Sunday, 20 March 2011

سر الثيوسيس عند بقية آباء ما قبل نيقية


عقيدة "تألُّه الإنسان بالنعمة" عند آباء ما قبل نيقية (2)

سِر  الثيوسيس
عند بقية  آباء ما قبل نيقيـــة



القديس إكليمندس الإسكندرى
( 150 ـ 210م ):
كانت مدرسة الأسكندرية تواجه خطر الغنوسية ، و لكى يفند مُعلمى هذه المدرسة هذه الهرطقات من البداية ، حاولوا أن يصبغوا التعليم اليونانى القديم عن تشبه الناس بالله عن طريق المعرفة و النسك ، بصبغة مسيحية ، فبمقابل هذا بشَّر هؤلاء الرواد بأن المعرفة الكاملة للتعليم الإلهى قد استُعلنت بواسطة كلمة الله ، هذه المعرفة أو الغنوسية المسيحية الحقيقية ،و التى تحتضن كل كيان الإنسان ، هى نتيجة عاملين اثنين ، هما المجهود الإنسانى و نعمة الله.
فالمعرفة ، الغنوسيس المسيحية ، التى هى التأمل فى الوجود الأعلى ، تجعل الإنسان أقرب إلى التشبه بالله الذى هو مصدر كل كمال و يسبغ على الإنسان عدم الشهوة و عدم الموت و الحكمة و المحبة و الإتضاع و الرحمة مثل الله .
و على هذا النمط من المعرفة المسيحية ، كان القديس إكليمندس ـ الذى يمثل الخصب الفكرى الفلسفى الممتزج بالحياة الروحية ـ هو أول من استخدم التعبير عنه لفظ " ثيوسيس " و " ثيوبوييسيس" فى صيغة الفعل ، و بحسب القديس اكليمندس، فإن قمة الثيوسيس هنا على الأرض يمكن أن تُرى فى الإتحاد الرؤيوى مع الله الذى يحدث للمتصوف أو المتامل فى الإلهيات أو المسيحى المجاهد عموماً ، و لكن على عكس الغنوسى فى الفكر الإفلاطونى الوثنى ، فإن هذا الشكل من المعرفة المسيحية الأرثوذكسية لا يجعل من المسيحى و الله شيئاً واحداً ، فهو ليس تأليهاً بالمعنى السىء المتعارف عليه من العامة و الذى يحمل الصفات السيئة مثل الكبرياء و التسلط و إدعاء العصمة و دينونة الآخرين ، فهذه هى صفات مُدعى التألُّه بالمعنى السىء ، بل بالعكس تماماً ، نعمة الثيوسيس المسيحى تهب الإنسان اتضاعاً و انسحاقاً شديدين ، بسبب الإحساس بعدم الاستحقاق مقابل هذه النعمة المتسامية فى العلو .

+ الابن المتجسد هو أصل الثيوسيس :  
 [ و الكلمة إذ هو العقل الإلهى ، لذلك فهو أساساً مُعلم العالم و مشرع الجنس البشرى ، و هو مخلص جنس البشر و مؤسس الحياة الجديدة التى تبدأ بالإيمان و تتقدم إلى المعرفة و التأمل و تقود بواسطة المحبة و أعمال الرحمة إلى الخلود و التأليه .][1]
[ فالتحول إلى المسيح ، سوف يؤدى إلى عدم الفساد و الخلاص ]
 المربى ( 1 : 5 :  20)
 [تجسد الكلمة لكى نتعلم نحن من إنسان كيف يمكن للإنسان أن يصير إلهاً ]
. Protrepticus 1: 8.4
[ دم المسيح له وجهان ، إذ يوجد الدم الذى فاض من جسده و هو الذى به افتدينا من الفساد و الدم الروحانى و هذا هو الدم الذى نُمسح به و من يشرب فى دم المسيح يصير شريكاً فى الخلود مع الرب ]
[ لقد جاء المسيح ، لكى ينقل الحياة الإنسانية من الفساد ، إلى التربة غير الفاسدة ، و لكى يعطى الإنسان نصيبه الإلهى فى الآب و يؤلِّه البشر بالتعليم السمائى عندما يكتب الشريعة فى داخلهم ]
و هذه الفقرة الأخيرة قد احتفظ بها هيبوليتوس ـ أبوليدوس ـ فى رده على الهراطقة ، فقرة 9
[ عندما يسكن الكلمة فى شخص ، فهو لا يتزين بالمساحيق و الألوان بل يحفظ فى قلبه هيئة اللوغوس لأن هذا يجعله مثل الله ، مثل هذا الشخص هو بالحقيقة جميل أكثر من الذى يتجمل ، لأنه يوجد جمال حقيقى و هو الله ، و من يسكن فيه الله يصبح إلهاً ، لأن الله يريد ذلك ] 
 (المربى 3 :2 ـ 1 )
و هكذا ينتهى اكليمندس من تعليمه بالتأكيد على أن غاية معرفة الخلاص و المغفرة و النجاة بالموت هى الثيوسيس ، و لم يحجب اكليمندس هذه الحقيقة حتى عن الوثنين الذين لم يدخلوا الإيمان بعد و هو يوجه خطابه إليهم
[ كلمة الله صار إنساناً ، حتى يصير الإنسان مؤلَّهاً فيه ]
الخطاب إلى الوثنيين ( 11 : 114: 4)
إكليمندس و هو يشرح آية العظة على الجبل " فَكُونُوا رُحَمَاءَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمْ أَيْضًا رَحِيمٌ" ( لو 6 : 36)، يقول أنها وصف للمسيحى المُقتدر الناضج كمتشبه بالله :
[ لأن الناموس يدعو الإقتداء إتِّباعاً ، و مثل هذا الإتِّباع على قد طاقة الإنسان ، يجعل الإنسان مماثلا ً للأصل ][2]

 + التألُّه .. سلوك .. و لا يَكُمل إلا بالأسرار :
فالقديس اكليمنضس قد وضع أساس الشركة فى الطبيعة الإلهية فى الأسرار بسبب عمل الروح القدس فى الأسرار ، و التأله هنا هو سلوك قداسة ، أى يكون للإنسان ذات تواضع المسيح ، و ليس اعتداد بالذات و افتخار فارغ
[ لقد آن الاوان الذى يجب أن نؤكد فيه أن المسيحى الملتزم ، غنى و أن له عقلاً راجحاً لأنه وُلِد من أصل نبيل ، لأن صورة الله مع مثاله ، عندما يصبح المسيحى ـ و قد خُلِق بالمسيح يسوع ـ و صار باراً و قديساً بواسطة معونة الحكمة ، فقد صار مثل الله ، حسبما قال النبى عن هذه النعمة الوافرة    و الآن نحن ـ كما أقول ـ الذين نلنا التبنى و صار لنا الإرادة لكى ندعو الآب .]
(المتفرقات 2 : 125 ، 4 : 149)
[ إننا نستعيض عن الأرض بالسماء، إذ بالأعمال الصالحة نصير آلهة… وبسلوكنا في السماويات نصير كمن هم في السماء ]
 [و يتعلم كل مسيحى هذه الحقيقة من الأسفار المقدسة ، لأن الأسفار تُقدِّس و تؤلِّه معاً ]
 + و اكليمندس يستشهد بآيات من العهد القديم ليشرح الآية الواردة فى ( 1كو11 : 1) "كُونُوا مُتَمَثِّلِينَ بِي كَمَا أَنَا أَيْضًا بِالْمَسِيحِ" ، حيث يقدم تعليمع عن الإقتداء بالمسيح الذى يعنى التحول إلى مشابهة الله ، حتى إن الإنسان يصير باراً و قديساً " فَكُونُوا رُحَمَاءَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمْ أَيْضًا رَحِيمٌ" ، بالحكمة  ، و يقول أن القديس بولس يضع هذه المشابهة بالله ، كغرض للإيمان و كنهاية له ، و هذا هو تحقيق الوعد بالحياة الأبدية
ستروماتا ، المتنواعات ( 2 :22 )
 [ المجد لك أيها النور الحقيقى ، لأن النور قد أشرق من السماء ، النور الذى هو أطهر من الشمس و أحلى من الحياة الأرضية ، أشرق فينا نحن ، الغارقين فى الظلمة و المحبوسين فى ظلال الموت ، هذا النور هو الحياة الأبدية و كل من يشترك فيه يحيا ، و لكن الليل يخاف من النور و يختبىء مرتعداً ، و هكذا يفسح المجال لنور الرب .
النور الذى لا ينام هو الآن فوق الكل ، و الغرب قد أعطى ثقته للشرق ، فهذا هو معنى الخليقة الجديدة ، لأن شمس البر الذى يقود مركبته فوق الكل ، ينتشر الآن بالتساوى فى كل البشرية ، مثل أبيه الذى يشرق شمسه على كل البشر ، و يفيض عليهم ندى الحق ، لقد غير الغروب إلى شروق ، و بالصليب حول الموت إلى حياة ، و إذ أنقذ الإنسان من الهلاك ، و أصعده إلى السموات و رفعه إلى الأجواء العليا ، محولاً الموت إلى خلود و نقل الأرض إلى السماء  ، واهباً لنا ميراثاً إلهياً مع الآب ،  الميراث العظيم و الإلهى حقاً و الذى لا يفسد ، مؤلهاً الإنسان بالعلم االسمائى ، جاعلاً نواميسه فى إذهاننا مكتوبة فى قلوبنا ...] [3]

+ و يجعل الاستنارة بالمعمودية هى الخطوة الأولى نحو التألُّه :
 [ إذ قد اعتمدنا ، فقد استنرنا ، و لأننا استنرنا فقد صرنا أبناء ، و لأننا صرنا أبناء فقد صرنا كاملين ، و لاننا صرنا كاملين فنحن نصير خالدين ، إذ يقول الرب " أَنَا قُلْتُ: إِنَّكُمْ آلِهَةٌ وَبَنُو الْعَلِيِّ كُلُّكُمْ"  مز 82 : 6  ، و هذا العمل يُسمى بأسماء متنوعة ، فهو نعمة و استنارة و اكتمال و غسل ، الغسل الذى به نتطهر ، و النعمة التى هى ترفع عنا عقاب تعدياتنا و الاستنارة التى نرى بها نور الخلاص المقدس أى التى بها نرى الله بوضوح ]
المربى ـ الكتاب الأول ـ ف 26 : 1

يوستينوس الشهيد (165 م ):
القديس يوستينوس _ العظيم فى المُدافعين عن الإيمان المسيحى ـ يُعلم بأن الإنسان يمكن أن يتأله حسب قصد الله من خلقته ، فيقول فى فصل 24 من الحوار مع تريفو اليهودى :
 [ الله خلق الإنسان على مثاله حياً لا يموت ، حراً من المعاناة ، و اشترط عليه أن يحفظ وصاياه ، و يثبت أهليته أن يُدعى ابناً له ، و لكن الإنسان فَعَل فِعل آدم و حواء فجلب على نفسه الموت ]
و أضاف يوستينوس فقال : [ و فسر المزمور الحادى و الثمانين كما تشاء ، فيظل هذا المزمور يشهد أن جميع الناس يستحقون أن يكونوا آلهه و أم كلاً منهم سيدان و يُحكم عليه كما حُكم على آدم و حواء ][4]

القديس ثيؤفيلوس الأنطاكى (180م):
 [ هل خلق الله الإنسان مائتاً بالطبيعة ؟ ، بالتأكيد لا ، إذن هل كان خالداً ؟ و لا نستطيع أن نؤكد هذا أيضاً ، ، و قد يسأل أحدهم ، هل كان عدماً ً ؟ و حتى هذا أيضاً لا يكون صواباً ، فالإنسان بالطبيعة لم يكن مائتاً ، و لا كان خالداً ، لأنه لو كان خُلق مائتاً ، كان الله حينئذ سيبدو أنه هو سبب موته ، إذن فإن الله لم يصنعه خالداً ، و لا صنعه مائتاً ، بل كما قلنا صنعه قابلاً للحالتين ، حتى أنه إذا مال إلى الأمور الخالدة حافظاً وصية الله فإنه ينال من الله مكافأة الخلود و يصير إلهاً ، و لكن من الناحية الأخرى إن تحول إلى أمور الموت ، بعدم طاعته لله ، فإنه يصير هو نفسه سبب الموت لنفسه ، لأن الله خلق الإنسان حُراً و له سلطان على ذاته ][5]
الرسالة الثانية إلى أوتوليكوس 2 : 27
و هكذا و بحسب القديس ثيؤفيلوس الأنطاكى ، الذى كان عدواً لدوداً للفلسفة بصفة استثنائية ، فإن الإنسان سيصير غير مائت بنعمة الله و يمكن أن يطلق عليع اسم " إله مُستعلن ".

العلامة أوريجانوس ( 185 ـ 254 م ) :
هذا العالم الفذ الذى يمثل عمق التأمل و أصالة المعرفة ، يرى في المعموديّة أساس الحياة الروحيّة كلها في مختلف مراحلها. فالمعمودية تشرك الإنسان في حياة الكلمة؛ والروح، بالإيمان والمعرفة والمحبة، يقوده إلى الآب. فيصير إنساناً جديداً، قد تحرر من الاستعباد للخطيئة، وأخاً للمسيح وابناً للآب.وهكذا يشترك في الطبيعة الالهيّة بالمحبة والروح اللذين أفيضا في قلبه.
بالروح يشترك المسيحيّ في الكلمة الذي يصبح فيه مبدأ الحياه إلهية. وهكذا يتجدّد سكنى الكلمة في أحشاء مريم وميلاده في أعضاء جسده السري. وتلك السكنى تصيّر الإنسان على صورة الكلمة.
[ إني أعلم ما في النفس التي يسكنها الله، وها هي النفس المقفرة. إن لم يكن الله فيها، إن لم يكن فيها المسيح الذي قال: أنا وأبي سنأتي إليه وعنده نجعل مقامنا، إن لم يكن فيها الروح القدس، فالنفس مقفرة. ولكن إن سكن فيها الله والمسيح والروح القدس، فهي ممتلئة من الله][6]

القديس هيبوليتوس الرومانى  ( 160 ـ 235 م ):
و مه من آباء الغرب أيضاً ، و قال :[ دع اليهود يأكلون الفطير سبعة أيام حتى سبعة دهور العالم ، أما نحن فالمسيح فصحنا و قد ذُبح لأجلنا  و قد قبلنا منه عجينة جديدة بإتحادنا معه ][7]
القديس هيبوليتوس
و نفس هذه الأفكار نجدها فى كتابات ميثوديوس الأوليمبى (إستشهد عام 311م )    


القديس كبريانوس أسقف قرطاجنة     ( 200 ـ 258 م) :
و هو يمثل آباء الغرب ، شمال أفريقيا ، و هو يُقدم الإتحاد بالمسيح كغاية إفخارستية :
 [ طلما أن المسيح حملنا هو فى نفسه ، كما حمل أيضاً خطايانا ، فإننا نرى أن الماء يمثل الشعب ، و عصير الكرم يمثل دم المسيح ، _ يقصد مزيج الماء و الخمر فى تقدمة الإفخارستيا ـ فحينما يمتزج الماء بالخمر فى الكأس ، يكون الشعب متحداً بالمسيح ، و يكون جمهور المؤمنين قد اتحد بالمسيح الذين آمنوا به ، إن الماء اتحد بالخمر فى كأس الرب حتى أنهما لا يمكن أن ينفصلا ، و بنفس الوضع فإن الكنيسة التى هى جمهور المؤمنين المتحدين فى الكنيسة و الذين يحفظون الإيمان ، لا يمكن أن ينفصلوا عن المسيح .
الكنيسة سوف تظل ملتصقة بالمسيح بحب غير منقسم ، و لهذا السبب ليس من الجائز تقديم الماء وحده أو الخمر وحده فى كأس التقدمة ، لأنه إذا قُدم الخمر وحده فكان دم المسيح قد قُدم بدوننا ، و إن قُدم الماء وحده فكان الشعب قائم بدون المسيح...
و كما أن كأس الرب ليس هو الماء فقط و لا هو الخمر فقط بل مزيج من الإثنين ، هكذا ليس الدقيق وحده و لا الماء وحده يصير جيد المسيح ، لابد من مزيج الإثنين معاً ، لابد أن يلتحم الواحد مع الآخر ليصير خبزة واحدة ، و هذكذا نرى ان السر نفسه يرمز إلى وحدة الشعب المسيحى ، إذ كما تجتمع حبة القمح معاص و تٌطحن معاً و تُعجن معاً ، لتكون خبزة واحدة ، هكذا فلنتحقق من اننا نحن لسنا سوى جسد واحد فى المسيح ، إنه الخبز السماوى الذى نلتئم و نتحد به ][8]
إن الاقتداء بالله أو الاقتداء بالمسيح يعنى فى نظره شيئاً أكثر من مجرد التمثل الإرداى بالله و بالمسيح فى أعماله و وصاياه ، بل كما يقول القديس كبريانوس لشعبه ، حاثاً إياهم [ أن يقتدوا بمن يصيرون على شبهه يوماً من الأيام ]
الصلاة الربانية 6 : 36
+ + + + + + + + + + + +

تَــذوُّق  الشركة  مع  الله !
و فى نهاية هذه "الدراسة" ، و حتى لا تظل المعانى السيئة التى تعلق فى أذهان البعض عن "تألُّه الإنسان" باقية ، نورد الكلمات المُباركة التى خطَّها قلم الأب متى المسكين عن سر الإتحاد بالله فى كتابه الخالد " حياة الصلاة الأرثوذكسية" ، و الجدير بالذكر أن شرح هذا الأب القديس فى هذا الكتاب لهذه العقيدة لم يرد عليه أدنى إعتراض ، سواء فى كتاب "بدع حديثة" لقداسة البابا شنودة الثالث ، أو فى غيره من الكتابات .

[ الإتحاد بالله هو تعبير لاهوتى مختصر للحالة التى يطلبها المسيح لنا من الآب ...
و قد تحققت هذه الطلبة بموت المسيح و قيامته ، فصرنا حسب قول بطرس الرسول " شُرَكَاءَ الطَّبِيعَةِ الإِلهِيَّةِ" (2بط 1 : 4 ) ، و الكنيسة تضع هذه الغاية امام أولادها منذ اللحظة الاولى التى يدخلون فيها جرن المعمودية  ، فحسب قول القديس إيرينيؤس [ بواسطة الروح القدس نرتفع إلى المسيح ، و بواسطة المسيح نرتفع إلى الآب ] حيث أن الإتحاد هنا يستعلن على ثلاثة مستويات  ، و بحسب قول القديس أثناسيوس الرسولى [ فى ابن الله نصير أبناء الله ]" ، حيث أن الإتحاد يُفهم أنه رسوخ فى علاقة بنوية أبدية خالدة.
و يشترك كل زمرة آباء الكنيسة العظام فى التأكيد على الإمكانية الجديدة التى اكتسبتها الطبيعة البشرية ككل ـ فى تجسد المسيح و تأنسه ـ و قبولها خلقة جديدة سمائية بالماء و الروح بتوسط المسيح ، فيها تصبح الطبيعة البشرية فى حالة اتحاد بالله بالنعمة ، التى يعبر عنها الآباء بكلمة " تألُّه" : [ لأن ابن الله تأنس لنتألَّه نحن ]
 القديس آثناسيوس الرسولى ، كتاب تجسد الكلمة ف 54
و لأهمية هذه العقيدة القائلة بإمكانية " تألُّه " الإنسان ، نشير بإختصار إلى بعض المواضع التى ورد فيها شره هذه الصيغة اللاهوتية عند الآباء الأوائل :
+ يوستينوس الشهيد
+ إيرينيئوس
+ كليمندس الإسكندرى .
+ هيبوليتوس.
+ أثناسيوس.
+ غريغوريوس اللاهوتى .
+ غريغوريوس النيسى.

و لكن مفهوم التألُّه الذى يقصده الآباء ، لا يعنى تحول الطبيعة البشرية إلى طبيعة إلهية ، و لكن تأهيل الطبيعة البشرية للحياة مع الله فى شركة المحبة ، و ذلك برفع الحاجز الخطير الذى يفصل حياة الإنسان عن حياة الله أى الخطية ، و ذلك بتوسل غسل و تقديس دم المسيح لنا و تناولنا من جسده ، لذلك فالتألُّه أو الإتحاد بمفهومه الكامل كحياة مع الله لا يمكن أن تتحقق إلا بالقيامة من الأموات ، و لكن لأنه قد أعطى لنا منذ الآن وسائط نعمة و وصايا و قوة إلهية لكى نغلب بها الخطية و العالم و حياة هذا الدهر ، لذلك فقد انفتح أمام الإنسان باب إمكانية تذوق الإتحاد بالله بشركة المحبة و الطاعة منذ الآن .
إذن ، فإتحاد الإنسان بالله ، أى التألُّه ، هو هدف شرعى بموجب سبق اتحاد اللاهوت بالناسوت فى التجسد الذى جعله المسيح غاية لنا أيضاً ، حيث يشمل الإتحاد كل وسائط النعمة المجانية و هى المعمودية و التناول و التوبة الدائمة ، كما يشمل جهادات كالصوم و العفة و ضبط اللسان و الفكر و الصلاة باستمرار و كل أعمال المحبة و الإتضاع ، كما يشمل حتماً معونة الله الخفية للمجاهدين ، فبالرغم من ان الإتحاد بالله هو الغاية النهائية التى لا يمكن أن تكمل لنا إلا فى القيامة ، إلا أنه حصيله الإيمان و العمل الذى ينبغى أن يكمل هنا فى هذا الدهر.
و بالإختصار ، فإن الإتحاد بالله فى مفهومه الحاضر فى هذه الحياة يعنى التحول المستمر من حياة حسب الجسد إلى حياة حسب الروح ، الذى نجوزه بالإيمان و الجهد و الدموع كل يوم و كل ساعة وفق مشيئة الله و حسب شروط الملكوت التى أعلنها الإنجيل.
و لكن الذى ينبغى أن يوضع نصب أعيننا باستمرار ، إزاء إمكانية الإتحاد بالله هو شخص يسوع المسيح ، لأن من خلال طاعته و حبة يَكمُل الإتحاد بالله ، لأنه هو الذى أكمل اتحاد اللاهوت بالناسوت فى نفسه أولاً لكى يعطيه لنا بسر الحل الفائق .
فالإتحاد حقيقة عملية فى المسيحية نذوقها فى عبادتنا و حبنا للمسيح ، و لكن لا يمكننا أن نفهمها أو ندركها بعقلنا ، فهى من حيث المنطق العقلى امر مستحيل ، أما من حيث سر التجسد و خبرة المحبة و الإيمان ، فهى أمر حقيقى وواقع مُذاق.
و الإتحاد بالله ليس موضوعاً ثانوياً فى الإيمان أو العقيدة ، بل هو أساس كل الإيمان و العقيدة ، فهى غاية الله النهائية التى من اجلها أرسل ابنه الوحيد ، إلى العالم متجسداً ، " إِذْ عَرَّفَنَا بِسِرِّ مَشِيئَتِهِ، حَسَبَ مَسَرَّتِهِ الَّتِي قَصَدَهَا فِي نَفْسِهِ، لِتَدْبِيرِ مِلْءِ الأَزْمِنَةِ، لِيَجْمَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ، مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأَرْضِ، فِي ذَاكَ " أى المسيح (أف 1 : 9 :10)
أى أن سر إتحاد البشرية بالمسيح هو أقصى غايات التجسد و الصلب و القيامة بل و الخليقة كلها .[9]

انتهى بنعمة الرب



[1] محاضرة عن القديس إكليمندس الإسكندرى ، للدكتور نصحى عبد الشهيد / الكورسات المتخصصة للمركز الأرثوذكسى للدراسات الآبائية 
[2] دراسات فى آباء الكنيسة ـ مرجع سابق صـ 180
[3] المعرفة عند القديس اكليمندس الإسكندرى ، لا تعتمد على التأمل العقلى كمثل مفهوم الغنوسية بل على إعلان الآب عن نفسه فى ابنه الكلمة اللوغوس و على كل ماجاء فى الأسفار المقدسة ، و كان يؤمن أن معرفة الحق و الحياة الحقيقية تأتى من الإنضمام للكنيسة .
[4] محاضرة عن يوستينوس الشهيد ، للدكتور نصحى عبد الشهيد / الكورسات المتخصصى للمركز الأرثوذكسى للدراسات الآبائية 
[5]محاضرة عن القديس ثيؤفيلوس الأنطاكى ، للدكتور نصحى عبد الشهيد / الكورسات المتخصصى للمركز الأرثوذكسى للدراسات الآبائية
[6] النعمة و التأله ، للمطران كيرلس سليم بوسطوروس
[7] محاضرة عن القديس هيبوليتوس، للدكتور ميشيل بديع / الكورسات المتخصصة للمركز الأرثوذكسى للدراسات الآبائية
[8] محاضرة عن القديس كبريانوس ، للدكتور ميشيل بديع / الكورسات المتخصصة للمركز الأرثوذكسى للدراسات الآبائية
[9] حياة الصلاة الأرثوذكسية ، للأب متى المسكين / فصل الإتحاد بالله صـ 192 

Wednesday, 16 March 2011

سر الثيوسيس / القديسين إغناطيوس و إيريناؤس


عقيدة "تألُّه الإنسان بالنعمة" عند آباء ما قبل نيقية (1)

سِر  الثيوسيس
عند  القديسين  إغناطيوس  و  إيرناؤس



سر الثيوسيس ، أو عقيدة تألُّه الإنسان بالنعمة ، الشركة فى الطبيعة الإلهية ، الإتحاد بالله و التشبُّه به ، الخلود و عدم الفساد... كلها مسميات لمعنى واحد...و بعيداً عن المعانى السلبية السيئة التى ـ عادةً ـ ما تجول فى العقلية القبطية المُعاصرة عن هذه التعبيرات ، فقد تتبعنا تعليم آباء الكنيسة الجامعة ماقبل مجمع نيقية عن هذا السر الفائق العقل، للبرهنة على أرثوذكسية هذه العقيدة من أقوال آباء الكنيسة أولاً ، و لإزالة هذه المعانى السيئة نظراً لما تتميز به كتابات ماقبل نيقية بالبساطة و العمق و عدم التعقيد ثانياً ، و التشبُّع بهذا السر العظيم ثالثاً.


مثل هذه المعانى التى أوردها قداسة البابا المُعظَّم الأنبا شنودة الثالث ، بابا الإسكندرية ، فى كتابه " بدع حديثة ، عندما وصف هذا السر بالكلمات التالية [ تأليه الإنسان معناه أن يتصف بالصفات الإلهية .. لذلك محال أن أحد الآباء نادى بهذا التأله ][1]  ، و نحن نتفق تماماً مع  سيدنا أن الآباء لم ينادوا بأن الإنسان يصير غير محدود ، مالىء السموات و الأرض ، و أن يكون فاحصاً للقلوب و الكلى .. إلى آخر هذه المعانى التى تتعب الإذن من مجرد سماعها ، بل على العكس تماماً ـ و على النحو الذى سيتضح من نصوص الآباء ـ أن التأله هذا هو نعمة من الله تقود الإنسان إلى التواضع و التشبُّه بالإله المتجسد نفسه ، الذى لم يستنكف أن يخلى نفسه من أجل خلاصنا !!!
و لذلك ، نحن هنا لا نرد على أحد أو نهاجم أحد أو نتحيَّز لأحد ، بل كما قال العظيم غريغوريوس النيصى : [ الحق يجتاز فى الوسط ، ليبيد كل هرطقة و لكن ليقبل ما هو نافع فيها].!!!


نظرة  عن  التأّّله و النعمة و الخلاص عند آباء الكنيسة :
بدايةً .. يجب أن نضع فى إعتبارنا أن هناك تيّاران في لاهوت النعمة عند الآباء ،  فالآباء الشرقيّون يرون النعمة في تأليه الإنسان، بينما يرى الآباء الغربيّون النعمة في التحرّر من الخطيئة، فالتيّار الأوّل يستند إلى كتابات يوحنا الإنجيلي، ويشدّد على تجسّد الكلمة الذي بواسطته يصبح الإنسان ابن الله، بينما يرتكز التيّار الثاني على رسائل بولس الرسول، ويرى في النعمة مساعدة يعطيها الله للإنسان ليحيا حياة قداسة على مثال المسيح. فالتيار الأول يركّز على كيان الإنسان، بينما يركّز التيّار الثاني على عمله. فالنعمة عند آباء الكنيسة الشرقيّة تهدف إلى رفع كيان الإنسان ليصير على صورة الله. أمّا عند آباء الكنيسة الغربيّة فتهدف إلى تحرير الإنسان من الخطيئة.
يرى آباء الكنيسة في تألّه الإنسان النعمة الكبرى التي يمنحها الله "للإنسان. فبينما كان الفلاسفة اليونان ينشرون نظريّة أفلاطون في التشبّه بالله، والأديان اليونانية تسعى إلى الوصول إلى خلود الآلهة بواسطة طقوس سحريّة أو طرق تقشّف بشريّة، راح اللاهوتيّون المسيحيّون يعلنون أن الاشتراك في الطبيعة الإلهية والتشبه بخلود الله والتأله لا يستطيع الإنسان أن يصل إليها بجهوده الخاصّة، بل هي نعمة من الله. فالله نفسه نزل إلى البشر وتجسّد ليرفع الإنسان إليه ويشركه في حياته الإلهية. وقد صار أمراً تقليديًّا في اللاهوت الشرقيّ تقسيم تاريخ الخلاص إلى ثلاث مراحل:
+ خلق الله للإنسان على صورته ومثاله
+ سقوط الإنسان بالخطيئة الأصليّة
+ إعادة الصورة القديمة بالتجسّد والفداء
ويقوم التألّه، أو اشتراك الإنسان في الطبيعة الإلهية الذي ورد ذكره فى رسالة بطرس الثانية "لِكَيْ تَصِيرُوا بِهَا شُرَكَاءَ الطَّبِيعَةِ الإِلهِيَّةِ، هَارِبِينَ مِنَ الْفَسَادِ الَّذِي فِي الْعَالَمِ بِالشَّهْوَةِ"  (1: 4)، على الخلود وعدم الفساد والحياة الأبديّة بعد الموت. فالإنسان مائت من طبيعته، أمّا الله فمن طبيعته لا يموت. ومن ثمّ فالاشتراك في طبيعة الله يعني أولاً عدم الموت.


وعندما يفسّر آباء الكنيسة قول الكتاب المقدّس إنّ الله خلق الإنسان "على صورته ومثاله" يميّز بعضهم بين الصورة والمثال. فالصورة هي في طبيعة الإنسان، إمّا في جسده، ونفسه حسب إيريناوس، إمّا في نفسه فقط حسب أكّليمندوس الإسكندريّ وأوريجانوس. وهذه الصورة لا تُفقد بالخطيئة. أمّا المثال فقد فقده الإنسان بالخطيئة، وأعاده إلينا الكلمة المتجسّد. فمن يقبل خلاص المسيح وفداءه يشترك في الطبيعة الإلهية، أي في عدم الفساد وفي الحياة الأبديّة.


أمّا أثناسيوس وغريغوريوس النيصيّ فيريان في "الصورة" ختماً إلهيًّا يضعه الله في روح الإنسان وعقله. وهذا الختم يصبح قاتماً بالخطيئة، ويعيده الفداء إلى بهائه الأوّل. أمّا "المثال" فهو الاقتداء والتشبّه بالله. فالإنسان يصير تدريجياً على مثال الله يتألّه باشتراكه في حياة المسيح الإله، وذلك بواسطة الإيمان وسري المعموديّة والافخاريستيا.

فالثيوسيس هو عمل الله المثلث الأقانيم القوى و المُقدس فى حياة الإنسان
لقد دُعي الإنسان حقاً ليعيش في الله، ليشاركه في مجده، ليتحد به ليصير بالنعمة ما هو عليه الله بالطبيعة. إنها وحدة مع الله بواسطة القوى الإلهية بلا اختلاط أو ذوبان. إتخذ الرب يسوع المسيح طبيعتنا ليشركنا بالحياة الإلهية ويجعلنا "شركاء في الطبيعة الإلهية" (2بطرس 1: 4)، أي في القوى الإلهية وليس في الجوهر الإلهي.
ليس "التأله" هبة مجانية للروح القدس وحسب بل يتطلب أيضاً مشاركة الإنسان. إذا هو بالضرورة صيرورة ديناميكية تتضمن درجات من الشركة مع الله و حياة تقوم على الخبرة الشخصية و هذه الصيرورة أن تبدأ منذ الآن بمحبة لله وحفظ وصاياه و بحياته في الكنيسة وبمشاركته في أسرارها ... و هو يعنى يعني صيرورة الإنسان ابن الله بالتبني، بنعمة الروح القدس، ابن بالنعمة بينما يسوع هو ابن الله بالجوهر، بالطبيعة

و نحن عندما ندرس هذا السر العظيم "الثيوسيس" عند آباء ما قبل نيقية ، فنحن ندرس الصورة الإنجيلية البسيطة الأولى التى قدمها آباء الكنيسة عن هذه العقيدة ، بدون الدخول فى التعقيدات العقائدية و اللاهوتية ، التى أثرت شرح هذا المصطلح جداً عند آباء ما بعد نيقية من أمثال أثناسيوس و غريغوريوس الثيولوغوس ، و أيضاً لنكشف هذا الثراء الكنسى فى شرح هذه العقيدة ، و التنوع الذى يقدمه هؤلاء الآباء من حيث مواقعهم فى الكنيسة ( أساقفة و رعاة / معلمون و مدافعون) أو منطلقاتهم و خلفياتهم الفكرية إذا كانت تقليدية أو فلسفية ، أو حتى اختلافهم من حيث ظرف المكان و الجغرافيا.



القديس إغناطيوس الأنطاكى(  107 م)
الإتحاد بالله ، نجده أول ما نجده عند هذا الأب القديس الذى قدم جسده ليُطحن بأسنان الوحوش ليكون خبراً طاهراً لله ،فهو يمثل البساطة و التقوى المسيحية و وحدة الأسقفية و الكنيسة و الشعب و الإستعداد للشهادة ، و هو من الآباء الرسوليين ، فهو تلميذ يوحنا اللاهوتى ، و يقول عن أبنائه فى الإيمان و هو فى طريقه إلى الاستشهاد:
[ إنى أصلى حتى يكون بينهم إتحاد قائم على أساس جسد و روح يسوع المسيح ، الذى هو حياتنا الأبدية ، إتحاد بالإيمان و الحب لا يفوقه و لا يعترضه أى شىء آخر ، إتحاد خاص بيسوع و الآب ]
الرسالة إلى ماغنيسيا.
كان هذا العظيم منشغلاً دائماً بالحضور السرى للمخلص وسط شعبه ، إما فى سر الإفخارستسا أو فى حياة المؤمنين اليومية ..
[ فلنمارس كل أعملنا بفكر أن الله يحيا فينا حينئذ سنكون هياكله و هو سيكون إلهنا الساكن فينا ]
الرسالة إلى أفسس 15
فالقديس إغناطيوس الأنطاكى قدم الخلاص على أنه مشاركة فى الحياة الإلهية و النور و الحب الإلهيين ، ، و لقد كتب عده تعبيرات تعبر عن هذا المعنى ، فهو لا يتردد أن يُقلب المسيحيين بحاملى الروح : بنفمافورى ، ثيوفورى : حاملى الله ، و خريستوفورى : حاملى المسيح ، و هاجيوفورى :حاملى القداسة ، بل كان يُلقِّب نفسه " بالثيوفوروس : حامل الإله" ، و هذا التعبير لا يدل على الإفتخار أكثر ما هو يدل احساسه الدائم باتحاد الله به و وجوده دائماً فى حياته ، و تلك المحبة و الوحدة السرية بين الله و الإنسان ، كانت القاعدة التى انطلق منها فى تعليمه عن وحدة الكنيسة و الأسقف و الشعب ،  صحيح أن القديس إغناطيوس لم يذكر كلمة "ثيوسيس" لكن مضمونها واضحاً جداً فى لغته الرمزية


القديس إيرينيؤس أسقف ليون (140 ـ 202 م )


هنا يظهر الأسلوب " المنهجى " فى عرض هذه العقيدة الراسخة فى الفكر المسيحى منذ أيام آبائنا الرسل ، فإيريناؤس ـ الذى يمثل أصالة التعليم التقليدى الرسولى و النظرة الخلاصية لهذا التعليم ـ أول كاتب يعطينا ترابطاً مدعماً للثيوسيس ، لأن فى أيام إيريناؤس استجد ظرف تاريخى جعله يعرض هذا السر بأسلوب منهجى منظم كغاية التدبير الإلهى و المطاف الأخير الذى تنتهى إليه عملية الخلاص.


 + المُنطلق  التقليدى  عند  القديس  إيريناؤس :

 لقد شهد القرنين الثانى و الثالث صراعات مُرًّة بين المسيحية التقليدية ، و الهرطقة الغنوسية ، التى حاولت إختزال الفداء إلى مجرد إعادة تأليه البذره الإلهية ، فى الروحيين ـ حاملى الروح ـ و هؤلاء وحدهم فى نظر الغنوسيين هم المسيحيون الحقيقيون و حولت المسيحية الى ديانة ثنائية ، ترذل الخلقة الأولى لآدم و تصمها بالدنس و ترفض المادة بإعتبارها نجسة ، ثم تضع سر الحياة و الخلاص فى عقول النخبة المستنيرة التى تعرف وحدها الحكمة المخفية ، التى ادَّعوا انها لم تُذكر فى الأناجيل الأربعة و الرسائل مدعية أن المعرفة اللاهوتية هى للغنوسيين وحدهم و ليس للعامة أن يخوضوا فيها أو يعرفوها .
و فى مواجهة هذه الضلالات ، رفع المدافعون عن الإيمان صوتهم مدافعين عن علم اللاهوت المسيحى التقليدى الذى يُعلم بأن الخلاص ممكن اقتناؤه للكل و ليس للصفوة المختارين ، كما أنهم علموا بأن عدم الفساد الذى سيستعلن فى الزمان الأخير فى كل الجنس البشرى مغروس ، ليس فى طبيعة الإنسان بل هو من نعمة الله و الإنسان يشترك بالنعمة فى الخلود الإلهى ، إذ أن الله خالد بطبيعته أما الإنسان فخالد بالنعمة ، و كان من بين هؤلاء المدافعين عن العقيدة الرسولية التقليدية القديس ايريناؤس .
هنا وقف إيريناؤس أمام الغنوسية و أعلن بوضوح "علانية" التعليم المسيحى الرسولى فى الكنيسة المقدسة من جهة ، و "مضمون" التعليم الكنسى من جهة أخرى و صورته العملية المرتبطة بخلاص النفس ، أو تدبير الخلاص فى المسيح ، فى عقيدة " تجميع كل شىء فى المسيح كرأس جديد للبشرية " و ذلك أن أفعال المسيح الخلاصية التى أتاها من أجل خلاصنا إنما نبلغ إليها من خلال هذه الحقيقة الإلهية ... " الإنجماع فى المسيح" !



+  الإنجماع  الكلى  فى  المسيح :
محور التعليم عند القديس إيرينيؤس هو " الإنجماع الكلى فى المسيح "
Anakephalaiwsis

و قد استلهم هذا التعلميم من رسالة بولس الرسول إلى أهل أفسس حيث يوضح أن غاية الله النهائية من الخليقة كلها التى سيحققها فى ملىء اللأزمنة هى " أن يجمع كل شىء فى المسيح" ( أف 1 :7  ) ،فيقول القديس إيرينيؤس :
 [ فى ملىء الزمان صار الكلمة إنساناً منظوراً و ملموساً لكى يجمع كل شىء فى نفسه و يحتوى كل شىء و يبيد الموت و يُظهر الحياة و يعيد الوحدة بين الله و الإنسان ][2]


و يقصد القديس إيرينيؤس من " الإنجماع الكلى" هو إنجماع الكل فى المسيح الذى يحقق فى نفسه ملىء الوجود الكلى للخالق و الخليقة معاً :
[ فإن المسيح كما قلنا قد وحَّد الإنسان مع الله .. فقد كان لائقاً أن الوسيط بين الله و الناس بحق قرابته الخاصة مع كل منهما يعيد الألفة و التوافق بينهما و يُقدم الإنسان إلى الله ، و يُظهر الله للإنسان .. فإنه من اجل ذلك قد جاء مجتازاً فى جميع الأعمار لكى يعيد للجميع الشركة مع الله ][3]


تحدث القديس إيرينيؤس عن الوسيط الذى هو المسيح فعن طريق ارتباطه بالله يستطيع أن يمثل الإنسان وعن طريق إرتباطه بالإنسان يستطيع أن يمثل الله ، و بهذا يستطيع أيضاً أن يجرى عمل المصالحة ، و أن يرجع السلام و الصداقة بين الإثنين فهو الذى يستطيع أن يقود الإنسان إلى الله ثم يعرف الإنسان بالله .


و هنا نرى المسيح المتجسد يقوم بعملية الفداء و المصالحة ، فالإله المتجسد هو الذى يجذب البشرية إلى الآب لكى تعرفه ، و فى نفس الوقت فإبن الله الذى هو فى حضن الآب هو الذى يُعلن الله للبشرية :
 [ فيه نزل الله إلى الإنسان و هو أيضاً رفع الإنسان إلى الله ]
 ضد الهرطقات 3 : 2 ، 6


لقد ظهر الكلمة على الأرض كإنسان ، و بهذا أعلن المسيح عن الله لنا فى كل مراحل الحياة الإنسانية حتى يقدس كل شىء خاص بالإنسان .
[ الابن نفسه المولود من مريم ، التى ظلت عذراء ، احتوى فى ميلاده آدم فى نفسه ]
برهان الكرازة 3 : 21 : 10


[ حينما صار الكلمة إنساناً بجعله نفسه يشابه الإنسان ، فقد جعل الإنسان يُشابهه ، و بصيرورة الإنسان على شبه الابن ، صار عزيزاً فى عينى الآب ]
   برهان الكرازة الرسولية 5 : 16 : 2،3


فالإنجيل يدعونا ليس فقط ان نتمثل بالله بإرادتنا ، بل و أيضاً الإيمان بان إتباع الله على قدر طاقة الإنسان سيؤدى به أن ينال الشبه بالله كنعمة ، هذا يعنى أن التمثل بالمسيح سوف يؤدى فى النهاية إلى نوال عدم الفساد و الخلاص ، و هو فى هذا يشابه تعليم اكليمندس الإسكندرى.

يقول القديس إيريناؤس عن كلمات المزمور الثانى و الثمانين _ فى الترقيم العبرى :
 [ عن الآب و الابن ، و عن الذين نالوا التبنى ،و هؤلاء هم الكنيسة لأن الكنيسة هى مجمع الله ، التى جمعها الله أى الله الابن نفسه ، و عن ذلك أيضاً يقول : "إِلهُ الآلِهَةِ الرَّبُّ تَكَلَّمَ، وَدَعَا الأَرْضَ مِنْ مَشْرِقِ الشَّمْسِ إِلَى مَغْرِبِهَا"( مز 50 : 1 )، و من هو الغله الذى أشار إليه؟ هو ذلك الذى قيل عنه " ياتى الله علانية ، إلهنا لن يصمت"( مز 50 :3 )، و قد جاء ابن الله و أعلن ذاته للبشر ]




+ الثيوسيس فى خطة  خلاصنا :
ففى مقدمة الكتاب الخامس من ضد الهرطقات نجده يقول 
[ أن الكلمة صار إلى ما نحن عليه ، لكى نصير نحن إلى ما هو عليه ]

و إذ يتتبع الشواهد الموجودة فى العهد الجديد ، يُعلم بأن الثيوسيس قد إستُعلن من الله لحظة الخليقة كهدف نهائى للإنسان ، و بالتالى فإن نعمة عدم الموت هى ببساطة ، امتداد للحياة الإلهية التى نتنسمها هنا و نحن فى هذا العالم نتيجة اتحادنا بالمسيح فى الروح القدس ، لقد رفض القديس إيريناوس فكرة " إعادة تأليه" البذرة الروحية فى الإنسان الروحانى بطريقة سحرية كما علم بذلك الغنوسيون ، فقد دافع عن مشابهتنا لله أو تمثلنا به نتيجة سكنى الكلمة الإلهى و الروح القدس ، و عند القديس ايريناوس فإن لتجسد و موت الرب يسوع كليهما نفس القيمة بالنسبة لفدائنا لقد كان أول من استخدم كلمة " الآناكيفاليوسيس" أى استقطاب كل شىء فى المسيح ، بمعنى أن المسيح قد صار من جديد هو القطب و الرأس لكل شىء ، و من هنا ندرك ان اتحاد كل البشر فى المسيح الذين صار لهم دخول إلى الآب بواسطته نالوا نعمة عدم الموت و مشابهة الله . و قد كانت هذه أول محاولة لرسم إطار محدد للثيوسيس.

[ كلمة الله ، ابن الله ، يسوع المسيح ربنا ، الذى ظهر للأنبياء فى الشكل الذى ذكر فى الأقوال ( الأناجيل ) ، و بحسب تدبير الآب الذى فى ملىء الزمان و لكى يجمع من جديد فى نفسه كل شىء صار إنساناً وسط الناس ، مرئياً و ملموساً ، لكى يبيد الموت و يُظهر الحياة و يصنع شركة بين الله و الإنسان ]
برهان الكرازة 6

إذا كان ايريناؤس يقدم الخلاص باعتباره هو مغفرة الخطايا و العتق من الموت و الفساد ، فعمل الله الخلاصى لا يتوقف عند هذا الحد ، لأن غاية التجسد هى الشركة فى الطبيعة الإلهية أو الثيوسيس ، التأليه
[ لقد صار ابن الله إنساناً ، لكى يصير الإنسان ابن الله ]            
      برهان الكرازة الرسولية 3 : 10 :2
[ إن الله فى محبته غير المحدودة صار على ما نحن عليه ، لكى يجعلنا نحن على ما هو عليه ]
برهان الكرازة الرسولية 1: 23 : 5
[ مجد الله أن يحيا الإنسان ، و حياة الإنسان أن يرى الله ]          

              برهان الكرازة الرسولية 4 : 20 :7


[ إتباع المخلص هو اشتراك فى الخلاص ، و إتباع النور هو اشتراك فى النور ]
برهان الكرازة الرسولية 4 : 14 : 1
[ المسيح وحَّد الإنسان بالله ، لأنه كان لابد أن يكون الوسيط بين الله و الناس حاملاص طبيعة كل من الإثنين ، حتى يعيد الألفة و الوفاق بينهما ، لكى يقدم الإنسان إلى الله و يُعلن الله للإنسان ، إذ كيف يمكن أن نشترك فى التبنى أى نصير أبناء ، إن لم يكن الابن قد أعطاما شركة مع الآب ، و إن لم يكن قد إتحد نفسه بنا إذ صار جسداً؟ ، فهو لهذا السبب قد أتى فى كل الأجيال ليعيد الكل إلى الشركة مع الله ]            
  برهان الكرازة الرسولية  3 : 18 : 7


و القديس ايريناؤس يكرر مراراً أن التعاليم الكاذبة التى يدعو إليها الهراطقة عن سر التجسد و عن تجميع الكل فى المسيح إنما هى فى حقيقتها تحمل إنكاراً لرفعتنا إلى الحياة الإلهية :
[ إنهم يسلبون الإنسان صعوده إلى الله ]                                 
        برهان الكرازة الرسولية 3 :19 : 1


[ لقد شاء الله أن يولد ليكون معنا ، أن ينزل إلى ماوضع الأرض السفلية ، لكى يجد الخروف الضال الذى هو خليقته الخاصة ، لقد شاء أن يصعد إلى السماء ـ لكى يقدم لأبيه هذا الإنسان الذى وجده و ليقدم فى نفسه بامورة قيامة المسيح .. هو بإعتباره الرأس قد قام من بين الأماوت و هكذا بقية الجسد ـ أى كل إنسان ـ سوف يقوم ثانية حينما تستوفى عقوبة العصيان ، هذا الجسد سوف يتحد ثانية بمفاصل و رُبُط ، سوف يتشدد بنمو إلهى و كل عضو سيحتل مكانه المُعيَّن فى الجسد " فى بيت أبى منازل كثيرة " ذلك لان فى الجسد أعضاء كثيرة ]
برهان الكرازة الرسولية 3 :19 :1،3
[ لأنه هو الذى يقود الإنسان إلى الشركة و الاتحاد بالله ][4]            
          برهان الكرازة الرسولية 4 :13 :1
[ كان يستحيل علينا أن نعرف أمور الله لولا أن المُعلم و السيد الذى هو كلمة الله ، صار إنساناً ، إذ أن أى كائن مهما كان ، لا يقدر أن يُعلن لنا امور الله إلا كلمته الخصوصى ، لأنه أى شخص يقدر أن يعرف فكر الله ؟ أو من صار له مشيراً"  ( رو 11 : 34) ]



+ بالإفخارستيا يحصل الإنسان  على  هذه  النـعمة ..و هى  تُعطى  للخلود: 
 [ إن كانت الكأس الممزوجة و الخبزة المصنوعة بعد أن يتقبلا كلمة الله يصيران إفخارستيا ، أعنى دم و جسد المسيح ، و بها يتقوى و يتشدد قوام جسدنا ، فكيف يمكن للخارجين عن أصول الإيمان أن يدعوا أن جسدنا غير مؤهل لنعمة الخلود ، فى الحياة الأبدية مع الله ، فى حين أنه يقتات من دم و جسد المسيح ، بل و صار عضواً من أعضائه ، كما قال المغبوط فى رسالته إلى أهل أفسس "لأَنَّنَا أَعْضَاءُ جِسْمِهِ، مِنْ لَحْمِهِ وَمِنْ عِظَامِهِ" ( أف 5 : 30) ][5]


[ و كما أن عود الكرمة بعد أن يخبأ فى الأرض فترة ما يأتى بالثمار فى حينها ، و كمان أن حبة الحنطة بعد أن تقع فى الأرض و تفقد شكلها الخارجى ، تأتى ثانية إلى الحياة ، و معها حبات كثيرة بواسطة روح الله الذى هو قوام الحياة للخليقة كلها ، ثم بعد ذلك بفضل مهارة الإنسان تُعد لتكون خبزاً نافعاً للبشر ، كذلك بالمثل أجسادنا التى تقتات بالإفخارستيا ، فبعد أن تُخفى فى الأرض و تتحلل ستقوم ثانية فى الوقت المعين عندما ينعم عليها كلمة الله بالقيامة " لِمَجْدِ اللهِ الآبِ" فى 2 :11  لأنه سيمنح المائت عدم الموت و الفاسد عدم الفساد ، لأن قوة الله ستظهر فى الضعف ]



+ الثيوسيس  هو حياة  القداسة  بالروح  القدس .. و نعمة  لا  تدعو  إلى  الإنتفاخ :
فهو يشدّد على الولادة الجديدة أكثر ممّا على مغفرة الخطايا. فبالمعموديّة ينال المؤمن الروح القدس الذي يسكن فيه ويتّحد به.وهذا الروح يجعل من المؤمن ابن الله، شبيهاً بالابن، إنساناً روحياً، بانتظار ملء النعم في رؤية الله في المجد الأبدي، فالاتّحاد بالروح القدس لا يمكن فصله عن الاتّحاد بالابن والآب. فالنعمة إذاً هي قبل كل شيء موهبة غير مخلوقة: إنها حضور الثالوث في المؤمن لتقديسه ومساعدته على أن يكون 
إنساناً روحيّاً.


[ هكذا كان لا يمكن أن نتعلم بأى وسيلة أخرى سوى أن نرى المُعلم و نسمع صوته الإلهى بآذاننا ، حتى إذا استطعنا أن تقتدى بأعماله و ننفذ و صاياه ، تصبح لنا شركة معه ، ثم نزداد نمواً فى هذه الشركة من الله الكلى الكمال ..
ثم بواسطة الفداء الذى أكمله لنا بدمه ، مُسلِّماُ ذاته فدية عوض الذين وقعوا فى الأسر بواسطة العدو ، فاستردهم لخاصته .. معطياً نفسه لنفوسنا و جسده لأجسادنا ، و ساكباً روح الله الآب علينا لتكميل الإتحاد و الشركة بين الله و الإنسان ، واهباً اللاهوت بالحقيقة للبشرية بواسطة هذا الروح ، و من ناحية أخرى يُجرى بنفسه للبشرية ارتباطاً و التحاماً مه الله بواسطة تجسده ، واهباً لنا ، بذلك ، الخلود المزمع أن يمنحه لنا بالحق و إلى الأبد عند مجيئه ، بتكميل شركة اتحادنا مع الآب ]
ضد الهرطقات 5 : 1


[و لكن مع هذا علينا أن نحذر من أن نظن أننا نمتلك الحياة من ذواتنا و ننتفخ و نرتفع ضد الله بتقبلنا أفكار الجحود هذه ، بل إذ نعرف بالخبرة أننا بالقدرة الإلهية و ليس من طبيعتنا الذاتية نحن نحوز القدرة على البقاء للأبد ، ، لا ننحرف عن الإعتقاد الحقيقى عن الله ، و لا نجهل حقيقة طبيعتنا ، بل نعرف تماماً ما هى قدرة الله و ما هى النعمة التى يتقبلها منه الإنسان منه ، و لا نضل فى إدراكنا المفهوم الحقيقى لطبيعة الكائنات ، أعنى الله و الإنسان ، و مع ذلك كما قلنا سابقاً ، لإن كان الله قد سمح بأن تتحلل أجسادنا فى الأرض ، أفليس ذلك لكى نتعلم تماماً و من سائر الوجوه ، أن نكون من الآن فصاعداً يقظين فى كل شىء بتدقيق شديد غير جاهلين بالله و لا أنفسنا ؟][6]
يـُتبَع


 ـ [1] بدع حديثة / قداسة البابا شنودة الثالث صـ 14
 ـ [2] الهرطقات 5 : 14 : 8
   ـ [3] ضد الهرطقات 3 : 18 : 7
 ـ [4] دراسات فى آباء الكنيسة / لأحد رهبان برية القديس مقاريوس 128
  ـ [5] محاضرة عن القديس إيريناؤس أسقف ليون ، للدكتور ميشيل بديع / الكورسات المتخصصة للمركز الأرثوذكسى  للدراسات الآبائية
 ـ [6] و نحن نهدى هذه النصوص بالذات لمن يتهمون الذين يُعلمون بالثيوسيس بأنهم يُعلمون بأن الإنسان يصبح كما الله تماماً / أنظر أيضاُ : النعمة و التألُّه للمطران كيرلس سليم بوسطوروس