Sunday 25 October 2015

الكون كتجلى مسيحانى

الكون كتجلى مسيحانى

لماذا يوجد شىء بدلاً من اللاشىء ؟
         لن نجد صعوبة كبيرة إذا أردنا طرح إجابة لهذا السؤال من وجهة نظر فلسفية ، كما قام بها الفيسلوف الألمانى Gottfried Wilhelm Leibniz   -  واضع السؤال -  فى  وجود كائن غير مخلوق قد تولى عملية إيجاد الأشياء من العدم ، لكننا حتماً سندرك ركاكة تلك الإجابة و عدم كفايتها  فى ظل نسق فكرى مسيحى يطرح علينا تصوراً لا نهائياً لجدل الوجود الثالوثى للخالق ذاته .

       كما أن السؤال البدئى عن " معنى وجود شىء " مخادع تماماً و مُخدِر إلى أقصى درجة ، فالمسيحية تضعنا أمام حقيقة " عدم وجود معنى بدون كينونة" و أن الهدف النهائى لكل الأشياء غير موجود فى ذاتها إذ أنها لا كيان فى الأساس و يُمسكها الموت من كل جانب ، و بالتالى لا يمكن أن يقوم المعنى إلا بالدخول فى عملية تحول مستمرة من العدم ( و هو التعبير الأقصى عن اللاكيان ) إلى الكيان – فى – ذاته ، و هو الله الثالوث .
...

        إذا ... ما هى الخليقة مسيحياً ؟
إن كل أشكال الخليقة لا تصلح أن تكوت تعريفاً نهائياً لها ، بل أنها فى جوهرها عملية اندفاع للحياة من قلب العدم ، تلك الحياة مخلوقة تماماً و ليست من جوهر الله و يمكن أن ترتد إلى عدمها الخاص فى أى لحظة لولا إرادة الله المشيئة لاستمرارها ، و عملية الصيرورة الاندفاعية تلك تتشخصن و تبلغ ذروة وعيها بالإنسان ،إذ أنه هو الذى يبلغ بها قمة خلقتها بتحقيقه التوجه الكامل نحو الخالق ، و بالتالى فإن الخليقة ليست مجموعة من الأجزاء يتم فصلها و دراستها كلٍ على حدة ، و ليست مجرد وجود مشيأ لا واعى مطروح بلا قيمة أو هدف ، بل أنها كظهور الله ابدعت من اللاشىء لتأخذ موقها فى عملية الصعود المتتالى إلى خالقها ، و هى تحمل فى طياتها عمق أعماق الحياة الإلهيه كونها بزوغ لإمكانية وجود شىء خارج الله . و فى ذلك يتضح القيمة الإبداعية المحضة لوجود الخليقة كتعبير عن عمل مجانى للوجود الشخصى المطلق الذى هو الله ، فالله لا يصل نفسه بالخليقة فى نقطة معينة أو محددة فى الزمان أو المكان ، بل فى علاقة كيانية مستمرة تهدف لتحرير الخليقة من اصلها العدمى .. بالـ " كلمة" .

و للخليقة " كلمات" خاصة بها Logio، لوغوسات  مخلوقة تمثل نقطة التقائها مع الألوهه و فكرتها و سببها ، و كل كلمات الخليقة متضمنة فى اللوغوس الابن الوحيد ، الذى هو غاية وجودها و مصدر خلقتها ، و هو المثال الأصلى archetype لكل الموجودات الذى يكسبها معناها بالإتحاد به و التحول على شبهه .

و لذلك يتجاوز هذا السؤال مستواه الإمبريقى أو التجريبى ،و  يطرح نفسه فى اتصاله الجذرى مع وجودالثالوث مصدر الخليقة و قضية وجود الإنسان داخلها ، بمعنى أنه سؤالاً ثيولوجياَ و وجودياً ، و بتعبير مسيحى أقصى ، خريستولوجياً بإمتياز .

   ...   
     الإشكالية التى يطرحها العلم بمنظوره الضيق هو اختذال الإنسان إلى عقل و فكر ، و العقل يحلل و يقسم و لا يتمثل ، و هو بذلك يحمل فى طياته جذر خبيث فى الإنفصال المرير عن الكون و أصل الحياة ، ففى  حين يمكن للعلم أن يصف ميكانيزمات الظواهر و قوانين حركتها إلا أنه لا يمكن أن يحل معضلة انفصال الإنسان عن الطبيعة وجدانياً و وجودياً بعد أن كان متوحداً معها ( جنة عدن فى المفهوم اليهودى – المسيحى ) ، إذ أن إدراك الإنسان لذاته يطرح عليه ضرورة الإجابة على سؤال ارتمائه فى عالم منفصل عنه تماماً فى غرائزه و قوانينه الحتمية ، عالم يفهمه و لا يخضع له ، و لذلك يشعر بالغربة عنه و للاإنتماء إليه و اضطراره إلى محاوله استغلاله ليستمر بقاءه .

و العلم  عندما يأخذ هذا المنحى الاختذالى للإنسان و الطبيعة ، إنما يمنع الإنسان من أن يدرك نفسه بوصفه "إنساناً كلياً حقيقياً" فى حضوره الكامل فى الكون الذى يتحد به و يتوحد معه ، هذا لحساب كونه "دماغاً " !،  الخطأ الأقصى هنا أنه يحيل الوجود إلى مفهوم بل و إلى تجربة تخضع للتحليل و الفصل و التقسيم ، هو تشريحى و ليس اتحادى ، عملى و ليس تأملى ، جزئى و ليس كلى ، منفصلاً و موضوعياً و لا ذاتياً على الإطلاق ، ينظر إلى القضية من الخارج و يضع لها حلول لاشخصية فى تمام التجريد و الحسية ـ و هو بذلك يسهم فى تعميق المشكل لا حله !

فى تلك النظرة يفقد الكون ابداعيته و يتحول إلى مجال وقائعى لمجموعة من الأشياء بدلاً من مساحة يدرك المرء فيها وجوده القادر على تحقيق الخليقة داخله و الانتماء إليها كجزء غير قابل للإنفصال عنه ، و بالتمام ..  لا يمكن أن يقوم حل ذاك الإشكال فى تفكيك العالم و دراسته علمياً .

...
عودة مرة أخرى للسؤال ... دعونا نناقش مفهوم "العــدم"  ...

إن كان العدم بالنسبة للخليقة العامة هو عدم مطلق nihilo ، الذى هو اللاشىء التام ، إلا أنه ينقلب بالنسبه للإنسان عدماً وجودياً يجد صورته فى السؤال الذى سبق و بيناه عن كونه ملقى فى الكون و متجاوزه فى آن ، و تلك الحالة من الانفصال (السقوط مسيحياً ) تُمحى على أعمق مستوى فى الاتحاد السرى بين الإنسان و الخليقة فى عملية التأمل الحر و الاستبطان الداخلى لمعناها ، أى النفاذ إلى جوهرها بدلاً من طريق العقل الضيق الذى يفككها و الذى لا تتأصل فيه طبيعياً إمكانية حل مشكلة الانفصال تلك .

و يتم ذلك حينما يدرك الإنسان نفسه فى شموليته بوصفه كوناً microcosm ، و جدلاً من كل الخليقة ، يحمل جميع عناصرها ، و يمثل التعبير الأكثر تجلياً عن وعيها و شخصانيتها ، و فى تلك الكلمة الأخيرة تحديداً يقع كل معنى الخليقة بالنسبة للإنسان فهى مدعوه فيه أن تكون شخصاً يدخل فى علاقة إرادية حرة باللامخلوق ، و هذا لن يتم إلا فى رأس الخليقة و كاهنها ، الإنسان الذى يتولى القيام بتلك الخدمة الإلهيه ، الذى هو  مدعو أن يجمع الكائن المخلوق كله فى ذاته ، و أن يحيل الأرض كلها إلى فردوس ، ثم يهب نفسه لله بكليته بالدخول فى صيرورة التأله و الإتحاد به .

تلك هى الحركة الثانية التى قام بها الله لخلاص الخليقة ، فبعد إيجادها من العدم ، يكسبها "الوعى" و "الشخصية" فى الإنسان صورته
[ أن الشخص ليس جزءاً و لا يمكن أن يكون جزء من أى "كل" ، بل يجب أن يكون كوناً كاملاً ، فقط الشخص يكون قادراً على امتلاك المحتوى الكونى ، و هو فى تلك الحالة من الوحدانية ، كوناً كاملاً مُحتملاً ]                                       
 نيكولاس برديائف

فى ذلك تتجلى العملية الإبداعية فى تقديس الإنسان للخليقة و إضفاء عليها طابعها الألوهى الكامن فيها و المتمثل فى حركتها الدينامية بانجذاب دائم نحو اللامحدود ، حيث تتحقق وحدتهما الإفخارستية السرية على نحو كلى. تلك الشركة و إن كانت مؤسسة على المفهوم السرائرى للإفخارستيا ، إلا أنها تتحقق ليس فقط بالتأمل بل أيضاً بإلتزام الإنسان بالعمل على تخليص الخليقة الدائم من الموت و الفساد [لأَنَّ الْخَلِيقَةَ نَفْسَهَا أَيْضًا سَتُعْتَقُ مِنْ عُبُودِيَّةِ الْفَسَادِ إِلَى حُرِّيَّةِ مَجْدِ أَوْلاَدِ اللهِ. فَإِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الْخَلِيقَةِ تَئِنُّ وَتَتَمَخَّضُ مَعًا إِلَى الآنَ. ]
( رو 8 : 21 / 22 )

        أى أن الإجابة المسيحية على سؤال العدم تأخذ المسلك المستيكى بعيداً كثيراً عن المنطق العلمى ، حلاً لا معقولاً .. أليس كذلك ؟! .. ألا يعتبر هذا امتداداً للفرضية التى تطرحها الدراسة عن لامعقولية العلم ذاته ؟ و هل تتجاوز تلك النظرة رؤية بعض العقليات المسيحية التفكيكية الضيقة التى  ترفض كل انسحاب مسيحانى على الكوزمولوجيا ؟
...

ماذا عن الوجود الخريستولوجى للخليقة ؟
تبلغ قمة وعى و معنى الخليقة فى الإتحاد بالمسيح ، تجسد اللوغوس و تدبيره فى الموت و القيامة لا تنظر لها المسيحية على أنه عملاً يخص خلاص الإنسان وحده ، طالما أقرت منذ البداية بمفهومها الثيولوجى الخاص عن الخليقة بوصفها صيرورة إلهيه داخل قلب العدم ، تلك الحركة الثالثة و النهائية فى خلاص الخليقة ، حينما صارت صرخة اللاشىءالصغيرة كياناً كاملاً متحداً باللامخلوق عند اقتبال الكلمة فى ذاتها بواسطة العذراء ، لتهزم الفساد فى الصليب و تتجدد بالقيامة ...

 ذات المادة التى يحللها العلم تجريبياً ، نؤمن أنها متأله فى المسيح ثيولوجياً ... لا يمكن أن يقوم التعارض بين مستويي الرؤيا .. طالما حافظنا على إيماننا السرى بكل الأشياء فى المسيح .. التجسد هو حضور الجوهر العميق لكل الأشياء و هو الذى يكشف الحقيقة الكامنة وراءها جميعاً و هو متجاوز لأى عملية تفكيرية يقوم بها العقل من شانها تدمير الوحدة غير المنفصلبين مظاهر الحياة و الوجود فى ذاته .. هكذا نؤمن !

...

الخليقة وجوداً خريستولوجياً بالأساس لم ينكشف إلا فى وجه المسيح ...
 قد دُعيت لتكون اللوغوس من قلب العدم ...
 مسيحاً يتحرك نحو أصله فى صيرورة و جدل و صراع لا ينتهى .

 ____________________

 
كانت تلك مشاركتى المتواضعة فى جانب من النقاش الثيولوجى المُضمّن فى كتاب
 " العلم اللامعقول / إشكالية العلاقة بين الدين و العلم " للـ د. صموئيل طلعت ،و الصادر عن كنيسة مارجرجس سبورتنج / الأسكندرية - مصر  .

No comments: