديساً " فَكُونُوا رُحَمَاءَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمْ أَيْضًا رَحِيمٌ" ، بالحكمة ، و يقول أن القديس بولس يضع هذه المشابهة بالله ، كغرض للإيمان و كنهاية له ، و هذا هو تحقيق الوعد بالحياة الأبدية
ستروماتا ، المتنواعات ( 2 :22 )
[ المجد لك أيها النور الحقيقى ، لأن النور قد أشرق من السماء ، النور الذى هو أطهر من الشمس و أحلى من الحياة الأرضية ، أشرق فينا نحن ، الغارقين فى الظلمة و المحبوسين فى ظلال الموت ، هذا النور هو الحياة الأبدية و كل من يشترك فيه يحيا ، و لكن الليل يخاف من النور و يختبىء مرتعداً ، و هكذا يفسح المجال لنور الرب .
النور الذى لا ينام هو الآن فوق الكل ، و الغرب قد أعطى ثقته للشرق ، فهذا هو معنى الخليقة الجديدة ، لأن شمس البر الذى يقود مركبته فوق الكل ، ينتشر الآن بالتساوى فى كل البشرية ، مثل أبيه الذى يشرق شمسه على كل البشر ، و يفيض عليهم ندى الحق ، لقد غير الغروب إلى شروق ، و بالصليب حول الموت إلى حياة ، و إذ أنقذ الإنسان من الهلاك ، و أصعده إلى السموات و رفعه إلى الأجواء العليا ، محولاً الموت إلى خلود و نقل الأرض إلى السماء ، واهباً لنا ميراثاً إلهياً مع الآب ، الميراث العظيم و الإلهى حقاً و الذى لا يفسد ، مؤلهاً الإنسان بالعلم االسمائى ، جاعلاً نواميسه فى إذهاننا مكتوبة فى قلوبنا ...] [3]
+ و يجعل الاستنارة بالمعمودية هى الخطوة الأولى نحو التألُّه :
[ إذ قد اعتمدنا ، فقد استنرنا ، و لأننا استنرنا فقد صرنا أبناء ، و لأننا صرنا أبناء فقد صرنا كاملين ، و لاننا صرنا كاملين فنحن نصير خالدين ، إذ يقول الرب " أَنَا قُلْتُ: إِنَّكُمْ آلِهَةٌ وَبَنُو الْعَلِيِّ كُلُّكُمْ" مز 82 : 6 ، و هذا العمل يُسمى بأسماء متنوعة ، فهو نعمة و استنارة و اكتمال و غسل ، الغسل الذى به نتطهر ، و النعمة التى هى ترفع عنا عقاب تعدياتنا و الاستنارة التى نرى بها نور الخلاص المقدس أى التى بها نرى الله بوضوح ]
المربى ـ الكتاب الأول ـ ف 26 : 1
يوستينوس الشهيد (165 م ):
القديس يوستينوس _ العظيم فى المُدافعين عن الإيمان المسيحى ـ يُعلم بأن الإنسان يمكن أن يتأله حسب قصد الله من خلقته ، فيقول فى فصل 24 من الحوار مع تريفو اليهودى :
[ الله خلق الإنسان على مثاله حياً لا يموت ، حراً من المعاناة ، و اشترط عليه أن يحفظ وصاياه ، و يثبت أهليته أن يُدعى ابناً له ، و لكن الإنسان فَعَل فِعل آدم و حواء فجلب على نفسه الموت ]
و أضاف يوستينوس فقال : [ و فسر المزمور الحادى و الثمانين كما تشاء ، فيظل هذا المزمور يشهد أن جميع الناس يستحقون أن يكونوا آلهه و أم كلاً منهم سيدان و يُحكم عليه كما حُكم على آدم و حواء ][4]
القديس ثيؤفيلوس الأنطاكى (180م):
[ هل خلق الله الإنسان مائتاً بالطبيعة ؟ ، بالتأكيد لا ، إذن هل كان خالداً ؟ و لا نستطيع أن نؤكد هذا أيضاً ، ، و قد يسأل أحدهم ، هل كان عدماً ً ؟ و حتى هذا أيضاً لا يكون صواباً ، فالإنسان بالطبيعة لم يكن مائتاً ، و لا كان خالداً ، لأنه لو كان خُلق مائتاً ، كان الله حينئذ سيبدو أنه هو سبب موته ، إذن فإن الله لم يصنعه خالداً ، و لا صنعه مائتاً ، بل كما قلنا صنعه قابلاً للحالتين ، حتى أنه إذا مال إلى الأمور الخالدة حافظاً وصية الله فإنه ينال من الله مكافأة الخلود و يصير إلهاً ، و لكن من الناحية الأخرى إن تحول إلى أمور الموت ، بعدم طاعته لله ، فإنه يصير هو نفسه سبب الموت لنفسه ، لأن الله خلق الإنسان حُراً و له سلطان على ذاته ][5]
الرسالة الثانية إلى أوتوليكوس 2 : 27
و هكذا و بحسب القديس ثيؤفيلوس الأنطاكى ، الذى كان عدواً لدوداً للفلسفة بصفة استثنائية ، فإن الإنسان سيصير غير مائت بنعمة الله و يمكن أن يطلق عليع اسم " إله مُستعلن ".
العلامة أوريجانوس ( 185 ـ 254 م ) :
هذا العالم الفذ الذى يمثل عمق التأمل و أصالة المعرفة ، يرى في المعموديّة أساس الحياة الروحيّة كلها في مختلف مراحلها. فالمعمودية تشرك الإنسان في حياة الكلمة؛ والروح، بالإيمان والمعرفة والمحبة، يقوده إلى الآب. فيصير إنساناً جديداً، قد تحرر من الاستعباد للخطيئة، وأخاً للمسيح وابناً للآب.وهكذا يشترك في الطبيعة الالهيّة بالمحبة والروح اللذين أفيضا في قلبه.
بالروح يشترك المسيحيّ في الكلمة الذي يصبح فيه مبدأ الحياه إلهية. وهكذا يتجدّد سكنى الكلمة في أحشاء مريم وميلاده في أعضاء جسده السري. وتلك السكنى تصيّر الإنسان على صورة الكلمة.
[ إني أعلم ما في النفس التي يسكنها الله، وها هي النفس المقفرة. إن لم يكن الله فيها، إن لم يكن فيها المسيح الذي قال: أنا وأبي سنأتي إليه وعنده نجعل مقامنا، إن لم يكن فيها الروح القدس، فالنفس مقفرة. ولكن إن سكن فيها الله والمسيح والروح القدس، فهي ممتلئة من الله][6]
القديس هيبوليتوس الرومانى ( 160 ـ 235 م ):
و مه من آباء الغرب أيضاً ، و قال :[ دع اليهود يأكلون الفطير سبعة أيام حتى سبعة دهور العالم ، أما نحن فالمسيح فصحنا و قد ذُبح لأجلنا و قد قبلنا منه عجينة جديدة بإتحادنا معه ][7]
القديس هيبوليتوس
و نفس هذه الأفكار نجدها فى كتابات ميثوديوس الأوليمبى (إستشهد عام 311م )
القديس كبريانوس أسقف قرطاجنة ( 200 ـ 258 م) :
و هو يمثل آباء الغرب ، شمال أفريقيا ، و هو يُقدم الإتحاد بالمسيح كغاية إفخارستية :
[ طلما أن المسيح حملنا هو فى نفسه ، كما حمل أيضاً خطايانا ، فإننا نرى أن الماء يمثل الشعب ، و عصير الكرم يمثل دم المسيح ، _ يقصد مزيج الماء و الخمر فى تقدمة الإفخارستيا ـ فحينما يمتزج الماء بالخمر فى الكأس ، يكون الشعب متحداً بالمسيح ، و يكون جمهور المؤمنين قد اتحد بالمسيح الذين آمنوا به ، إن الماء اتحد بالخمر فى كأس الرب حتى أنهما لا يمكن أن ينفصلا ، و بنفس الوضع فإن الكنيسة التى هى جمهور المؤمنين المتحدين فى الكنيسة و الذين يحفظون الإيمان ، لا يمكن أن ينفصلوا عن المسيح .
الكنيسة سوف تظل ملتصقة بالمسيح بحب غير منقسم ، و لهذا السبب ليس من الجائز تقديم الماء وحده أو الخمر وحده فى كأس التقدمة ، لأنه إذا قُدم الخمر وحده فكان دم المسيح قد قُدم بدوننا ، و إن قُدم الماء وحده فكان الشعب قائم بدون المسيح...
و كما أن كأس الرب ليس هو الماء فقط و لا هو الخمر فقط بل مزيج من الإثنين ، هكذا ليس الدقيق وحده و لا الماء وحده يصير جيد المسيح ، لابد من مزيج الإثنين معاً ، لابد أن يلتحم الواحد مع الآخر ليصير خبزة واحدة ، و هذكذا نرى ان السر نفسه يرمز إلى وحدة الشعب المسيحى ، إذ كما تجتمع حبة القمح معاص و تٌطحن معاً و تُعجن معاً ، لتكون خبزة واحدة ، هكذا فلنتحقق من اننا نحن لسنا سوى جسد واحد فى المسيح ، إنه الخبز السماوى الذى نلتئم و نتحد به ][8]
إن الاقتداء بالله أو الاقتداء بالمسيح يعنى فى نظره شيئاً أكثر من مجرد التمثل الإرداى بالله و بالمسيح فى أعماله و وصاياه ، بل كما يقول القديس كبريانوس لشعبه ، حاثاً إياهم [ أن يقتدوا بمن يصيرون على شبهه يوماً من الأيام ]
الصلاة الربانية 6 : 36
+ + + + + + + + + + + +
تَــذوُّق الشركة مع الله !
و فى نهاية هذه "الدراسة" ، و حتى لا تظل المعانى السيئة التى تعلق فى أذهان البعض عن "تألُّه الإنسان" باقية ، نورد الكلمات المُباركة التى خطَّها قلم الأب متى المسكين عن سر الإتحاد بالله فى كتابه الخالد " حياة الصلاة الأرثوذكسية" ، و الجدير بالذكر أن شرح هذا الأب القديس فى هذا الكتاب لهذه العقيدة لم يرد عليه أدنى إعتراض ، سواء فى كتاب "بدع حديثة" لقداسة البابا شنودة الثالث ، أو فى غيره من الكتابات .
[ الإتحاد بالله هو تعبير لاهوتى مختصر للحالة التى يطلبها المسيح لنا من الآب ...
و قد تحققت هذه الطلبة بموت المسيح و قيامته ، فصرنا حسب قول بطرس الرسول " شُرَكَاءَ الطَّبِيعَةِ الإِلهِيَّةِ" (2بط 1 : 4 ) ، و الكنيسة تضع هذه الغاية امام أولادها منذ اللحظة الاولى التى يدخلون فيها جرن المعمودية ، فحسب قول القديس إيرينيؤس [ بواسطة الروح القدس نرتفع إلى المسيح ، و بواسطة المسيح نرتفع إلى الآب ] حيث أن الإتحاد هنا يستعلن على ثلاثة مستويات ، و بحسب قول القديس أثناسيوس الرسولى [ فى ابن الله نصير أبناء الله ]" ، حيث أن الإتحاد يُفهم أنه رسوخ فى علاقة بنوية أبدية خالدة.
و يشترك كل زمرة آباء الكنيسة العظام فى التأكيد على الإمكانية الجديدة التى اكتسبتها الطبيعة البشرية ككل ـ فى تجسد المسيح و تأنسه ـ و قبولها خلقة جديدة سمائية بالماء و الروح بتوسط المسيح ، فيها تصبح الطبيعة البشرية فى حالة اتحاد بالله بالنعمة ، التى يعبر عنها الآباء بكلمة " تألُّه" : [ لأن ابن الله تأنس لنتألَّه نحن ]
القديس آثناسيوس الرسولى ، كتاب تجسد الكلمة ف 54
و لأهمية هذه العقيدة القائلة بإمكانية " تألُّه " الإنسان ، نشير بإختصار إلى بعض المواضع التى ورد فيها شره هذه الصيغة اللاهوتية عند الآباء الأوائل :
+ يوستينوس الشهيد
+ إيرينيئوس
+ كليمندس الإسكندرى .
+ هيبوليتوس.
+ أثناسيوس.
+ غريغوريوس اللاهوتى .
+ غريغوريوس النيسى.
و لكن مفهوم التألُّه الذى يقصده الآباء ، لا يعنى تحول الطبيعة البشرية إلى طبيعة إلهية ، و لكن تأهيل الطبيعة البشرية للحياة مع الله فى شركة المحبة ، و ذلك برفع الحاجز الخطير الذى يفصل حياة الإنسان عن حياة الله أى الخطية ، و ذلك بتوسل غسل و تقديس دم المسيح لنا و تناولنا من جسده ، لذلك فالتألُّه أو الإتحاد بمفهومه الكامل كحياة مع الله لا يمكن أن تتحقق إلا بالقيامة من الأموات ، و لكن لأنه قد أعطى لنا منذ الآن وسائط نعمة و وصايا و قوة إلهية لكى نغلب بها الخطية و العالم و حياة هذا الدهر ، لذلك فقد انفتح أمام الإنسان باب إمكانية تذوق الإتحاد بالله بشركة المحبة و الطاعة منذ الآن .
إذن ، فإتحاد الإنسان بالله ، أى التألُّه ، هو هدف شرعى بموجب سبق اتحاد اللاهوت بالناسوت فى التجسد الذى جعله المسيح غاية لنا أيضاً ، حيث يشمل الإتحاد كل وسائط النعمة المجانية و هى المعمودية و التناول و التوبة الدائمة ، كما يشمل جهادات كالصوم و العفة و ضبط اللسان و الفكر و الصلاة باستمرار و كل أعمال المحبة و الإتضاع ، كما يشمل حتماً معونة الله الخفية للمجاهدين ، فبالرغم من ان الإتحاد بالله هو الغاية النهائية التى لا يمكن أن تكمل لنا إلا فى القيامة ، إلا أنه حصيله الإيمان و العمل الذى ينبغى أن يكمل هنا فى هذا الدهر.
و بالإختصار ، فإن الإتحاد بالله فى مفهومه الحاضر فى هذه الحياة يعنى التحول المستمر من حياة حسب الجسد إلى حياة حسب الروح ، الذى نجوزه بالإيمان و الجهد و الدموع كل يوم و كل ساعة وفق مشيئة الله و حسب شروط الملكوت التى أعلنها الإنجيل.
و لكن الذى ينبغى أن يوضع نصب أعيننا باستمرار ، إزاء إمكانية الإتحاد بالله هو شخص يسوع المسيح ، لأن من خلال طاعته و حبة يَكمُل الإتحاد بالله ، لأنه هو الذى أكمل اتحاد اللاهوت بالناسوت فى نفسه أولاً لكى يعطيه لنا بسر الحل الفائق .
فالإتحاد حقيقة عملية فى المسيحية نذوقها فى عبادتنا و حبنا للمسيح ، و لكن لا يمكننا أن نفهمها أو ندركها بعقلنا ، فهى من حيث المنطق العقلى امر مستحيل ، أما من حيث سر التجسد و خبرة المحبة و الإيمان ، فهى أمر حقيقى وواقع مُذاق.
و الإتحاد بالله ليس موضوعاً ثانوياً فى الإيمان أو العقيدة ، بل هو أساس كل الإيمان و العقيدة ، فهى غاية الله النهائية التى من اجلها أرسل ابنه الوحيد ، إلى العالم متجسداً ، " إِذْ عَرَّفَنَا بِسِرِّ مَشِيئَتِهِ، حَسَبَ مَسَرَّتِهِ الَّتِي قَصَدَهَا فِي نَفْسِهِ، لِتَدْبِيرِ مِلْءِ الأَزْمِنَةِ، لِيَجْمَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ، مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأَرْضِ، فِي ذَاكَ " أى المسيح (أف 1 : 9 :10)
أى أن سر إتحاد البشرية بالمسيح هو أقصى غايات التجسد و الصلب و القيامة بل و الخليقة كلها .[9]
انتهى بنعمة الرب